يطوي رحيل روبرت ريدفورد (1936 – 2025) صفحة آخر نجوم
هوليوود الكبار. ممثل ومخرج ومثقف، جسّد أدواراً تبتعد عن العنف، وكرّس
التزامه بالبيئة والحرية.
يطوي رحيل روبرت ريدفورد (1936 – 2025) صفحة آخر نجوم
هوليوود الكبار. ممثل ومخرج ومثقف، جسّد أدواراً تبتعد عن العنف، وكرّس
التزامه بالبيئة والحرية. من «بوتش كاسيدي» إلى «كل رجال الرئيس» و«ناس
عاديون»، ترك إرثاً فنياً وسياسياً وثقافياً جعل السينما مرآةً لحلم إنساني
ممكن.
من بين جيل الممثلين الذين ظهروا للمرة الأولى في
الستينيات، جيل ما يسمّى هوليوود الجديدة، الذي ترك وراءه التمجيد البالي
والمتبجّح للبحث عن تفسيرات أكثر واقعية. لقد كانوا ينظرون بشكل نقدي إلى
سينما الماضي والواقع المعاصر والتاريخ الأميركي.
جيل الستينيات الذي غيّر قواعد السينما
أفاد هذا الجيل من وجود مخرجين يمتلكون رؤية فنّيةً
متقدمةً، ونصوصاً مثالية معدّة بعناية، تتيح للممثل أن يتحرّر. نجوم
مثقفون، عرفوا كيف يجمعون بين قواعد النجومية والمهارة التمثيلية المسرحية،
والتكوين الأكاديمي، والخبرة التلفزيونية التي صقلتهم.
من بين هؤلاء ظهر روبرت ريدفورد (1936 – 2025) الذي انطفأ
أمس، ليس فقط كممثل، بل كمثقف، وناقد، ورجل متكامل، وموهوب ووسيم وبطل.
ريدفورد واحد من آخر النجوم القدامى، أحد يقينياتنا التي كانت متبقّية،
الضامن لنوع معيّن من السينما.
صناعة أسطورة صاندانس كيد
ببنطال جينز، وقميص على طراز رجل «مارلبورو» وشعر أشقر أحمر
مموّج، ونظارات دائرية، وابتسامة غامضة وعيون ماكرة، كان أحد أهمّ
المتمردين والمختلفين. اكتشف وهو في جامعة كولورادو روحاً فنية. جرّب حظه
في النحت، ثم المسرح فالتلفزيون، ثم التقى بالمخرج سيدني لوميت، الذي قدمه
إلى عالم السينما، في وقت كانت فيه هوليوود تنهض من رماد عصرها الذهبي،
مغيّرة المؤلفين والمواضيع والحرفيين.
بوتش (بول نيومان) وصاندانس كيد (ريدفورد) على وشك الانخراط
في تبادل لإطلاق النار، يعلم صاندانس في فيلم «بوتش كاسيدي وصاندانس كيد»
(1969
ــــ
Butch Cassidy and the Sundance Kid)
أنّ قتل خصمه لن يتطلّب الكثير، لكنه لم يكن مستمتعاً بالعنف، بل كان
يعتبره إجراءً شكلياً. هذا الميل للابتعاد عن العنف تكرّر مع مواصلة
ريدفورد تجسيد شخصيات ترفض العنف كخيار.
لكنّ صاندانس ليس أول الخارجين عن القانون في سينما
ريدفورد، فقد أثبت نفسه للمرة الأولى في فيلم «المطاردة» (1961) لآرثر بن.
رأيناه في دور تشارلي ريفز، السجين الهارب المتّهم ظلماً، بصفته شخصية غير
عنيفة، مجرماً رغماً عنه.
في وقت كانت فيه أميركا تعيش خيبة أمل وسخرية سياسية
متزايدة، قدم ريدفورد واحداً من أبرز أدواره في «المرشّح» (1972) مجسداً
شخصية سياسية بصراحة آسرة. ثم في سنة 1973، حقّق نجاحاً ساحقاً في فيلم
«اللدغة» الذي يُعد حالةً نادرة في تاريخ السينما الأميركية، يُنتقم فيها
من جريمة قتل من خلال خدعة غير دموية، بدلاً من العنف التقليدي.
في العام التالي، لعب دور جاي غاتسبي في «غاتسبي العظيم»،
رجل العصابات المتقاعد الذي حمل رومانسية مكسورة وكآبة راقية، مكرّساً
مجدداً ابتعاده عن نمط الشخصيات العنيفة. ثم في سنة 1975، عاد مع المخرج
سيدني بولاك في «ثلاثة من أيام الكوندور» معززاً صورته كوجه مدني مقاوم
لهيمنة الأجهزة السرية، مقدماً شكلاً من أشكال السينما السياسية التي
تتناول توتر العلاقة بين الفرد والدولة. لم تخل أعماله في تلك الفترة من
الطابع السياسي، مثل «كلّ رجال الرئيس» (1976) الذي تناول فضيحة ووترغيت.
السينما البيئية والروحانية في أعماله
في أواخر السبعينيات، بدأ ريدفورد بترسيخ ملامح مشروعه
السينمائي الخاص، الذي يتجاوز حدود الأداء التمثيلي إلى تبنّي رؤية ثقافية
وفكرية متكاملة.
فيلم
The Electric Horseman،
الذي جمعه بجين فوندا، لا يُقرأ فقط كقصة فردية، بل كبيان سينمائي ينتقد
الحداثة الصناعية ويبحث عن بدائل أكثر إنسانية واتصالاً بالطبيعة. هذا
التوجه البيئي والروحاني لم يكن عابراً، بل شكّل محوراً متكرراً في أعماله
اللاحقة، كما في «خارج أفريقيا» (1985) و«مروّض الخيول» (1998)، حيث يتحوّل
الحنين إلى الطبيعة إلى عنصر سردي وجمالي أساسي.
أكثر لحظات هذا التوجه جاءت في «الطبيعي» (1983)، لا سيما
في المشهد الختامي، حيث يظهر ريدفورد وهو يلعب البيسبول في حقل من الذرة.
بالإضافة إلى هذا البعد البيئي، رسخت هذه الأفلام صورته كعاشق مثالي،
تجاوزت الشاشة لتصبح جزءاً من الوعي الثقافي لجيل كامل.
صورته كعاشق مثالي تجاوزت الشاشة لتصبح جزءاً من الوعي
الثقافي لجيل كامل
في سنة 1980، انتقل ريدفورد إلى الإخراج، فافتتح المرحلة
بفيلم «ناس عاديون». هذا الفيلم الحميمي الذي يغوص في عمق العلاقات
الأسرية، حقّق نجاحاً باهراً، وفاز بأربع جوائز أوسكار بينها أفضل فيلم
وأفضل مخرج. كرّس بعدها وقته لأفلام تحمل طابعاً اجتماعياً وإنسانياً، كما
في فيلم
Brubaker،
حيث جسّد شخصية مدير سجن يسعى لإصلاح نظام يعجّ بالظلم، متسلّحاً بأدوات
الإصلاح والعدالة.
شكّل ريدفورد نموذجاً سينمائياً لما يمكن تسميته بـ«حلم
كينيدي»: رجل أبيض، وسيم، إنساني، لم يقف عند صدمة 1968، بل تسلّل إلى
المؤسسات بقناعة أنّه قادر على تغييرها من الداخل، وجعلها أكثر عدلاً
وإنسانيةً.
من التمثيل إلى الإخراج
كانت سينماه مرآة ليوتوبيا ممكنة، لحلم قابل للتحقق، لعالم
أجمل لا يرفض الاختلاف، ولا يقمع التنوّع، بل يحتضنه ويمنحه صوتاً وصورةً.
على الشاشة، ابتكر ريدفورد شخصيات لا تُنسى بدت كأنّها مصممة خصيصاً له:
متمردون ساحرون، وصحافيون عنيدون، ومحتالون بارعون. وضعته جاذبيته في عالم
الأسطورة، لكن ما ميّز مسيرته المهنية هو الذكاء الذي أدار به رأس المال
هذا. بينما كان الآخرون يُصنَّفون في صورة فتى الأحلام، سعى ريدفورد إلى
أدوار تستكشف الهشاشة والشك والنزاهة الأخلاقية في مواجهة السلطة.
بين الالتزام السياسي والليبرالية الثقافية
مثّلت هذه البادرة أيضاً موقفاً سياسياً وثقافياً. لم يُخف
ريدفورد قط التزامه بالقضايا التقدمية: حماية البيئة، وانتقاد حرب فيتنام،
والمطالبة بحرية الصحافة.
بالنسبة للكثيرين، كان الوجه الودود لليبرالية الثقافية
التي سعت إلى التوفيق بين بريق هوليوود والمسؤولية المدنية. هو المدافع عن
الطبيعة، والمهتم بالاحتباس الحراري، من دون أن يكون متطرفاً. شكّك ريدفورد
بلا هوادة في أصحاب السلطة وكان شديد التعلق بوطنه وقيمه. بأناقة، عرف كيف
يُوظّف هالته للدفاع عن القضايا المُحببة إلى قلبه.
تجلّت التجاعيد على وجهه، لكنه لم يفقد شيئاً من جاذبيته.
سوف يبقى فتى صاندانس، الذي استُلهم منه اسم مهرجانه الشهير «صاندانس». حدث
أسّسه ريدفورد وحفر لنفسه مكانة فريدة في مشهد المهرجانات السينمائية
الدولية، مُطلقاً أفلاماً ومؤلفين مستقلين، ومؤسسة تُقدم المنح والمساعدات
الدراسية.
يوتوبيا أخرى، حلم آخر تحوّل إلى واقع رائع. والآن، نمضي
قدماً، مع رغبات أخرى، إلى عصر جديد. سنة 2012، انتقد ريدفورد التسويق
المتزايد للمهرجان قائلاً: «أريد أن يرحل المسوّقون الانتهازيون، ماركات
الفودكا والهدايا المجانية وباريس هيلتون إلى الأبد، لا علاقة لهم بما يحدث
هنا!».
كان ريدفورد، المتحفظ بشأن حياته الشخصية، الذي فقد ولدين،
يفضّل روتينه في مزرعته في يوتا. أصبح رائداً في الحملات البيئية. ورغم
رفضه وصفه بالناشط، إلا أنه لعب دوراً محورياً في الحملات ضد تلويث الطرق
السريعة ومحطات الطاقة في الولاية. لم يكن هذا النجم وسيماً فحسب، بل امتلك
شيئاً قوياً للغاية، ثقة بأننا جميعاً سنلاحظه ولو ظهر في الخلفية. تجاوز
النجومية، ليصبح رمزاً لطريقة فهم السينما، وبالتالي الثقافة المعاصرة.
بوفاته، يختفي أيضاً نوع معين من نجوم السينما، يبدو أنّه
لا يتكرر. في عصر الامتيازات السينمائية التي لا نهاية لها والعوالم
المتوسعة، جسّد ريدفورد إمكانية أن يكون الممثل رمزاً للجاذبية الشعبية
ومعياراً ثقافياً في آن، فهو يُدرك مدى حاجة العالم إلى الطبيعة والثقافة
ليعيش ويفكر. |