رغم أنّ الخبر يُثير حزناً، هناك متعةٌ في قراءة عناوين
متفرّقة، منشورة في مطبوعات ومواقع إلكترونية، يتفنّن بعضها في ابتكار
الأجمل والأعمق، والأكثر تكثيفاً لسيرة يصعب (أو يستحيل؟) اختصارها بكلمات.
الخبر يقول، هذه المرّة، إنّ روبرت ريدفورد (لا ضرورة إطلاقاً لوضع أوصافٍ
تعكس مهناً له في السينما الأميركية) يُغادر الحياة (16 سبتمبر/أيلول
2025)، بعد شهرٍ إلّا يومين على احتفاله بعيد ميلاده 89 (18 أغسطس/آب
1936). ففور شيوعه، تنشر مؤسّسات إعلامية وصحافية عدّة الخبر، بعناوين
بعضها رائع: "الرجل الهامس في أذن الفن السابع" (فانيتي فير دايلي، النسخة
الفرنسية)، وهو إشارة إلى رائعته "الهامس في أذن الحصان" (1998) إخراجاً
وتمثيلاً، ومطلقاً بفضله الممثلة سكارليت جوهانسن. "النجم الساحر الذي
أضاءت هالته هوليوود"
(بي بي سي نيوز). وفاة "الوحش المقدّس" (لو فيغارو). "وفاة روبرت ريدفورد:
تمثال آخر للحرية" (لو نوفيل أوبسرفاتور).
كلّ عنوان من هذه العناوين، وغيرها كثيرٌ (هناك عناوين
تقليدية، لكنّها مفيدة: أفضل 10 أفلام لريدفورد للمُشاهدة، الأفلام الأكثر
انعكاساً لتفكير الراحل، إلخ)، قابلٌ لتأمّل في سيرة رجلٍ مولودٍ في سانتا
مونيكا (كاليفورنيا) من أبٍ بائع حليب، يُصبح لاحقاً محاسباً، وأمٍّ ربّة
منزل. المفارقة الأولى، التي تطبع حياته، متمثّلة بكون والده (تشارلز روبرت
ريدفورد سينيور) محافظاً، ووالدته (مارتا دبليو هارت) تقدّمية، بالمفهوم
الأصدق لالتزام إصلاحات اجتماعية في بيئة منغلقة. يتّضح فيما بعد أنّ من
سيُصبح أحد أكثر الممثلين وسامةً وسحراً وجاذبية (إلى بهاء أداء، وجمال
إخراج، وحِرفية إنتاج يبتعد به عن التجاريّ الاستهلاكي،
مؤكّداً بذلك قدرة الإنتاج على ابتكار التجاريّ في السينمائي)، سيكون، في
الوقت نفسه، أحد أكثر العاملين والعاملات في هوليوود ميلاً إلى يسارية
أميركية، تهتمّ بمسائل الفرد والجماعة، في أسئلة أساسية، أي تلك المتعلّقة
بالحياة والحرية
والحقوق والواجبات،
إلى تلك المعنية بالحرب والبيئة، ومعنى أنْ تكون أميركياً.
في "صندانس كيد، السيرة الذاتية غير المرخَّص لها"، للورنس
جي كويرك وويليام شُويل (منشورات "رومان وليتلفيلد"، 2006)، يُذكر أنّ
مارتا، تلك الأمّ التي ستكون النواة الأصلية لروبرت الابن، "تمنحه عشق
الفضاءات الواسعة" (ص. 5 ـ 6). جملة تختصر التأسيس العملي، وإنْ بشكلٍ غير
مباشر، لرجلٍ سيصنع من المعرفة موقفاً، ومن الموقف التزاماً شفّافاً
وحقيقياً بقناعات يحوّلها إلى أعمال ميدانية، أفلاماً ونشاطات. إضافة إلى
ذلك، هناك جذور إنكليزية واسكتلندية وأيرلندية وفرنسية له، ما يعني أنّ
كمّاً من الثقافات يترسّخ فيه تدريجياً، يؤدّي به (الترسّخ) إلى مواقف
أخلاقية وسياسية وثقافية يعتنقها منذ زمن، أو ربما منذ حرب فيتنام (1955 ـ
1975).
إذاً، يرحل "أحد أسود" السينما الأميركية، كما تَرثيه ميريل
ستريب، مستعيدةً فيلماً يُخرجه ويمثّل فيه معها ومع توم كروز (في أحد أجمل
أدواره السينمائية القليلة خارج الإنتاجات الضخمة والسلاسل وأفلام الحركة
والتشويق، التي تُدرّ أرباحاً لا أكثر): "أسودٌ في ملابس حملان"، وهذه
ترجمة غير حرفية كلّياً لـ
Lions For Lambs،
المقصود به أنّ هناك أناساً يظهرون علناً كحملان متواضعين، بينما هم أشرارٌ
يسعون إلى مكاسب خاصة على حساب آخرين. الفيلم بحدّ ذاته يروي الصراع، الخفي
على الأقلّ، بين السياسة والإعلام، ودور الدراسة في تشكيل الوعي، وأكاذيب
السلطة الحاكمة التي توهم أناساً بأمجاد وراحة، بينما تقودهم إلى الخراب
والموت.
لكنّ جين فوندا، التي لن تكون أقلّ نضالاً يسارياً منه،
فتقول في رحيله إنّه "تجسيدٌ لأميركا التي يجب علينا أنْ نستمرّ في الكفاح
من أجلها"، بينما تكتفي برباره سترايسند، شريكته في
The Way We Were
لسيدني بولاك (1973)، باعتباره "أحد أفضل الممثلين في الأزمنة كلّها". وإذْ
يبوح باراك أوباما بشعور الحزن فيه، عند سماعه نبأ رحيله، قائلاً إنّ روبرت
ريدفورد "راوي القصص، والرائد، والمدافع عن حقوق الناس"، سيكون عمله في
الحياة أبعد من الشاشة؛ يقول دونالد ترامب إنّ أعواماً طويلة تمرّ "لم تشهد
من هو أفضل منه"، لكنّه يُكمِل ما يُثير سخريةً من قوله هذا: "أعتقد" أنّه
كان رائعاً.
خبر رحيل روبرت ريدفورد دافعٌ إلى حيرةٍ إزاء تلك اللائحة
الطويلة من الأفلام، الراسخة في تاريخ صناعة الفن السابع في أميركا، أي في
العالم، ومن النشاطات الفنية والثقافية والسياسية، ومن الجهد المبذول في
مواجهة مخاطر أنظمة حياة واجتماع وعلاقات وسياسة: داعمٌ للحزب الديمقراطي،
ناشطٌ في الدفاع عن البيئة، مناهضٌ لحرب فيتنام وإنْ عبر حركات راديكالية
في بداياتها، قبل أنْ ينفضّ عن العنف لاحقاً، وينبذه كلّياً.
الكتابة عن اشتغاله السينمائي مفتوحةٌ على أعمالٍ، تبدأ
بالتمثيل والإخراج فالإنتاج، وتمتدّ إلى مساحة واسعة لاحتفال سنوي بالسينما
المستقلّة في العالم، عبر مهرجان صندانس، المؤسَّس عام 1978، قبل أنْ
يترأسه ريدفورد، جاعلاً منه، بدءاً من عام 1985، أكثر عالميةً، بعد محليّته
الممتدة أعواماً عدّة: "إنّه يومٌ حزين بالنسبة إلى معهد ساندانس ومجتمعه"،
كما في بيان للمهرجان، يُضيف أنّ بوب "يُطلق حركة تُلهم، بعد نحو أربعة
عقود، أجيالاً من الفنانين"، وأنّ هذه الحركة نفسها تُعيد أيضاً تعريف
السينما في الولايات المتحدة الميركية والعالم: "المشهد القصصي النابض
بالحياة، الذي نعتزّ به اليوم فنانينَ وجمهوراً، لا يُتصوَّر لولا شغفه
وقيادته المبدئية".
وبعيداً عن مساهماته الهائلة في الثقافة عامة، "سنفتقد
كرمه، ووضوح هدفه، وفضوله، وروحه المتمرّدة، وحبّه للعملية الإبداعية".
يذكر البيان أيضاً ما يشي بأولوية يُفترض بالمهرجان والمعهد الاستمرار
فيها: "إرثه الرائع سيظلّ ركيزة أساسية". كتابةٌ كهذه تفتقد تعليقاً نقدياً
على أبرز أفلامه، على الأقلّ، غير ناقصةٍ، فأفلامه، الأجمل سينمائياً
وبعضها أقرب إلى التجاريّ من دون ابتذال، معروفةٌ لكثيرين وكثيرات، وكلّ
قراءة نقدية لها، في لحظة حزينة كهذه، تحتاج إلى حيّز أوسع من تحية
واستعادة لبعض ماضٍ، يعرفه هؤلاء أيضاً. |