لا بأس أن يكون هناك فيلم يمثل تونس هو العمل الأول لمخرجته
الشابة، مريم جبور، في مسابقة مهرجان دولي كبير مثل مهرجان برلين السينمائي
في دورته الـ74. لكن المشكلة أن يصمد الفيلم بين أفلام المسابقة، اعتمادا
على مستواه الفني الجيد وحده، لا على تسويق حكاية من تلك الحكايات التي
تجذب أنظار السياسيين وأجهزة الإعلام في الغرب، عن ذلك الجزء المليء
بالمشاكل في جنوب المتوسط.
ولكن السؤال الأساسي يظل: هل كان فيلم “ماء العين” (وله
عنوان فرعي باللغة الإنجليزية هو “إلى من انتميTo
Who I Belong To?”
عملا جديدا في موضوعه؟ والأهم بالطبع، هل كان جديدا في
أسلوب معالجته لموضوعه بحيث يمكن للمشاهدين في العالم أن يصبحوا أكثر وعيا
بالقضية التي يطرحها عن ذي قبل، أو حتى أكثر قربا من الفكرة من خلال صياغة
سينمائية حديثة تجعل الموضوع مفهوما؟
من دون أدنى تردد، الإجابة بكل أسف هي: كلا!
ولكن ما هو الموضوع؟
قرية تونسية صغيرة. أسرة مكونة من الأب “إبراهيم”، والأم
“عائشة”، وابنهما الصغير “آدم”. لكن يغيب عنها الابنان الأكبر وهما مهدي
وأمين. فقد ذهبا الى سورية حيث التحقا بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في
الرقة. لكننا لا نشاهد شيئا من الرقة الآن، وربما لن نشاهد سوى أضغاث
أحلام.. وفجأة يعود الإبن الأكبر “مهدي” ملتحياً وبصحبته ما نفهم أنها
زوجته “ريم” المنتقبة التي سنعرف أنها سورية وليست مسلمة أصلا، وأن كل
أفراد عائلتها قتلوا على أيدي مقاتلي التنظيم الإرهابي ثم قاموا بسبيها.
سيمضي وقت طويل جدا من زمن الفيلم قبل أن نعرف هذه
المعلومات من خلال ما يرويه مهدي لأمه، لكنها لا تفسر شيئا. فالنصف الأول
من الفيلم يتركز على لوعة الأم التي تعرف أن ابنها الثاني أمين، قُتل هناك،
ليس في القتال ضد (الكفار)، بل على أيدي أعضاء التنظيم الإرهابي بعد
محاولته الفرار. أما مهدي فقد نجح في الفرار. لكننا لا نعرف كيف، أما
السبب، فهو أنه لم يجد الأمور هناك كما تخيلها. ما الذي كان يتخيله، وما
الذي وجده. ليس مهما أن تسأل أو تعرف!
لوعة الأم تزداد وتزداد معها محاولتها كبح جماح زوجها
(إبراهيم) الذي يصر على طرد مهدي وزوجته خشية أن يجلب وجودهما المشاكل لهما
خصوصا وأن هناك شخصا آخر هو شاب يدعى بلال، لا نفهم بالضبط من هو، يظل
يتردد على العائلة، يوزع الحلوى على الأطفال، يقال إنه كان صديقا في الماضي
لكل من مهدي وشقيقه، وربما كان أيضا- كما يشير الفيلم في اقتضاب وغموض، على
صلة بالشرطة، أي مرشد أمني. وهو يتعهد لعائشة بأنه لن يشي بأمر رجوع مهدي.
تتمكن عائشة من إقناع زوجها بعدم طرد مهدي لأن زوجته “ريم”
حامل. لكن ريم لا تتكلم ولا تبدو عليها أي أعراض للحمل، وكل ما نراه منها
فقط عيناها الخضراوان اللتان تحملقان من داخل الثقبين الموجودين في النقاب.
وحتى عندما ترى الأم في أحد كوابيسها أنها تقدم لها لفة مخضبة بالدم لنفهم
أنها تعرضت للإجهاض، لا نتأكد لأننا لا نرى أي أثر لما بعد الإجهاض. فكلما
طرق الفيلم فكرة محددة أو اقترب منها على استحياء، سرعان ما يقفز ويفر منها
إلى الغموض والاصطناع الشكلي والغرق في الأحلام والتداعيات البصرية الغامضة
التي تزيد من تعقيد السرد وتفسد الموضوع.
من الواقعية الطبيعية، إلى الخيال، ومن الواقع إلى الأحلام
والكوابيس التي تتراءى للأم، يظل الفيلم يقفز خارج أي سياق واضح، بل يجعل
الموضوع نفسه يزداد غموضا، ويتكرر مشهد ظهور الحصان داخل غرفة عائشة حيث
يقف أمامها مباشرة وكأنه يريد أن ينقل لها رسالة، لكننا لا نعرف ما الرسالة
وما الرمز، فالسياق كله يخضع لمزاج المخرجة وشعورها الخاص بالموضوع، لا
لمنطق السرد الذي يقصد منه توصيل الفكرة إلينا.
الفيلم بأكمله لا يتجاوز فكرة أن داعش سيئة (ما الجديد)،
وهم ينكلون بغير المسلمين (بل وبالمسلمين أيضا بالطبع!!)، ويقتلون
المسيحيين السوريين ويغتصبون بناتهم كما حدث للفتاة ريم، وعندما تحاول
الهرب يعتقلونها وينكلون بها ويضربونها حتى الموت. ومشهد الفلاش باك الذي
يستعيد فيه مهدي ما وقع للفتاة، يؤكد بصريا موتها، لكننا نعرف من قبل أنها
لم تمت بل عادت إلى القرية مع مهدي. هل تزوجها؟ هل أعتقها منهم قبل أن
تفارق الحياة” ليس مهما أن تعرف!
هناك لقطات كثيرة ثابتة، تستغرق اللقطة الواحدة منها نحو
دقيقة كاملة على الشاشة. لقطة للزرع الأخضر، لقطة لظلام الليل. لقطة لأشكال
غامضة لا تتبين منها شيئا. وهناك دون شك تكوينات جميلة في الصورة، لكنها
تكوينات مقصودة في حد ذاتها، وشريط صوت مثير، لكن هذا لا ينقذ الفيلم من
الهبوط.
اللقطات التجريدية الطويلة تجعل الإيقاع يهبط بل ويضطرب
أيضا بسبب الانتقالات التي تشوش وتشتت الذهن وتصرف المشاهد عن متابعة
الموضوع وتعيق تطوره الطبيعي. وهي مشكلة مونتاج، لكنها أساسا، مشكلة إخراج
لأن هذا ما تريده المخرجة. أن تقتل إيقاع فيلمها لكي تضفي عليه طابعا
سرمديا خاصا ولكن، في الفراغ. فالولع بالشكل في حد ذاته كفيل بإفساد أي
فيلم.
أهم ما يشغل بال المخرجة هنا ليس الموضوع بل بذل كل ما
يمكنها أن تشوش به على الموضوع، من خلال التحذلق الشكلاني، واختلاق مشاهد
خارجة تماما عن الفيلم وعن الموضوع السياسي بالضرورة الذي لا يتم إشباعه أو
تقديمه من زاوية جديدة بخلاف أن العائلة تعاني وخصوصا الأم ولكننا لا نفهم
سر هواجسها وكوابيسها حتى بعد عودة ابنها الأكبر. صحيح أن الابن الثاني
مات، لكن هذا الموت لا يبدو أنه الدافع لأزمتها النفسية.
المخرجة التي تجرب في فيلمها الروائي الطويل الأول تقول إن
فيلمها ليس عن داعش بقدر ما هو عن لماذا يذهب البعض في هذا الاتجاه، أي ما
الذي يدفعهم للالتحاق بتنظيمات العنف. ولكن المشكلة أن المشاهد يخرج بعد
مشاهدة فيلمها أكثر جهلا بالسبب عما كان من قبل.
إن فيلم “ماء العين” نموذج للفيلم “الوصفي” الذي لا يقترب
من موضوعه بل يظل يبتعد عنه كلما بدا أنه سيقربه، ويبقى فيلما وصفيا، يصف
حالات مبعثرة من هنا وهناك مشاعر أم خائفة مرعوبة حتى بعد عودة ابنها
الأكبر ربما بسبب خشيتها من القبض عليه، وإن كنا لا نعرف أصلا كيف تمكن من
دول البلاد مع زوجة أو رفيقة منتقبة (لسنا متأكدين!)؟ هل تسلل عبر الحدود؟
كيف؟ ليس مهما أن تعرف في فيلم من هذا النوع.
مريم جبور مغرمة كثيرا بأسلوب الواقعية السحرية، وهي تحاول
أن تتصنع وتفتعل كثيرا ما يمكن أن يقرب فيلمها من هذا الأسلوب لكي يجد له
صدى عند نقاد الغرب، ولكن من دون جدوى، فطبيعة الموضوع كانت تفرض أسلوبا
آخر، يوضح ويبين ويخلق علاقات حقيقية بين الشخصيات في سياق واقعي، ولا يغرق
في الاصطناع وإغراق المشاهد في الصور التي تجعل الموضوع يصبح أكثر انغلاقا
وصعوبة، وتدفع أي متفرج عاقل في العالم إلى طرح عشرات الأسئلة: كيف،
ولماذا، وما السبب، وما الهدف، وإلى أين؟ وكلها أسئلة منطقية وطبيعية، لكنه
لن يحصل أبدا على إجابات، وكل ما سيحصل عليه هي مجموعة من التهويمات والصور
العابرة المتكررة كثيرا، للكوابيس والأحلام، التي لا تغذي ولا تضيف الى
الفيلم سوى المزيد من التشتت والتبعثر.. بكل أسف طبعا! |