ملفات خاصة

 
 
 

ملفات فينيسيا (11):

كوميديا إلهية من إيران

أمير العمري- فينيسيا

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثاني والثمانون

   
 
 
 
 
 
 

أصبح من الصعب أن تغيب السينما الإيرانية عن أي مهرجان سينمائي كبير، بعد أن فرضت نفسها بقوة من خلال براعة مخرجيها، وتميز أعمالهم بسيناريوهات مشغولة جيدا، وجرأتها في النقد الاجتماعي والسياسي، من خلال أساليب تتميز بخصوصيتها.

في قسم “آفاق” (أوريزونتي) بالدورة الـ82 لمهرجان فينيسيا السينمائي، عرض فيلم “كوميديا إلهية” Komedie Elahi للمخرج علي عسكري الذي كان قد واجه مشاكل عديدة مع السلطات في بلاده بعد عرض فيلمه السابق “آيات أرضية” في مهرجان كان عام 2023.  وهو الفيلم الذي اشترك في إخراجه مع زميله ورفيق عمله عليرضا خاتمي، فقد منع من العمل لعدة أشهر وصودرت بعض ممتلكاته من شقته في طهران.

في فيلمهما السابق معا، “آيات أرضية” كانت القصة الأخيرة (من بين 11 قصة) تنعى عمل المخرج السينمائي في إيران ومعاناته مع الرقابة، وتبدو كما لو كانت تعليقا على ما حدث للمخرج عليرضا خاتمي” نفسه الذي تعرض فيلمه السابق للرفض من جانب الرقابة.

إننا نرى مخرجا شابا، يريد التصريح بتصوير فيلم عن والدته التي تتعرض للضرب على يدي والده، فيطلب منه مسؤول الرقابة “حذف” 16 صفحة من السيناريو، معترضا على تفاصيل كثيرة في السيناريو، وعلى كثير من الشخصيات والمشاهد تحت ذرائع مختلفة تشي بحالة البارانويا التي تنتاب الرقباء ضد أي شيء يتصورون أنه يمكن أن يكون مخالفا للاستقامة الدينية أو السياسية. إنه يعترض مثلا على أن ينتهي الفيلم بقتل والد المخرج، بل إنه يطلب منه في وقت ما أن يتخلى عن مشروع فيلمه ويصنع فيلما عن احدى قصص القرآن، وعندما يبدي المخرج موافقته ويختار قصة سيدنا يوسف ويقول إنه يمكن أن يصورها كما جاءت في القرآن تماما، ينزعج الرقيب، وينتهي الأمر بأن يأخذ المخرج في انتزاع صفحات عديدة من السيناريو، يلقي بها في سلة القمامة، بحيث لا يبقى سوى بضع صفحات لا تصلح لعمل أي فيلم!

في فيلمه الجديد “كوميديا إلهية”- الذي كتبه مع خاتمي- يمد علي عسكري هذه الفكرة على استقامتها ويخصص فيلمه بأسره- للتعليق الساخر والقاسي والمباشر على تدخل الرقابة في إيران في الأفلام، ومحاولة فرض نوع معين من أفلام الترفيه على المخرجين، بحيث يبتعدون عن تصوير الواقع في أفلامهم.

هنا، ومرة أخرى يستخدم علي عسكري أسلوب الواقعية التسجيلية أو الدوكيو-دراما، ليروي قصة وقعت فصولها على نحو ما، باستخدام اثنين من الممثلين اللذين يقومان بدوريهما الحقيقيين في الواقع، هما المخرجان- التوأم بهرام آرك، وبهمن آرك. الأول، أي بهرام هو الشخصية الرئيسية في الفيلم، وهي شخصية مخرج سينمائي يصنع أفلاما تنتمي إلى سينما الفن، ويرفض السينما التجارية الترفيهية، لكن الرقابة الإيرانية تمنع عرض أفلامه. وهو يسعى بشتى الطرق للحصول على تصريح بعرض فيلمه الجديد، وعندما يفشل في ذلك، يسعى لعرض الفيلم بشكل غير رسمي في تحد مباشر للرقابة.

المشهد الأول في الفيلم (وهو مشهد سيتكرر كثيرا ولو في سياق مختلف فيما بعد) نرى كلا من بهمن يركب خلف منتجة فيلمه وبطلته المفضلة (في الحقيقة) أي الممثلة “صدف عسكري” ابنة شقيقته في الحياة، التي تقود دراجة نارية وردية اللون، تتأرجح يمينا ويسارا في شوارع طهران بينما تضع فوق رأسها الخوذة التي يرتديها من يقودون مثل هذه الدراجات، ولن نراها بعد أن تخلع هذه الخوذة، ترتدي الحجاب المفروض على النساء في إيران، بل قبعة صغيرة، كما ترتدي سراويل واسعة بعض الشيء وليس “الشادور” التقليدي. وفي مشاهد عديدة نراها في شعرها الأزرق من دون غطاء للرأس. أي أننا من المشاهد الأولى وتحت وقع الإيقاعات الموسيقية التي توحي بأننا أمام عمل تهكمي ساخر، يتحدى عسكري تماما التقاليد الرقابية: امرأة يركب وراءها رجل يمسك بكتفيها، لا ترتدي الحجاب، تقود دراجة نارية، تتأرجح بها أمام السيارات من خلفها، وكأنها تتحدى الجميع في وضح النهار.

المشهد الذي يدور بين بهرام والرقيب بعد ذلك، هو مشهد طويل، مصور بواسطة كاميرا ثابتة، وحوار لا نرى منه سوى بهرام، فنحن لا نرى الرقيب المتشدد المتزمت الذي يصر على رفض الفيلم بل نسمع صوته فقط: أنت في إيران، لماذا تصنع فيلما ناطقا باللغة التركية؟ فبهرام من الأقلية التركية الأرزية، ولا يجد غرابة في صنع فيلم ناطق بلغته الأم، في سياق سياسة احترام الأقليات والتعدد الإثني، لكن الرقيب يحتج، ويجادل، ثم يعترض على تصوير كلب في دور بارز يثير التعاطف في الفيلم، فالكلب غير مرحب به في الأفلام، ثم يتساءل: لماذا لا يصنع بهرام أفلاما ترفيهية تعجب الجمهور مثل شقيقه بهمن الذي أصبح أكثر شهرة منه، يعيش حياة مستقرة؟

يبحث بهرام بعد ذلك كيف يعرض فيلمه، لكنه سيقابل رجلا غامضا في “مقهى دانتي”، يبدي استعداده لأن ينتج له فيلمه شعبيا ويناقشه في السينما بحيث يبدو أنه مطلع على أعمال السينما الفنية لكن مع امتداد الحوار وسط تصاعد كتلة مرعبة من النيران بين وقت وآخر، ينفخها الرجل الذي يعد المشروبات في المقهى (الذي يبدو في الحقيقة أقرب إلى حانة غامضة) يتصاعد في الوقت نفسه غضب الرجل وتهديده المباشر لبهرام بالاعتقال إن خالف التعليمات وقام بعرض الفيلم من دون تصريح. وهو يلوح له أيضا بأنه تحت المراقبة الدائمة.

النيران تشير في الفيلم إلى الجحيم، أي جحيم دانتي، ولكن الكوميديا هنا عبثية تماما، ولن تنتهي نهاية سعيدة على غرار كوميديا دانتي. وكل الأماكن والشوارع والمقاهي التي نشاهدها في الفيلم واقعية تماما. ومع ذلك هناك ما يوحي بالغرابة في سلوك الشخصيات إلى حد العبث، بهرم مثلا يقابل رجلا يبدو متشردا، أمام مقهى، يحاول أن يقنعه بانه “نبي”، وأنه سيخرجه من أزمته الروحية ويرد إليه إحساسه بالسعادة. لا نعرف هل هذا الرجل مخرف، أم محتال، أم موفد من السلطة لمراقبته وتعقبه. لكنه ينتهي بالاستيلاء على قطعة من الكعك الذي يتناوله بهرام!

سيذهب بهرام يطلب مساعدة رجل يريد أن يصبح ممثلا، لكنه ممثل رديء سبق أن رفض بهرام قبوله، لكنه يمتلك قاعة عرض خاصة، وهو مدمن مخدرات لعين، ويتعين على “صدف” الآن أن تحصل له على بعض المخدرات من النوع الممتاز على سبيل الرشوة لاستمالته وإقناعه بعرض الفيلم من دون تصريح. كما يتعين على بهرام أن يمتدح قدراته التمثيلية ويعده خيرا..

وعندما يتم العثور على قاعة داخل قصر تمتلكه أرملة ثرية، تنفجر الأحداث في سورية، وتتم الإطاحة بنظام بشار الأسد، وتطغى التداعيات السياسية التي نشاهدها ويتابعها الجمهور على شاشة التليفزيون، على عرض الفيلم، كما لن تسمح السلطات أيضا بعرض الفيلم من دون ترخيص. وسينفجر جحيم من نوع آخر.

في الفيلم الكثير من المناقشات حول السينما ومفهوم الفن، وهل السينمائي يجب أن ينحاز لسينما الفكر والفن، أم أن دوره هو الترفيه عن الجمهور؟ وخلال الحوارات التي تدور بين بهرام وشقيقه بهمن الذي ابتعد عن سينما الفن واستسلم لإرضاء النظام وارتضى العمل وجني المال والعيش في منزل أنيق، تتردد أسماء كياروستامي وأرونوفسكي وسكورسيزي (بهرام يقول للرقيب إنه صنع فيلمه عن المسيح ناطقا بالإنجليزية لا الآرامية دون أن يعترض أحد) وجودار (الذي مازال بهمن يعرض ملصقا لصورته الكبيرة على جدار منزله) رغم ابتعاده عن السينما الفنية، وأحاديث عن الأفلام الرياضية مثل “روكي”، و”الأزرق أكثر الألوان دفئا” بمناسبة التعليق على لون شعر الفتاة صدف، و”الختم السابع” لبرجمان، بل و”آيات أرضية” أيضا.. وكلها إشارات تؤكد فكرة انحياز بهرام لسينما الفن، ورفض السينما التجارية. وفي نقاشه مع شقيقه بهمن، يعترف الأخير بأنه أحب السينما بسبب فيلم “ماتريكس” إلا أنه لم يعد يحبه الآن.

هناك أداء تمثيلي متميز وواثق كثيرا من جانب “بهرام آرك” بوجه خاص، الذي يتماهى مع دوره ويصبح الحوار الذي ينطقه كما لو كان قد تدفق تلقائيا، وتبدو كلمات حواره أقرب إلى “المونولوج” الاحتجاجي والتعليق الهجائي الساخر، منه إلى الديالوج.

يساند أداء بهرام، أداء شقيقه “بهمن”، وأداء ممثلته المفضلة “صدف عسكري”. ويتميز تصوير أمين جعفري بقدرته على اقتناص اللقطات الخارجية الجريئة وإضفاء أجواء واقعية فريدة عليها دون أي ارتباك، وتحقيق إضاءة غامضة خاصة داخل مقهى دانتي، ثم داخل قصر السيدة التي كان بهرام سيعرض فيلمه فيه، ما أن بدأ عرض الفيلم وظهر الكلب (دون أن نراه بل نسمع صوت نباحه فقط) إلا وانفجرت كلبة السيدة في النباح بحيث استحالت متابعة الفيلم.

فيلم “كوميديا إلهية” بيان هجائي شديد ساخر، ضد القيود المفروضة على حرية الإبداع والتعبير في إيران، وهو خطوة متقدمة في مسار مخرجه، لا نعرف بوضوح، كيف أنتج، وهل صور بشكل طبيعي في طهران؟ وهل سيسمح بعرضه في إيران؟   

لا توجد معلومات واضحة عن أماكن التصوير، لكن الفيلم من الإنتاج المشترك بين إيران (شركتان إيرانيتان) مع شركات من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وتركيا. ويجب أن نستنتج أن جانبا من تصوير الفيلم- على الأقل- دار في إيران.. وهو كثيرا ما يحدث وتتغاضى عنه السلطات، ثم تمنع عرض الفيلم نفسه بعد ذلك، وإن تتركه يُعرض في الخارج بحيث تصبح إيران ممثلة باستمرار في مهرجانات السينما الدولية.

 

موقع "عين على السينما" في

10.09.2025

 
 
 
 
 

الأسد الذهبي لـ"أب أم أخت أخ": عودة جيم جارموش إلى سينماه الأصلية

فينيسيا/ محمد هاشم عبد السلام

في أول مشاركة له في "مهرجان فينيسيا السينمائي"، بدورته 82 (27 أغسطس/آب ـ 6 سبتمبر/أيلول 2025)، فاز الأميركي جيم جارموش بجائزة الأسد الذهبي عن فيلمه الرائع "أب أم أخت أخ"، المُنجز بعد انقطاع عن الإخراج ستة أعوام. الجائزة هذه تتويج لمسيرة أحد أبرز المخرجين المستقلّين في تاريخ السينما الأميركية الحديثة، منذ انطلاقته في ثمانينيات القرن 20، بأفلامٍ مغايرة كرّسته صوتاً سينمائياً فريداً، يصنع أفلاماً تنبض بالبساطة والسهولة والعادية، لكنّها عميقة ومؤثّرة، وذات بصمة أسلوبية فريدة وهادئة، وحوارات رشيقة ومُكثّفة ومُقتضبة، تهتمّ بالشخصيات والحياة الهامشية أولاً.

في جديده، يعتمد جارموش على بصماته الإخراجية الفريدة، المميّزة أغلب أفلامه الجميلة، تحديداً منذ "أغرب من الفردوس" (1984)، وإنْ بتنويعات طفيفة أحياناً، تذكّر كثيراً بجارموش القديم وأسلوبه اللافت، بعيداً عن أفلام الوسترن، كـ"رجل ميت" (1995)، أو الإثارة والجريمة، كـ"الكلب الشبح" (1999) و"حدود السيطرة" (2009)، وأفلام الزومبي، كـ"العشّاق فقط يظلّون أحياء" (2013) و"الموتى لا يموتون" (2019).

هنا، يتجلّى أسلوبه في عودته إلى أفلامه ذات القصص المنفصلة، إذْ ينقسم "أب أم أخت أخ" إلى ثلاث قصص، تجري أحداثها في ثلاث دول. يحضر أيضاً التجريد الجارموشيّ الفريد للقصص والأحداث، جاعلاً الدراما في أقصى حالاتها تقشّفاً، ومحافظاً على برود الإيقاع وهدوئه، لا بُطئه. كما يبرز تفضيله الدائم لتجريد الكادر واللقطات من كلّ ما يحول دون التركيز على الشخصية والحدث والحوارات البسيطة المتقشّفة، فالثانوي لا وجود له. لذا، لا يولي اهتماماً كبيراً بالاشتغال على جماليات الصورة وفنيّاتها، ولا الانشغال بحركة الكاميرا وتأطير لقطات مُبهرة.

بأسلوبه الفريد والذكي والعميق، يُبيّن جارموش كيف تحوّلت اللقاءات الأسرية، التي يُفترض بها أنْ تكون مُفعمة بالحرارة والدفء والحميمية والودّ، وتعيد وصل ما انقطع وفتر، إلى فخّ يسوده البرود والجفاء والرسمية والإجبار. يتجلّى هذا في عجز عن التواصل، وخلق لغة حوار إنسانية، لا تقع في الإحراج الناجم عن سيادة الصمت وتبخّر الكلمات، وتنأى عن الخراقة المتفجّرة عن عبثية الأسئلة الخاوية من المعنى، وغير المتطلّبة إجابات أصلاً. وكيف أنّ التواصل الإنساني بات مستحيلاً، وربما ثقيل الوطأة ومُزعجاً، حتى بين أقرب الناس.

تدور أحداث الفصل الأول (أب) في غابة أميركية، ذات شتاء. جِفْ (توم واتس) أبٌ غريب الأطوار، ينتظر زيارة ولديه البالغين، جِفْ (آدم درايفر) وإيملي (ماييم بياليك)، للاطمئنان عليه بعد انقطاع طويل. في الزيارة الرسمية القصيرة، الباردة وشبه الودية، يحاولان استكناه سلوك والدهما وحياته وروتينه الغريب. تبرز الكوميديا في تفاصيل صغيرة: احتساء نخبٍ معاً بأكواب مليئة بالماء، ارتياب من الحالة المادية المتيسّرة للوالد، بناء على ساعة يد رولكس فاخرة، يزعم أنّها مُقلَّدة. يسمح جارموش لهذه اللحظات بكشف ما تحت السطح، من دون ثرثرة وافتعال لمواقف وكلمات.

الفصل الثاني (الأم) ينتقل إلى دبلن: الأم (شارلوت رامبلينغ) كاتبة جدّية وصارمة مشهورة، تنتظر قدوم ابنتيها ليليث (كايت بلانشيت) وتيموثيا (فيكي كريبس). تتكرّر تقريباً المواقف السابقة نفسها، والجمل الحوارية الساخرة والحادّة، الباعثة على الكآبة. كما تحوم شكوك حول ساعة رولكس أيضاً. المُغاير قليلاً أنّ جارموش يجعل أغلب اللقاءات تدور أثناء الجلوس إلى طاولة الشاي، وتناول معجّنات.

القصة الأخيرة (أخت أخ) في باريس: يعود شقيقان، من أصول أفروأميركية، إلى منزل والديهما الراحلَين مؤخّراً، في زيارة أخيرة للشقّة الفارغة. هنا بعض الحميمية والدفء بين الشقيقين التوأم سكاي (إنديا مور) وبيلي (لوكا سابات). يبدو أيضاً أنّ أحدهما لا يتواصل مع الآخر منذ فترة. رغم هذا، يُعتبر الجزء الأخير الأقلّ بروداً ورسمية، إذْ يُلمَس دفء وحميمية وألفة. هل مَردّ ذلك إلى وفاة الأبوين، أمْ لأنّ العلاقات بين الأشقاء تكون، أحياناً، أبسط وأعمق من تلك التي مع الوالدين؟

أسئلة كثيرة تُثيرها القصص الثلاث. سواء على حدة، أو بوضعها معاً في إطار صورة أكبر. أسئلة لا تكتفي بدقّ ناقوس خطر انهيار العلاقات الإنسانية بين الأقرباء، ونهاية ما يُعرف بالمفهوم التقليدي للأسرة في بقاع جغرافية مُختلفة فقط، بل أيضاً رصد معضلة الإنسان، ومشاكل الحياة، والمتاعب والمتطلّبات تجاه الأسرة الكبيرة، وكيف أنّ صلة الدم ليست أبداً شرطاً للحبّ، أو لزاماً للمودة، أو ضرورة لمعرفةٍ وثيقة بالآخر، والتفاهم والتواصل الإنساني البسيط معه.

ربما تكون السينما البسيطة لجيم جارموش، أو البدائية بمختلف جوانبها، والخالية من المبهر والمؤثّر، مُملّة ورتيبة قليلاً عند البعض، خاصة، إذا أُضيف إلى هذا طبيعة المواضيع والشخصيات والأحداث. لكنّ قوّة الطرح، ورشاقة الحوار المكثّف وذكاءه، والأداء التمثيلي المنضبط، تُدخِل المتلقّي في حالة خدر لذيذ ومُبهج ومُشوّق، وتنزع عنه أي انزعاج من أسلوب المخرج وطبيعة مواضيعه.

 

العربي الجديد اللندنية في

10.09.2025

 
 
 
 
 

جوليان شنايبل: الهدف هو القصيدة

هوفيك حبشيان - المصدر: "النهار"

يعود جوليان شنايبل بعمل مجنون يعكس بعمق المأزق الإبداعي الذي يواجهه.

مع فيلمه الجديد "في يد دانتي"، الذي عُرض خارج المسابقة الرسمية في الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية السينمائي، يعود المخرج والفنّان التشكيلي الأميركي جوليان شنايبل، 73 عاماً، إلى الشاشة بعمل مجنون، من الصعب تصنيفه أو الإحاطة به ضمن قالب سينمائي مألوف. لكنه، رغم جنونه، يعكس بعمق المأزق الإبداعي الذي يواجهه هذا الفنّان الذي أذهلنا في الماضي بأفلام مثل "قناع الغوص والفراشة"، مع الإشارة إلى أن انطلاقته الدولية الأولى كانت أيضاً من على أرض "الموسترا" نفسها، قبل ربع قرن، مع "قبل حلول الليل" الذي نال حينها جائزة "الأسد الفضي“.

منذ "ميرال" (2010)، الذي روى فيه هذا اليهودي العلماني القادم من بروكلين حكاية ثلاث فلسطينيات عبر نصف قرن من الصراع والوجود، لم يقدّم شنايبل – وهو فنّان متعدّد المشارب – عملاً سينمائياً جديداً، باستثناء "على بوابة الأبدية"، الذي تناول فيه فصلاً من سيرة الرسّام الهولندي فنسنت فان غوغ

تعود بدايات شنايبل السينمائية إلى منتصف التسعينات، مع فيلم "باسكيا" الذي صوّر فيه حياة الفنّان الأميركي جان ميشال باسكيا، أحد أبرز رموز التعبيرية الجديدة والفن المفاهيمي في ثمانينات نيويورك، وأول فنّان من أصول أفريقية يحقق شهرة واسعة في هذا المضمار.

في جديده، اختار شنايبل أن يقتبس رواية نيك توشز "في يد دانتي"، بعد ست سنوات على رحيل مؤلفها، في مشروع عمل عليه طويلاً. غير أن النتيجة جاءت على شكل “كوميديا مأسوية”، كما يصفها هو، لكنها أقرب إلى فوضى سردية تُربك المتلقّي منذ اللحظة الأولى. السيناريو يبدو كمجموعة أفكار متناثرة تُلقَى في وجه المُشاهد بلا رابط واضح، والخلل في البناء حاضر منذ البداية، ويتفاقم تدريجياً ليشكّل "كتلة" تحجب الرؤية، مجازياً، عن جوهر الفيلم. هذه الصورة التعبيرية تختزل مأزق العمل: فمن الصعب وضع الإصبع بدقّة على مكامن العطب، لكن في المقابل، هناك بريق خافت يشير إلى الإمكانات الكبيرة التي كان يمكن أن يتفجّر منها فيلم مهم، لو حظي بنص أكثر إحكاماً.

المفارقة أن شنايبل استقطب أسماء كبرى لدعم مشروعه، من بينهم مارتن سكورسيزي وجون مالكوفيتش وآل باتشينو، غير أن مشاركاتهم كممثّلين، بدلاً من أن تضيف إلى الفيلم قيمة، تثير تساؤلات حول مدى جدوى حضورهم فيه. ولعل الأسوأ أن الفيلم تسرّب عبر الإنترنت قبيل عرضه، ممّا زاد الطين بلّة، وألقى بظلال إضافية على أزمته البنيوية والفنية.

يبدو أن شنايبل، الذي تألّق حين تناول شخصيات من عالم الفنّ البصري كباسكيا وفان غوغ، يفقد يده البارعة حين يتطرق إلى شخصية أدبية خالصة كدانتي، حيث الكلمة هي الأداة الوحيدة. فالتوازي الذي أراد رسمه بين دانتي ونيك توشز، بقي حبيس خياله ولم يبلغ الشاشة، لا إحساساً ولا تجسيداً.

رواية توشز التي صدرت قبل ثلاثة وعشرين عاماً، تقوم على سرد متواز لحكايتين تجريان في زمنين متباعدين. الأولى تقع فصولها في القرن الرابع عشر، في صقلية، حيث يظهر الشاعر دانتي أليغييري وهو يسعى إلى إتمام رائعته "الكوميديا الإلهية"، منطلقاً في رحلة باطنية محفوفة بالأسئلة. أما القصّة الثانية، فتأخذنا إلى خريف عام 2001، حيث نتابع نسخة متخيلة من الكاتب نيك توشز نفسه، وقد جعل من ذاته شخصية روائية، فيتورط في مغامرة غامضة تتعلّق بمخطوطة نادرة يُقال إنها النسخة الأصلية من "الكوميديا الإلهية"، بخط يد دانتي نفسه. الشخصية المزدوجة، دانتي وتوشز، يتقمّصها الممثّل أوسكار أيزك.

تتناوب فصول الرواية بين الماضي والحاضر، حيث تنكشف ملامح الرحلة الفكرية والروحية لدانتي، فيما يُستدعى توشز من عزلته بصفته خبيراً في أعمال دانتي من قبل زعيم مافيا (يؤديه جون مالكوفيتش) للتحقّق من أصالة المخطوطة، ليدخل في مغامرة عجيبة برفقة قاتل يُدعى لوي. هذه التركيبة الروائية الغنية، بتشعّباتها الزمنية والفكرية، هي ما حاول شنايبل نقلها إلى الشاشة، لكن بنتيجة أقل ما يمكن القول بأنها غير موفّقة.

في الجزء المعاصر من الفيلم، تنبثق تأمّلات توشز حول عالم النشر الحديث، حيث يُبدي سخطه على الممارسات الأدبية، مطلقاً نقده اللاذع تجاه صناعة الثقافة المعاصرة. تتخلّل النص إشارات إلى هجمات 11 أيلول، وفرقة الروك رولينغ ستونز، ممّا يمنح الرواية طابعاً شخصياً يراوح بين السيرة الذاتية والتعليق الثقافي، وهي خصائص يبدو أنها استهوت شنايبل، فوجد فيها مساحة مناسبة لتصفية حساب رمزي مع عالم النشر، وربما مع الصناعة السينمائية أيضاً، في ما يمكن تأويله كدعوة إلى حرية مطلقة في الخلق الفنّي، بمعزل عن الاعتبارات التسويقية والمؤسسية. لكن هذا الطموح ينقلب على نفسه. فالفيلم الذي يُفترض أن يكون تأمّلاً في معنى الفنّ، ينتهي به المطاف إلى كونه تمارين نرجسية فارغة من العمق، يحاصرها التقعّر في كلّ زاوية.

يحاول شنايبل أن يقيم توازياً رمزياً بين توشز ودانتي، بل يذهب إلى أبعد من ذلك حين يصرّح: "نيك هو دانتي". فالفيلم، بحسبه، ليس استحضاراً أدبياً ولا سرداً تاريخياً، إنما محاولة فنية لدمج زمنين في لحظة سينمائية واحدة، يكون الفنّ فيها الجسر الوحيد الممكن بين الماضي والحاضر.

في الملف الصحافي المرافق للفيلم، يكتب شنايبل: "لا شيء يمنع أن يكون طفل من عائلة عصابات هو التجسيد الجديد لدانتي. توشز لم يكن ليقول ذلك عن نفسه، أما أنا فأستطيع. أؤمن أن دانتي عاد إلى الأرض لأنه شعر بأن أحدهم عبث بعمله. ومن دون أن يدرك، صار نيك هو دانتي، وقد أُتيحت له الفرصة لتصحيح الأخطاء التي ارتكبها قبل 700 عام. سيدرك أيضاً أن المرأة التي تجاهلها في حياته السابقة، هي نفسها التي يقابلها مجدداً في القرن الحادي والعشرين، أثناء بحثه عن المخطوطة، بمساعدة قاتل مأجور يُدعى لوي، والذي كان البابا بونيفاس عام 1302. الفنّ يسعى إلى الكمال، بينما حياتنا قد تكون فاشلة، لكن كلّ ما هو خارج العمل الفنّي لا وجود له. الهدف هو أن نصبح نحن أنفسنا القصيدة. دانتي ونيك بلغا هذا الهدف. أما أنا، فلا أزال في الطريق“.

يختتم شنايبل حديثه عن "في يد دانتي" بتأمّل شخصي يحاول فيه تلخيص رؤيته للفنّ والزمن: "فيلمي عمل معاصر. كلّ عمل فنّي يجذبك إلى حاضره عندما تتأمّله. ونستون تشرشل قال إنه لا ينبغي أن تقرأ كتاباً وأنت في عمر يافع. أغلب الظنّ أن جميع الإيطاليين قرأوا "الكوميديا الإلهية" في المدرسة، لكنني أعتقد أنك إذا قرأتها في لحظة أخرى من حياتك، وأدركتَ ما كان يتحدّث عنه، فستجدها معاصرة للغاية. إذا تأملتَ لوحة لكارافاجيو اليوم، فإنها تدخلك في حاضرها. وهذا ما يمكن الفنّ أن يفعله، يمكنه أن يتجاوز الموت. الفكرة كلها هي أنه لا يوجد ماض ولا مستقبل. هناك فقط الحاضر الأبدي. لقد كنت دائماً أفكّر في تزامن الزمن، سواء في لوحاتي أو في أفلامي. الشيء الوحيد الذي أعترف به هو العمل الفنّي".

بهذه الكلمات، يضع شنايبل الفنّ خارج الزمن، ويجعله لحظة متجدّدة من الحضور، تتجاوز السيرة والحدث، ليصبح نوعاً من الخلود. كما يرى في فيلمه هذا انعكاساً شخصياً لمسيرته، وقد صرّح بذلك صراحةً قبيل تسلّمه جائزة "المجد للسينمائي" التكريمية في مهرجان البندقية:

"تتبّع مسار دانتي ونيك في هذا الفيلم يعكس بطريقة ما حياتي“.

قبل حضوره إلى "الموسترا"، استعاد شنايبل لحظة البدايات، حين خطا أولى خطواته في البندقية، في تشرين الثاني من عام 1976. من هناك، توجّه إلى بادوفا لزيارة كنيسة سكروفيني والتأمّل في لوحات غوتو دي بوندوني، قبل أن يعود إلى البندقية لمعاينة كنوزها البصرية. "لم يخطر في بالي يوماً أنني سأصبح مخرجاً سينمائياً، ناهيك عن أن يتم تكريمي بهذه الجائزة، وأن أُدرج إلى جانب العديد من صانعي الأفلام الذين أُعجبتُ بهم، لأنني في الحقيقة رسّام. لكن يبدو أنني صانع أفلام أيضاً“.

هكذا، في مفارقة شديدة الدلالة، يقدّم شنايبل نفسه كفنّان يعبر من الرسم إلى السينما، ومن الذات إلى الأسطورة، ومن دانتي إلى نيك توشز، في رحلة لم تكتمل تماماً، لكنها تقول الكثير عن الطموح والإيمان بالفنّ كقوة تتحدّى الزمن وتوقظ الحاضر الأبدي في داخلنا.

رغم انه بدأ مسيرته تشكيلياً، واشتهر في الأوساط الفنّية بلوحاته التجريبية التي دمج فيها مواد غير تقليدية كالأطباق المكسورة، فانتقاله إلى السينما لم يكن طارئاً، اذ يبدو امتداداً طبيعياً لشغفه العميق بكلّ ما يمت إلى الفنّ بصلة. في جميع أفلامه، كانت السيرة الشخصية والهوية الفنية تشكلان محركاً رئيسياً للسرد.

ولطالما عُرف شنايبل بانفتاحه ودعمه للحوار وتعدّد وجهات النظر. وقد جمعته في السابق علاقة عاطفية بالكاتبة والصحافية الفلسطينية رولا جبريل، مؤلفة "ميرال"، الرواية التي نقلها إلى الشاشة. لكن، في الدورة المنتهية من مهرجان البندقية، خيّم التوتّر السياسي على الأجواء منذ البداية، على خلفية دعوات لمنع الممثّلين غال غادوت وجيرارد باتلر الحاضرين في فيلمه، من المشاركة في المهرجان، وذلك بسبب دعمهما لإسرائيل. هذا كله في ظلّ تصاعد حملات المقاطعة الثقافية من قبل فنّانين ونشطاء، رغم أن الفيلم لا يتناول أي شأن سياسي.

خلال المؤتمر الصحافي، واجه شنايبل هذه الدعوات بنبرة واضحة، مؤكّداً أن اختيار الممثّلين تمّ على أساس محض فنّي: "مقاطعة الفنّانين غير مبررة. اخترتهم لموهبتهم، لا لآرائهم السياسية". رغم هذا الموقف، قرر كلّ من غادوت وباتلر التغيب عن المهرجان، على الأرجح لتفادي التصعيد الإعلامي.

في نصّه التعريفي بالفيلم، أدرج شنايبل عبارة عابرة قد تكون أبلغ ردّ على مَن أراد استدراجه إلى التعليق السياسي المباشر: "كلّ ما لديّ لأقوله موجود في فنّي". هذه الجملة لعلها تختصر الموقف كله، وتُضيء على مقاربة شنايبل للفنّ، باعتباره فضاءً للقول العميق والحر، لا للمواقف اللحظية أو الشعارات المعلّبة. فمهما كانت مآخذ النقّاد على فيلمه الجديد، يبقى الإخلاص للفنّ نفسه هو ما يميّز مسيرته، أكان رسّاماً أم سينمائياً.

 

النهار اللبنانية في

11.09.2025

 
 
 
 
 

ظاهرة التصفيق الحار… كم دقيقة تكفي للفوز بجائزة؟

هيثم مفيد

قبل نحو عقدين، كان فيلم “متاهة بان Pan’s Labyrinth” للمخرج المكسيكي غييرمو ديل تورو، متربعًا على عرش الأطول تصفيقًا في مهرجانات السينما على الإطلاق، بعدما تلقى 22 دقيقة من التصفيق في عرضه الأول بمهرجان كان السينمائي في 2006، قبل أن يخترق “صوت هند رجب” هذا الصمت ويتلقى أكثر من 23 دقيقة من التصفيق الحار في مهرجان فينيسيا السينمائي هذا العام.

كان هذا العرض بمثابة عودة نادرة إلى ما كان يعنيه التصفيق الحار في الماضي. ولكن بعد مرور كل هذه السنوات، هل لا يزال هذا الطقس يحمل نفس الثقل في هذه الأيام؟ وهل الجرأة الفنية والتميز الإبداعي هي ما تسمح للأفلام بالوقوف على منصات التتويج وإلقاء خطب النصر، أم باتت تُمنح من باب التعاطف مع الأعمال الأطول تصفيقًا؟

على مدى العقد الماضي، يزعم النقاد أننا فقدنا المعنى الحقيقي للوقوف والتحية. إن ما كان في السابق مجرد اندفاع من الإعجاب والتقدير لفيلم ما، أصبح يُنظر إليه الآن على أنه مقياس لقيمة الفيلم المالية ومجرد حيلة تسويقية.

متى بدأ التصفيق وقوفًا؟

يعتبر التصفيق “Ovation”، المشتق من الكلمة اللاتينية “ovatio” التي تعني “I rejoice” أنا أفرح، من الطقوس الثقافية المتأصلة في عاداتنا البشرية لدرجة أنه يُعدّ قريبًا من التصرفات اللاشعورية. ومع ذلك، فإن اختيار الاستمرار في التصفيق – وأحيانًا الوقوف أثناء القيام بذلك – أمر مقصود تمامًا. ولكن متى بدأ التصفيق وقوفًا؟

يعود هذا الاحتفال إلى روما القديمة. ورغم أن مجتمع اليوم يعتبر التصفيق الحار من أسمى مظاهر الإطراء، إلا أنه في عهد الإمبراطورية الرومانية كان من أشكال الاحتفاء بالانتصارات العسكرية الأقل شأنًا. في ذلك الوقت، كان القادة العسكريون العائدون الذين لم تستوفِ انتصاراتهم شروط النصر الروماني، وإن كانت لا تزال جديرة بالثناء، يُحتفى بهم بالتصفيق.

بعد بضعة قرون، ترسخت ظاهرة التصفيق الحار في الثقافة الحديثة واعتُبر من أعظم الإطراءات في الفنون الأدائية، وقد انتشر لأول مرة في القرن السابع عشر، عندما بدأ جمهور الأوبرا بالوقوف لتقديم التحية للعروض الاستثنائية. حيث يحمل التينور الإسباني بلاسيدو دومينغو، الرقم القياسي لأطول تصفيق حار في العالم بـ 101 وقفة استمرت لأكثر من 80 دقيقة بعد أداء أوبرا عطيل في فيينا عام 1991.

بهذا الشكل، ظلت ظاهرة التصفيق الحارّ تترسخ تدريجيًا في ثقافتنا حتى امتدت للسينما في القرن العشرين. عندما مُنح تشارلي تشابلن جائزةً فخريةً في حفل توزيع جوائز الأوسكار عام 1972، فإن التصفيق الحارّ الذي استمرّ 12 دقيقةً لا يزال الأطول في تاريخ حفل جوائز الأكاديمية.

تصفيق مُدبر

في عام 1982، أعقب حفل ختام مهرجان كان السينمائي العرض الأول لفيلم “إي تي: القادم من الفضاء البعيد ET: The Extra Terrestrial” للمخرج ستيفن سبيلبرغ، والذي أثار جلبة وقتها بسبب وصلة التصفيق الحار. يتذكر المخرج الأمريكي كيف كانت مدة التصفيق تزداد مع كل إعادة سرد للأحداث في وسائل الإعلام.

عقب عرض الفيلم، قال سبيلبرغ أن التصفيق استمر لحوالي 6 دقائق ونصف، ولكن “عند عودتي إلى لوس أنجلوس، كانت المدة قد امتدت إلى عشرين دقيقة. فقلت: لحظة، أنا راضٍ بست دقائق. فأنا لم أتلقَّ حتى دقيقتين من التصفيق من قبل”.

تشير هذه القصة الساخرة التي رواها سبيلبرغ، إلى أن هذه الظاهرة ليست جديدة -كما يظن البعض- لكنها راسخة في المهرجانات السينمائية منذ عقود طويلة؛ كما كشفت تصريحاته أيضًا أن موضة “التصفيق” لطالما شكلَّت هاجسًا لدى وسائل الإعلام وشركات الدعاية والتوزيع. نتذكر على سبيل المثال عبارة “الفيلم الذي نال تصفيقًا حارًا لمدة 15 دقيقة في مهرجان كان السينمائي!”، التي كُتبت على اللوحة الإعلانية لفيلم “إكراه Compulsion” للمخرج ريتشارد فلايشر، عام 1959.

ربما كانت ظاهرة التصفيق الحار لا تلقى صدىً واسعًا وقتها من جانب الجمهور، وهذا ما حد من انتشارها بشكل واسع. ولكن في أوج عصر التسليع، حيث صرنا كبشر مجرد حفنة من الأرقام، وبات يُقاس مدى رضائنا عن الأفلام حسب مؤشرات “الطماطم الفاسدة Rotten Tomatoes”، كان لابد لهذا الطقس أن يزدهر. ولكن متى وصلنا إلى نقطة التحول؟

تشير نانسي تارتاجليوني، محررة شباك التذاكر في موقع “ديدلاين”، إلى النقطة التي تغير عندها كل شيء عندما قرر كوينتين تارانتينو التحدث إلى الجمهور داخل مسرح غراند لوميير عقب عرض فيلمه “حدث ذات مرة في هوليوود Once Upon A Time In Hollywood” عام 2019 في مهرجان كان، وهو شيء نادر، لكن الحضور استمتعوا كثيرًا بما فعله.

هنا، رأى مدير المهرجان تييري فريمو الفرصة وقرر تنفيذ ما يعتبر اليوم ممارسة شائعة. ففي نهاية عروض الأفلام، يتم تسليم الميكروفون للمخرج ويُطلب من المصورين التركيز على وجوه المشاهير في الصالة. كلما كان رد فعل الممثلين وطاقم العمل أكثر دراماتيكية، كلما زادت احتمالية استمرار تصفيق الجمهور أكثر، وكأن المَشاهد المسرحية التي تلي الفيلم تعتبر جزءًا أصيلاً من العرض. وهذا ما يؤكده الكاتب سكوت روكسبور في موقع “هوليوود ريبورتر”، بأن “كثيرٌ من هؤلاء لا يُشيدون بالمزايا الفنية للفيلم، بل يحتفون بالفنانين الحاضرين”.

ولكن متى يبدأ فعليًا قياس التصفيق الحار؟ هل عند ظهور تترات النهاية أم عند إضاءة أضواء المسرح؟

تشير إرشادات المواقع التي تهتم بهذا النوع من الأخبار، مثل “هوليوود ريبورتر”، و”فارايتي”، و”ديدلاين”، أن تشغيل المؤقت يبدأ لحظة وقوف الجمهور، عادةً بعد إضاءة أضواء المسرح أو قاعة العرض، وإيقافها عندما يبدأ معظم الحضور بالجلوس، أو عندما يُعطى مخرج الفيلم الميكروفون، ثم يقومون بتشغيلها مرة أخرى عندما يبدأ التصفيق من جديد.

من المؤكد أن التصفيق الحار يُولّد حماسًا عامًا تجاه الفيلم مع مشاركة مقاطع الفيديو من تلك اللحظة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعناوين الأخبار في جميع أنحاء العالم، لكن هذا لا يترجم دائمًا إلى نجاح عام. تخشى الناقدة شانتيل بوزيسفيتش، من أن يؤدي التصفيق الطويل إلى رفع التوقعات حول الفيلم، وهو أمر قد يكون له تأثير سلبي للغاية على مشواره في موسم الجوائز.

في عام 2019، حظي فيلم “الجوكر Joker” بتصفيق حار لمدة ثماني دقائق في فينيسيا، وفاز بجائزتي أوسكار. في عام 2024، حظي الجزء الثاني من الفيلم “الجوكر: ثنائي الجنون Joker: Folie à Deux” بتصفيق حار لمدة 13 دقيقة تقريبًا، لكنه فشل على الصعيدين النقدي والتجاري.

في نهاية المطاف، ومع نظامٍ يسهل التلاعب به، غالبًا ما يُختصر طول التصفيق الحارّ بسؤال واحد: إلى أي مدى يرغب صانع الفيلم في استغلاله؟ إن المخرج هو من يملك خيار إنهاء هذا الطقس في أي وقت. وبعض المخرجين، أمثال بونغ جون هو وويس أندرسون، لا يشعرون بالراحة لترك هذا التصفيق طويلاً.

عقب العرض الأول لفيلمطُفيل Parasite” للمخرج بونج جون هو، المتوج بالسعفة الذهبية، نال صناعه تصفيقًا حارًا لمدة 5 دقائق فقط بسبب قيام المخرج بمقاطعة الجمهور. وعندما تسلم الميكروفون، قال: “دعونا جميعًا نعود إلى منازلنا”.

اقترح البعض أنه أراد ببساطة تجنب الضجة، في حين افترض آخرون أنها كانت خطوة استراتيجية لتجنب أي خيبة أمل من النقاد بسبب التصفيق المبالغ فيه الذي أثر على مسيرة الفيلم في موسم الجوائز. لكن الرجل صرح لاحقًا أنه شعر بالجوع وأراد العودة للفندق لتناول العشاء، وهذه ردة فعل طبيعية لأغلب المخرجين عقب العروض الأولى. ولكن أي كانت أسباب المخرج الكوري الجنوبي للرحيل، فمن الضروري تذكر أن موضة التصفيق الحار اليوم تتعلق بالأشخاص أكثر من الفيلم.

ظاهرة “صوت هند رجب

على الرغم من أن مهرجان فينيسيا السينمائي لا يتعاطى مع التصفيق بقدر مهرجان كان السينمائي، إلا أنه لا يزال يتمتع بتاريخ عريق في تأكيده للظاهرة. ولكن هل يُترجم ذلك بالفعل إلى إشادة أوسع نطاقًا بعد موسم المهرجانات؟

في العام الماضي، حطم فيلم “الغرفة المجاورة The Room Next Door للمخرج بيدرو ألمودوفار، الرقم القياسي لمهرجان فينيسيا – الذي كان يحمله سابقًا فيلم “حزانى إينيشيرين The Banshees of Inisherin”- بمدة تصفيق بلغت 17.5 دقيقة، لكن الفيلم لم يُطرح في نقاشات الجوائز لفترة طويلة، باستثناء جائزة الأسد الذهبي. ومع ذلك، كان فيلمالوحشي The Brutalist” ثاني أكثر الأفلام استحسانًا من حيث عداد التصفيق، قد حصد جائزة الأسد الفضي كأفضل مخرج، وفاز عنه أدريان برودي بجائزة أوسكار أفضل ممثل.

خلال نسخة هذا العام، اقترب فيلما “إنجيل آن لي The Testament of Ann Lee” و”آلة التهشيم The Smashing Machine من الرقم القياسي، حيث أذهلا المشاهدين بأكثر من 15 دقيقة من التصفيق لكل منهما. تأثرت النجمة أماندا سيفريد حتى البكاء من هذا الرد، مستمتعةً باللحظة بتقدير وتواضع واضحين. كما حظي أحدث أعمال المخرج غييرمو ديل تورو “فرانكنشتاين Frankenstein”، بطولة أوسكار إيزاك وميا جوث وجاكوب إلوردي، بنحو 15 دقيقة من التصفيق، مما غمر الممثلين الرئيسيين بالامتنان.

ولكن “صوت هند رجب”، بات الفيلم الأطول تصفيقًا على الإطلاق، ليس في فينيسيا وحسب، وإنما في مهرجان كان أيضًا، متخطيًا حاجز الـ 23 دقيقة. وذكرت مجلة “فارايتي” أن التصفيق استمر حتى بعد إطفاء أنوار المسرح.

المُلفت في نسخة هذا العام، أن “صوت هند رجب” -الأطول من حيث التصفيق- لم يتوج بالأسد الذهبي كما حدث مع فيلم ألمودوفار العام الماضي، واكتفى بجائزة مهمة أخرى، وهي جائزة لجنة التحكيم الكبرى. في حين نال الأمريكي جيم جارموش الجائزة الأولى عن فيلمهأب أم أخت أخ Father Mother Sister Brother”، على الرغم من حصوله على دقائق تصفيق محدودة لم تتجاوز 6 دقائق.

في حين أن عداد التصفيق الخاص بالمواقع الكبرى، تجاهل أفلامًا أخرى لم يأتِ على ذكرها نالت جوائز مهمة، مثل “تحت السحاب Below the clouds” الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، وفيلم “في العمل At Work” الفائز بجائزة أفضل سيناريو، والفيلم الصيني “الشمس تشرق علينا جميعنا The sun rises on us all” المتوج بجائزة أفضل ممثلة.

في الأخير، قد تنجرف عواطفنا في رياح التصفيق الحار التي باتت تعصف بمهرجانات السينما الكبرى، ولكن يجدر بنا أن نشكك في التقارير التي تُصاحب هذه التصفيقات -المستحقة نسبيًا- فأغلبها ليس جديرًا فحسب، بل مُدبَّرٌ من نواحٍ عديدة. فالنقاشات حول السينما لا يمكن اختزالها في أرقامهما، بل ينبغي أن تعكس أحاديثنا مدى شغفنا بهذا الفن خلال هذه التظاهرات السينمائية الكبرى.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

11.09.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004