(شاى أسود).. فنجان بارد من ساحل العاج إلى الصين!!
طارق الشناوي
ساعات قليلة تفصل ما بين متابعتى لتكريم المخرج العالمى
الكبير مارتن سكورسيزى 81 عاما، بمنحه (الدب الذهبى الفخرى) عن مجمل عطائه
الممتد لأكثر من نصف قرن، وبين مشاهدة الفيلم الموريتانى (شاى أسود) لعبد
الرحمن سيساكو، الذى يمثل السينما الإفريقية والعربية بالمهرجان.
سكورسيزى هو الورقة الرابحة فى برلين وصاحب البريق الأعلى،
حيث خفت فى هذه الدورة حضور النجوم العالميين، إلا فيما ندر، على المقابل
ازداد وهج هذا المخرج الذى يشكل فى التوثيق العالمى للسينما منذ مطلع
السبعينيات أحد أهم العلامات التى صنعت عالما سحريا، ولا يزال فى الملعب
متألقًا ومبدعًا بل وأيضا مرشحًا للأوسكار هذا العام بين الأفضل.
ساعات محدودة فقط بين هذا التكريم وعرض فيلم (شاى أسود)
لعبد الرحمن سيساكو أحد أهم عناوين الإخراج الإفريقى والعربى الذى يمثل
موريتانيا بالمهرجان داخل المسابقة الرسمية ومن ثم فهو أيضا يمثل العرب،
ولنا فى المسابقة الرسمية أيضا كعرب الفيلم التونسى (ملىء العين) لمريم
جوبير.
استوقفنى فى محاضرة سكورسيزى بعد تكريمه أن المخرج الأمريكى
الذى يعيش بكل شباب فى بداية عقده التاسع، لا يزال يتطلع لكى يزيد حصيلته
من المعرفة، فهو لا يتوقف عن المتابعة لكل ما يقدم عالميا، وقبل نحو خمسة
عشر عاما منح جزءا كبيرا من طاقته وأيضا أمواله، لمشروع يخدم البشرية، وهو
ترميم أهم الأفلام فى العالم للحفاظ على التراث السينمائى المهدد
بالانزواء، ووقع اختياره على الأفلام الأهم فى التاريخ، ومن مصر تم ترميم
الفيلم الأيقونى لشادى عبدالسلام (المومياء)، وعرضت النسخة التى تم إنقاذها
فى مهرجان (كان)، وقال سكورسيزى وقتها عند تقديمه للفيلم، مشيدًا بإبداع
شادى، إنه اخترع أبجدية خاصة للفيلم المصرى وكأنه يعيد الكتابة سينمائيا
بلغة خاصة.
وفى المحاضرة التى ألقاها قبل أيام بمهرجان (برلين) توقفت
كثيرا أمام إجابته لسؤال إذا كان الصغار يتعلمون من الكبار فهل من الممكن
أن يحدث العكس ويتعلم الكبار من الصغار؟ أبدى المخرج الكبير سعادته بالسؤال
فهو بالفعل يتعلم من الجدد وأشاد بالفيلم الكورى (حيوات سابقة) للمخرجة
سيلين سونج وسبق أن عرض فى برلين الدورة الماضية وتناولته بمقال فى تلك
المساحة.
الكبار لا يتوقفون على التأمل من الكبار الذين سبقوهم،
وأيضا من الجدد الذين جاءوا بعدهم، وهو ما دفع سكورسيزى للإشادة بتلك
المخرجة، التى أمسكت بفكرة تبدو للوهلة الأولى تقليدية ومتعارف عليها،
عندما نلتقى بأشخاص، بعد مرور زمن ونكتشف أنه كان بيننا حيوات سابقة، الخط
الدرامى العام امرأة حائرة بين رجلين فكرة ظاهريا تقليدية، ولكن المعالجة
تكمن فيها كل طاقة الجمال الفنى، الأول عرفته قبل 25 عاما وتلتقى بالصدفة
هى وزوجها بهذا الرجل الذى كان هو حبها الأول وهاجر على أمريكا، ولم يكن أى
من الرجلين يعرف تفاصيل الحكاية.
الدرس هو طزاجة المعالجة وعصريتها وبالمناسبة الفيلم الكورى
مرشح هذا العام للحصول على الأوسكار، الخطوط الدرامية العامة، رأيتها من
قبل ولكن المعالجة الدرامية المقصود بها زاوية الرؤية هى المختلفة، وهذا هو
بالضبط ما افتقدته فى الفيلم الموريتانى (شاى أسود) لعبد الرحمن سيساكو
الذى حقق قبل 10 سنوات نجاحًا استثنائيًا بفيلمه (تيمباكتو) واقترب من
اقتناص الأوسكار ولم يحصل عليها إلا أنه توج بـ(سيزار) التى تعد بمثابة
(الأوسكار) الفرنسى.
الكل يترقب من بعدها هذا المخرج، شاهدت له أيضا عددا من
أفلامه ولديه (تيمة) درامية متكررة وهى التوقف عند معاناة الإفريقى مع
الآخر، وهو ما تكرر مع (شاى اسود) عندما تسافر الفتاة الحسناء (آية) ليلة
زفافها من ساحل العاج إلى الصين لتعمل هناك بتجارة الشاى الأسود، وهو
المشروب الذى أجمع العالم على حبه وبكل الألوان والطقوس، مع اختلاف الدرجة،
وهنا تبدأ قصة حبها للرجل الصينى.
المخرج وهو أيضا الكاتب يبرر اختيار الصين لأنه لم يكن يريد
أن يكرر ما نراه فى أغلب المعالجات الدرامية، حيث إن أوروبا او أمريكا هى
الهدف، لكل القادمين من إفريقيا أو العالم الثالث، إلا أنه قرر أن يطل على
العالم الآخر من خلال الصين لنعايش قصة حب تتناقض فيها الثقافتان الإفريقية
والصينية حينا وتتوافقان حينا، إلا أن ما يجمعهما المشاعر العاطفية.
السيناريو انطلق فى البداية بقوة الدفع ثم لم يجد ما يضيفه
بعد ذلك ووصلنا فى النصف الثانى من الفيلم إلى مرحلة الملل.
يعيش المخرج الذى يحقق نجاحًا استثنائيًا فى عمل فنى تحت
سطوة الفارق بين التوقع والواقع، وتلك هى بالضبط ما يمكن أن تصف به سيساكو
بعد أن أنجز فيلمه الأهم (تمبكتو) محققا سقفا عاليا من الإبداع، وتوج أيضا
بالجوائز فى العديد من المهرجانات، ولهذا فإن ما جاء بعده يصطدم بهذا
الحاجز وهو التوقع وتتردد مقولة وماذا بعد؟ وغالبا يغتال التوقع الواقع،
وهكذا يظل المبدع فى حالة ترقب بسبب أشواك النجاح التى أنجزها عمل فنى قدمه
وسط معايير وظروف مختلفة بينما الناس تترقب دائما شيئا أبعد.
الفيلم الموريتانى أشبه بفنجان شاى أسود بارد يقدم من (ساحل
العاج) إلى (الصين)، فلا تشعر بحلاوة المذاق!!
مساء اليوم نحو الثامنة بتوقيت مصر، تعلن رئيسة لجنة
التحكيم الممثلة الكينية الأصل المكسيكية الجنسية لو بيتا نيونجو جوائز
(برلين)، وأعتقد أن الفيلم الإيرانى (كعكتى المفضلة) إخراج مريم مقدم
وبهتاش صناعى، لن تخلو منه قائمة الجوائز وبينها (الدب الذهبى) وأيضا أحسن
ممثلة ليلى فرهدبور، ليتجدد الحديث عن تدخل العالمين السياسى والفنى فى
مهرجان برلين، وتلك حكاية أخرى نتناولها بالتفصيل فى تلك المساحة بعد
يومين!!. |