ملفات خاصة

 
 
 

البندقية 82

"يتيم" ينبش في ذاكرة طفل المآسي

هوفيك حبشيان - المصدر: "النهار"

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثاني والثمانون

   
 
 
 
 
 
 

فيلم "يتيم" حكاية أخرى من حكايات فقدان البراءة والبحث عن الذات في هذا العالم المنكوب.

بعد "ابن شاوول" و"غروب"، جاء الفيلم الثالث للمخرج المجري لاسلو نمش محاطاً بترقّب كبير، لا سيما لدى أولئك الذين يرون فيه فنّاناً متكاملاً، يستحق المتابعة لرصد تحوّلاته وتطوّره مع الزمن.

"يتيم"، عمله الأحدث، الذي عُرض في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي الأخير، فيلم يتنفّس "السينما" بكثافة بصرية واحساسية نادرة. فيلم خارج الزمن والتيارات والرائج والمثير والملّح، لا يمتّ بصلة إلى معظم ما شاهدناه هذا العام ضمن المسابقة، ولا يتغذّى من الراهن ولا من النشرات الإخبارية، على خلاف عدد من الأفلام التي تستثمر في مآسي الحاضر.

ورغم أن "يتيم" لا يبلغ المستوى نفسه من العظمة الفنية التي ميّزت تحفة نمش الأولى، التي أبصرت النور في مهرجان كانّ قبل عشرة أعوام، فذلك ليس مستغرباً. خلافاً لعدد كبير من المخرجين، بدأ نمش مسيرته من القمّة، مقدّماً فيلماً تأسيسياً لطموحه السينمائي. ومن الطبيعي أن تبدو أعماله التالية، مهما بلغت من جودة، وكأنها دون ما سبقها. ثمة أيضاً تلك "اللعنة" التي تلاحق أصحاب البدايات اللامعة: توقّع الجمهور والنقّاد أن يعيدوا إنتاج الدهشة مرةً بعد أخرى، بالنبرة والحدّة والخصوصية نفسها.

كلّ لقطة في "يتيم" ثمرة رؤية واضحة وفكرة محدّدة وأسلوب مدروس. لا مجال للمصادفة أو الارتجال. كعادته، يلجأ نمش إلى الفيلم الخام (35 ملم)، وإلى الكبير ماتياس إلديري، حاملاً إيّانا معه إلى أعماق السينما، إلى مرحلة من تاريخها ستبقى محطّ عودة وحنين لدى كثير من السينمائيين: حيناً كتحية وفاء، وحيناً كوسيلة للهروب من العالم الرقمي الذي جعل صور الأفلام تتشابه إلى حدّ ما، وتفقد فرادتها ودفئها.

ومثلما فعل في أعماله السابقة، يعود نمش بنا إلى الماضي، وهذه المرة إلى خمسينات بودابست، مسقط رأسه، مستلهماً حكاية "يتيم" من تجربة شخصية وعائلية، تحديداً من سيرة والده. مجدداً، يلامس المخرج قضايا الصراع والصدمة النفسية والحرب وهي تيمات باتت تشكّل العمود الفقري لأعماله الثلاثة، إذ يمكن اعتبارها حلقات متّصلة تنبثق من واقع واحد: أوروبا القرن العشرين، أوروبا التي أنجبت والده وأنجبته، بكلّ ما تحمله من أهوال وانكسارات ومعاناة قاسية مدفونة تحت الحداثة.

هذه الأوروبا، بالنسبة الى نمش، لا تزال منجماً لحكايات عن نزع الإنسانية عن الناس. أما الذاكرة فتلفّها الأسئلة: كيف تُروَى؟ كيف تُحجَب؟ كيف تتوارثها الأجيال؟ غير أن كلّ هذا يحضر في "يتيم" بأسلوب بصري مختلف عن ذاك الذي اختبرناه في "غروب"، وقد يكون أكثر أفلامه سلاسةً على مستوى المُشاهدة، إذ لا يتطلّب من المتفرج مجهوداً كبيراً لفكّ شفراته الجمالية أو الدرامية، رغم أن الفيلم لا يزال مثقلاً بالسوداوية، ولا يمكن اعتباره "نزهة" بأي حال.

عقب الحرب العالمية الثانية، خرجت بودابست مدمّرة، على المستوى المادي والإنساني. تعرضت المدينة لدمار هائل، وسقط عشرات الآلاف من المدنيين، في ظلّ انتهاكات جسيمة ارتكبها الجيش السوفياتي. وفي الجانب الآخر من المأساة، عاش اليهود الناجون من المحرقة أوضاعاً مزرية. دخلت المجر تحت النفوذ السوفياتي، وتحوّلت تدريجاً إلى دولة شيوعية. ثم، في عام 1956، عندما اندلعت الثورة المجرية، سرعان ما قُمعت بوحشية في العام التالي. سُحِقت المقاومة الشعبية وبدأت موجة شرسة من الاعتقالات والإعدامات. في هذا السياق السياسي القاتم، تدور أحداث "يتيم" الذي يحرص على الاعتناء بالطفولة الرافضة للواقع المفروض عليها، في سعي دائم للامساك بزمام الأمور، خلافاً لما نراه عادةً في أفلام الحروب والنزاعات.

يركّز الفيلم على صبي يُدعى أندور (بويتوريان باراباش)، يعيش في ظلّ هذا الخراب العام. كان وُضع في ميتم خلال الحرب، قبل أن تستعيده والدته (أندريا فاشكوفيش) بعد انتهائها. الأب غائب عن الصورة، إلى أن يظهر فجأةً رجل غامض يدّعي أنه والده. انه جزارٌ يحمل ماضياً مريباً (يؤدّي دوره الممثّل الفرنسي غريغوري غادبوا في أداء مركّب وصادم).

يلقي هذا الظهور المفاجئ بظلّه الثقيل على أندور، فيغرق في دوامة شكوك وأسئلة. هذا "الأب" الغريب، الذي يبدو أن له تأثيراً قوياً على الأم، يثير في نفس الصبي شعوراً بالرفض وعدم الثقة. كيف يمكن أن يكون والده، بينما كانت له عائلة أخرى؟ يتصاعد غضب أندور، وتبدأ هويته في التفكّك وسط شبكة من الأكاذيب والتناقضات والحقائق المشوّهة.

لكن هذه الأزمة الوجودية التي يعيشها أندور لا تأتي من فراغ. فمنذ البداية، نشأ في ظلّ غياب الأب، الذي فُقد خلال الحرب، ولم يتبقَّ له منه سوى شذرات من الذاكرة: تذاكر باهتة، كتاب قديم، صورة… ظلّ الطفل متشبّثاً بوهم العودة، مقتنعاً بأن هذا الأب سيظهر ذات يوم. بين دار السينما التي تصبح ملاذه الوحيد من قسوة الحياة والعالم المتداعي من حوله، ظلّ أندور يعيش في انتظار الأب الغائب، كأن السينما باتت بديلاً من الحضور الأبوي أو محاولة لترميم الفراغ الكبير الذي تركه.

لكن الواقع يفرض منطقه القاسي ويجبره على مواجهة الحقيقة: الماضي، سواء ماضي العائلة أو ماضي الوطن، قد تهاوى بالكامل، وما عاد سبيل سوى التقدّم نحو المجهول.

لوهلة، قد لا تبدو القصّة مغرية، وقد ينحني ظهرها أحياناً تحت ثقل الطموح البصري والاستعادي والتشكيلي الذي يعتني به المخرج، لكن هذا منحى واضح في سينماه منذ البداية. نمش يشتغل على الذاكرة لا بوصفها وثيقة، ولذلك، فإن البنية السردية قد تأتي مفكّكة أو ذات إيقاع غير مألوف، لأن الاهتمام مكرّس أولاً وأخيراً لتوليد الإحساس، بدلاً من شرح ما يحدث.

هناك مَن يرى أن "يتيم" غارق في مخيلته، غير قادر على بلوغ أفق كوني يجعل حكايته مدخلاً لتأمّل إنساني أوسع. ورغم أن هذا قد يُؤخذ كنوع من النقد، ففي حقيقته، شكل من أشكال المديح: محلية نمش ليست انعزالاً بقدر ما هو التزام، وعمقه يأتي من هذا الانغماس في تربة المكان والزمان. وبقدر ما يحمل الفيلم من تماسك بصري وأسلوب متقن، إلا أنه قد يبدو وكأن فيه فيلمين: أحدهما يردّ على الآخر، يفسّره أو يشتّت أثره. وعندما ينتقل إلى نصفه الثاني، قد يشعر المُشاهد أن بعض ما بُني في النصف الأول بدأ يتفكّك. لكن هذا قد يكون مقصوداً، فهو يعكس ذلك التمزّق الداخلي الذي يعيشه الطفل.

في المحصّلة، نحن أمام حكاية أخرى من حكايات فقدان البراءة والبحث عن الذات في هذا العالم المنكوب. النهاية تأتي وحشية، دامغة، ترفع من الفيلم. صاعقة بما يكفي لئلا نخرج منه دخلناه.

 

النهار اللبنانية في

09.09.2025

 
 
 
 
 

"نجوم الأمل والألم": هل مازال إنجاب الأطفال ممكناً في لبنان؟

محمد صبحي

شهد مهرجان البندقية/ فينيسيا السينمائي الأخير، العرض العالمي الأول للفيلم اللبناني "نجوم الأمل والألم" للمخرج سيريل عريس. يتابع قصّة حبّ ممتدة لعقود، تستبطن في تحوّلاتها وانعطافاتها العاطفية تاريخ لبنان الحديث، سياسياً واجتماعياً.

القصة يمكن تلخيصها كالتالي: في أحلك أيام لبنان، وُلد نينو وياسمينة بفارق ثوانٍ. يتنبّأ زكريا، مراقب النجوم الغامض، بحدثٍ كوني مرتبط بحياتهما. في طفولتهما، يتشارك الإثنان فهماً عميقًا لمعاناة كل منهما، مما يُشكّل رابطاً لا ينفصم. تُقدّم ياسمينا لنينو فرصة للهروب من واقع بيروت القاسي، لكن الخطّة تفشل وينفصلان. بعد 24 عاماً، تجمعهما قوى كونية ويقعان في حبّ عميق. رغم خطّتها للهجرة، تبقى ياسمينا في لبنان، غارقة في الحبّ، لكنها عندما تحبل بطفلهما تتردّد في الاحتفاظ بالجنين، رغم توق نينو للأبوة. في النهاية، تُدرك أن نينو هو الرجل الذي ترغب في بناء عائلة معه. بعد سنوات، تأتيهما ابنتهما بأمل حياة جديدة لهما، لكن مع انهيار بيروت، تهدّد طموحاتهما المتباينة لمستقبل أمل بتفريقهما، بينما تنفجر السماء في مشهدٍ سوريالي.

في فيلمه الروائي الطويل الأول، يقدّم المخرج اللبناني سيريل عريس (1987) قصّة حبّ كلاسيكية تمتد عقوداً، تبدأ بطريقة مضحكة وعبثية في آن واحد، لتزداد تعقيداً وألماً مع مرور الوقت. يتابع "نجوم الأمل والألم" (أو "عالم حزين وجميل" في عنوانه الإنكليزي) رحلة نينو وياسمينة، بينما يواجهان خياراً صعباً بين الحبّ والبقاء.  الفيلم - المعروض أخيرًا في مهرجان البندقية السينمائي ضمن مسابقة "أيام المؤلفين" - أكثر قربًا إلى الأفلام التجارية منه إلى الأفلام المعروضة عادةً في المهرجانات، ولكنه يبقى، حتى مع قيوده، ذا قيمة كبيرة. ليس فقط لما يرويه (قصّة الحبّ المحورية)، وإنما أيضاُ لسياقها وتغيّرات العالم حيث يعيش بطلاه.

في كبرهما، يلتقي نينو (حسن عقيل) وياسمينة (مونيا عقل) في حادثٍ غريب. في البداية، كل شيء متوتّر: تهديدات بدعاوى قضائية، وأموال، وفوضى عائلية. لكن نينو، المحاور الماهر الذي عادةً ما يُضحك المستمعين، ينجح في النهاية في إقناع ياسمينة، خصوصاً والدتها الصارمة، بـ"سداد" دينه بدعوة العائلة بأكملها إلى مطعمه في بيروت، وهو مطعم يجمع بين المطبخ اللبناني واللمسات الإيطالية. يُخيّم على العشاء جوٌّ من الفوضى وينتهي بشجارٍ حادّ - طاهي نينو عنيدٌ يرفض إضافة نكهةٍ إلى وصفته "المتوسطية" - لكن عندها فقط يكتشفون شيئًا كان عليهم إدراكه مُسبقاً: الاثنان أشبه بحبيبَي طفولة، مغرمَين ببعضهما البعض وعلى وشك الهروب من عائلتيهما معاً. لكن هذا كلّ شيء؛ انقطعت علاقتهما، ومرّ الوقت، واليوم يجتمعان، ليس فقط على خلافٍ عائليّ، بل بشخصياتٍ مختلفةٍ تماماً.

يعود الفيلم بالزمن إلى الوراء ليستعيد الماضي، لكنه سيُركّز على لمّ شملهما وقصة الحبّ المُؤقّتة المولودة من جديد، بتقلّباتها ولوعاتها. تخطّط ياسمينا للانتقال إلى برلين، لأن لبنان يشهد سلسلة من الأزمات والهجمات والمشاكل المتنوعة التي ستقود البلاد إلى حالة من الفوضى العارمة، لا تزال مستمرة حتى اليوم، مع كلّ التقلبات والمنعطفات المتضمّنة. لكن جاذبية نينو الساحرة تعيدها إليه مرّة بعد أخرى. وهكذا تستمرّ الحياة، مع زوجين يعشقان بعضهما البعض، ويبذلان قصارى جهدهما للبقاء معاً، لكنهما يواجهان، قبل كلّ شيء، وضعاً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً يلفظهما باستمرار.

في بيروت وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاماً تدور أحداث الفيلم، يتابع المتفرّج خلالها قصّة حبّ تحاول الصمود في وجه زمن متقلّب وحروب مختلفة وانهيارات متوالدة، في حين يسعى حبيبان إلى بناء حياة وأسرة وسط مأساة الواقع اللبناني. في لقاءٍ أعقب عرض الفيلم في "البندقية"، أشار عريس إلى أن فيلمه يتناول قصّة بيروت وتاريخ لبنان المعاصر، بدءًا من الحرب الأهلية وما تلاها، وصولًا إلى ثورة أكتوبر/تشرين الأول 2019، والأزمة الاقتصادية، وانفجار مرفأ بيروت. لم يشهد المخرج حرب السبعينيات، لكنه اختبر نتائجها. هنا يحاول تقديم بورتريه لبيروت، تاريخي وحميمي في آنٍ.

يقول عريس إن "الفيلم بدأ بسؤال راوده أثناء انتقاله من مرحلة البلوغ إلى مرحلة الأبوة: هل يُجدي إنجاب الأطفال في عالم مكتظ، قاسٍ، وفظّ؟ هل ما زال بإمكاني الحلم بتكوين وتأسيس عائلة في لبنان رغم كل ظروفه؟". والواقع، أن العديد من جيل الألفية يتشارك هذا الشعور بالتشاؤم، ويقف لبنان مثالاً مؤثراً، عالقاً في دوّامة مآسٍ تثير الشكوك حول مستقبل الأجيال المقبلة. الفيلم، الذي كان يُمكن تخيّله كوميديا رومانسية لو انتقلت أحداثه إلى بلدٍ آخر بتاريخٍ أقلّ ندوباً من لبنان، يدور حول زوجين تُشكّل حياتهما، من الطفولة إلى البلوغ، سردية الفيلم، على خلفية مدينة (بيروت) تتأرجح بين الرخاء والدمار. يتتبّع الفيلم هذه التحوّلات، منتقلاً من الحلم والكوميديا إلى الدراما العائلية والاجتماعية. وبينما لا تزال بيروت تنبض بالحياة بلا انقطاع، يبقى سؤال: هل يمكن لصدمة بلدٍ تقويض آمال وأحلام حتّى أكثر عشّاقها تفاؤلاً؟

يرى المخرج بطلي فيلمه وجهين لعملة واحدة، اسمها لبنان. نينو يمثّل الحنين إلى الماضي، الملتصق ببلدٍ كان يوماً ما رائعاً، بينما ياسمينا أكثر واقعية وتدرك أن المستقبل يكمن في الانتقال إلى مكان آخر. تنسج هذه القصة الدافئة والراهنة بين التفاؤل والتشاؤم، والفكاهة والدراما، والأمل والحزن، واحترام التقاليد، والسعي لإعادة اكتشاف الذات. تحاول تصوير الدراما(ت) اللبنانية كقصة حبّ في بلدٍ منقسم بين الأمل والألم.

 

المدن الإلكترونية في

09.09.2025

 
 
 
 
 

يوم قابلتُ جيم جارموش

هوفيك حبشيان

في مطلع هذا العام، بلغ جيم جارموش عامه الثاني والسبعين. عند هذا العمر، كان ديفيد لينتش قد طوى مسيرته السينمائية، بعد أن منح العالم أبرز روائعه. أما ديفيد بووي، فقد غادرنا إلى العالم الآخر وهو دون السبعين. في نهاية الأسبوع الماضي، نال جارموش جائزة «الأسد الذهبي» في مهرجان البندقية الثاني والثمانين، عن فيلمه الجديد «أب أم أخ أخت»، من يد مواطنه ألكسندر باين. قرأتُ تعليقًا لأحدهم اعتبر فيه الجائزة مجرد محاولة «لإنعاشه» فنيًا، بعد سلسلة أفلام لم ترقَ إلى مستوى أعماله الأولى لا بل ساهمت في أفول نجمه. قد لا يكون هذا التوصيف دقيقًا، لكنه بالتأكيد يلامس جانبًا من الحقيقة.

يقول السيناريست غييرمو أرياغا إن الإلهام عند الفنّان ليس معينًا لا ينضب، بقدر ما هو طاقة قد تنفد مع الوقت، شأنه شأن الوقود في خزان السيارة. ولعلّ هذا ما أصاب جارموش، الذي يقدّم في عمله الأحدث ثلاث حكايات عن ثلاث عائلات في ثلاثة فصول متّصلة. نصّ بصري جيّد من حيث الصنعة، لكن السؤال: هل «الجيد» كافٍ حين نتحدّث عن سينمائي بحجمه؟ الفيلم يحمل بصمته، لكن من دون تلك اللمعة التي كانت تميز أفلامه القديمة، التي أقامت توازنًا دقيقّا بين العبثي والذهني، بين الكوميديا السوداء والتأمّل الوجودي.

مع ذلك، لا يمكن تجاهل أن خلف هذا الاسم ذي الحرفين الأولين المتشابهين، يقف فنّان كبير، صاحب رؤية خاصة للعالم. كان ولا يزال من أعمدة السينما الأميركية المستقلّة، تلك التي ترى في هوليوود مرتعًا للمال والسلطة والمافيات، أكثر منها حاضنة للفنّ.

صنع جارموش «حالة» سينمائية، بأسلوب إخراجي يجمع بين الأناقة والعمق، بين السكون والحسّ الجمالي المتدفّق. حوّل نصوصه، عبر رؤيته الخاصة، إلى أفلام مشبّعة بالحساسية والمرونة، تنساب في حركة متأنية. هذا العاشق الأبدي للموسيقى والكتب والسينما الأوروبية واليابانية (من غودار إلى ميزوغوتشي) لا ينتمي إلى زمن بعينه أو إلى جغرافيا محدّدة. هو من الذين لا تستنزفهم الموضة. اسمه مرتبط بتجربة جمالية قائمة على استعادة المعنى الأصلي لعبارة «السينمائي المؤلّف».

«أفلامي ليست سردية بالمعنى الأدبي، هي موسيقية في تكوينها. هناك نغمة وإيقاع. أحبّ أن يتأسس الفيلم على شكل ما، أن يتنفّس ضمن قوانين، لكن أكثر ما يشدّني أيضًا هو خرق تلك القوانين وتجاوزها بلطف»، قال ذات مرة في أحد الدروس السينمائية التي تابعتها.

رسم جارموش بورتريهًا معتّمًا لأميركا، متوغّلًا في عمقها ومتاهاتها وتناقضاتها.التقط دفء البشر وإرباكهم، وارتقى باللحظات العابرة إلى صور موحية تختزل قلق الوجود. قد تمرّ تلك اللحظات في غابة يلفّها ضباب مطر باكر، أو على متن طائرة، أو في غرفة فندق تنبعث منها رائحة وحدة ثقيلة. اصطحبنا من مدينة إلى أخرى ليبرهن أن بعض الرحلات لا تغيّرنا، لكنها تضعنا وجهًا لوجه أمام شريط الحياة والذكريات واحتمالات السعادة المؤجّلة. هذا كله موجود في أفلامه. لم أختلق شيئًا.

جارموش من السينمائيين الذين جسّدوا الهامشية على الشاشة. شخوصه، وإن اختلفوا، يتشاركون حجم القسوة الذي تعاملهم به الحياة، وغالبًا ما يُقصَون عن خيرات العالم، مهمّشين، منسيّين، مكلومين، متروكين… من «رجل ميت» (1994) إلى «غوست دوغ» (1999)، مرورًا بـ «قطار غامض» (1989)، يشقّ سؤال الهوية طريقه في سينما هذا المهووس بتفكيك الطبيعة البشرية. فشل التواصل هو الآخر من المشتركات بين شخصياته، رغم تنوّعها الظاهري وتباين دوافعها. يعرف جارموش أن الإنسان غير قابل للإصلاح، ومع ذلك، لا يتخلّى عنه. في ذلك اللقاء البعيد الذي جمعني به في المغرب، اعترف لي، بصوته الهادئ ونظرته المراوغة: «أجمل ما في الحبّ أن تشعر بالملل وأنت في صحبة مَن تحب».

للمناسبة، قبل نحو خمسة عشر عامًا، جمعتني به جلسة خلال حضوره مهرجان مراكش. كان حديثه، كما أفلامه، ممتلئًا بالفكر والرؤية وفلسفة الحياة. كان آنذاك في منتصف الخمسينات. تحدّث يومها عن السينما كما لو كان يتحدّث عن طقس روحي، بعيدًا من القيود الصناعية التي تكبّلها. بدا لي واضحًا أن الفنّ في اعتباره ليس مهنة، إنما أسلوب حياة وعلاقة شغف دائمة مع كلّ ما هو إنساني وجوهري.

تجربته الطويلة مع المصوّر روبي موللر (1940 – 2018) أضحت نقطة مهمة في حديثنا يومها. هكذا رواها: «كنّا نعمل كثيرًا قبل التصوير، نتشارك الأفكار، نبحث عن مَشاهد، صور، شذرات من الحياة. هكذا نخلق الإلهام. لكن كنا نمارس تقنية غريبة: عندما نرى شيئًا يدهشنا، نُعرض عنه. لا نصوّره، بل نذهب إلى نقيضه. إذا كانت أمامنا شجرة عملاقة تثير إعجابنا، نبحث عن شجرة صغيرة ونصوّرها. لم نطارد الجمال الظاهري، إنما كشف ما خلفه».

كان الحديث في ذلك اليوم انطلاقًا من «حدود التحكّم»، أحد أفلامه الأقل شهرةً. سألته عن التكرار في الفيلم، فرد بالقول: «أحب الأشياء التي تتكرر، لكن ليس بالشكل نفسه. يدهشني أن يحدث تبديل صغير مع كلّ تكرار».

عند جارموش، التفاوت الخلاّق بينه وبين الآخرين هو ما يطلق العنان لمخيلته. لطالما كرر مقولة: «من الصعب أن تتيه عندما لا تعرف أين تذهب». يجد فيها حرية ترتبط بالحالة الذهنية أكثر من ارتباطها بالمكان.

ما هو جميل في الفنّ، وفق تعريفه، أنه لا يأتيه بما يعرفه، إنما بما لم يفكّر فيه من قبل. إنه الفنّ الذي يربكك، بدلًا من ذاك الذي يؤكّد لك أفكارك المسبقة. يقول: «أحب أن يهزّني العمل الفنّي في العمق، مثل أفلام كيارستمي أو لوحات فرنسيس بايكون. لا أحب أن يُعامَل المُشاهد كغبي فيُقال له: تفضّل، إليك ما تريد. هذا النوع من الإرضاء السطحي يثير سخطي». حتى الموسيقى التي هي مصدر الوحي الأول عنده، لا يحتمل أن تملي على المُشاهد ما يجب أن يشعر به. «أكره الفنّ الذي يصرخ في وجهك: اشعر الآن».

يعترف انه حاول طوال حياته أن يكون نفسه فقط. لا يقاوم الإغراءات ببطولة، إنما برغبة عميقة في ألا يتلّوث. وعندما يقول عنه الناس إنه مصمّم على إنجاز الأشياء التي يحبّها والمضي فيها قدمًا، يدهمه إحساس بالفخر. فأكثر ما يؤلمه في هذا العالم اللعين هو أن الناس يسيرون كقطيع خلف ما يُعتقَد أنه الحقيقة. «كلّ شيء يُقاس ويُحدَّد، حتى الأحاسيس. إني أؤمن أن خيالك هو ضميرك، بل موهبتك الربانية، وهو ما يجعلك أنتَ. لا أحد يمكنه أن يملي عليك خيالك».

في عالمنا اليوم، أكنّا في أميركا أو في أي مكان من العالم، الديانة الحقيقية في نظره هي المال: «المال هو السلطة الجديدة، اللغة الوحيدة، الإله المعاصر. أما أنا، فديانتي هي الخيال والإدراك. الشاعر الإنجليزي ويليام بلايك، وهو أحد مثلي العليا، قال إن تقدير أي شيء بالمال يجب أن يُعدّ خطيئة. وأنا أعتقد أن هذه أكبر خطيئة نرتكبها يوميًا. إسأل نفسك: كم تساوي كلّ هذه الطيور التي تزقزق من حولنا؟ مَن يستطيع أن يضع سعرًا لضوء الشمس؟ أو لحظة حديث صادق مع عزيز وأنتما تحتسيان الشاي؟ هذا هو المأسوي في زمننا: نحن فقدنا القدرة على التقدير الحقيقي».

حين كان في العشرين، انتقل جارموش إلى باريس ليلتحق بجامعة، لكنه وجد نفسه في السينماتك الفرنسية التي فتحت أمامه احتمالات لا تُعد. هكذا بنى ثقافته السينمائية. كثيرًا ما يُسأل عن الأفلام التي أثّرت به، ولا يملك جوابًا محدّدًا. يؤكّد إن أكثر من ثلاثمئة مخرج تركوا بصمة في داخله.

عندما تتمادى قليلًا في شرح أحد أفلامه وتصر على معرفة الشاردة والواردة، يرد بأنه لا يملك أدوات تحليلية تجاه أعماله. «إني تلميذٌ أكثر من كوني أستاذًا. أتعلّم. أتأمّل. أراقب. أسعد بأنني أفعل ما أفعله، لكن لا أجرؤ على دعوة الآخرين إلى تقليدي. هذا يتعارض مع فلسفتي. لا أقدّم وصفات جاهزة. أحب فكرة «لطريق»، الرحلة كحالة سردية. منذ هوميروس ودانتي، كانت رواية الطريق أفضل طريقة لرواية القصص. السينما التي أحبّها تسير على هذا النحو. كما قال أمير كوستوريتسا: هناك مَن يصنع الأفلام لأنه مندهش بالسينما، وهناك مَن يصنعها كنوع من التمرد عليها. أنا من النوع الأول. عملي كمخرج أشبه بصحن لاقط، وأنا الوعاء. أجمع من هنا وهناك: فكرة، مَشهد، تفصيلة، لوحة. ومع الوقت، يُولد خط العمل ومحركه. لا أعرف كيف تحدث هذه «الولادة»، ولا أظن أن أحدًا يعرف. الخلق الفنّي سرّ غامض. يشبه طفلًا يرسم بلا وعي، ثم تكتشف أن ما رسمه له ملامح فيل».

لا يشاهد جارموش أفلامه بعد إنجازها. لا يجد في ذلك فائدة، مستخدمًا مقولة لبول فاليري: «القصيدة لا تنتهي، بل تُهمَل». في نظره، هذا ينطبق على السينما أيضًا، الفيلم لا يكتمل. نتركه، نمضي، ويبدأ هو رحلته الخاصة. تمامًا كما هذا المقال عن JJ.

 

####

 

هل تخاطب كوثر بن هنية الجمهور الغربي أم العربي في «صوت هند رجب»؟

أحمد العياد

التقتينا بالمخرجة التونسية كوثر بن هنية، على هامش مشاركتها في الدورة الـ82 من مهرجان فينيسيا السينمائي، حيث فاز فيلمها «صوت هند رجب» بجائزة الأسد الفضي في ختام المهرجان.

الفيلم يستعيد واقعة مقتل الطفلة الفلسطينية هند رجب، التي علقت داخل سيارة حاصرتها الدبابات الإسرائيلية، وظلت لساعات تناشد طواقم الإسعاف عبر الهاتف لإنقاذها، بعد مقتل عمها وعمّتها وثلاثة من أبناء عمومتها في قصف استهدفهم.

تحدثت «بن هنية» عن أصداء العرض الأول للفيلم وتفاعل الجمهور معه، ودلالات التعاون العربي في إنتاج العمل، واختيارها لقصة هند رجب بالذات من بين مئات القصص القادمة من غزة. كما تطرقت إلى رؤيتها للجمهور الغربي أثناء صناعة الفيلم، وإلى ما يمكن أن تقوله لوالدة هند إذا التقت بها، إضافة إلى تطلعاتها لمشاركة «صوت هند رجب» في سباق الأوسكار، ورؤيتها لمسارها الفني بعد هذه التجربة.

ويبدأ الفيلم جولة عروض عالمية في كل من تورونتو ولندن وسان سيباستيان، ليواصل رحلته بعد محطة فينيسيا.

https://www.youtube.com/watch?v=eJMu_r_P1J8&t=1s

 

موقع "فاصلة" السعودي في

10.09.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004