وفد إلي التليفزيون وهو بعد في بداية ظهوره من قسم اللغات
الشرقية بكلية الآداب، ولفت الأنظار إليه في منتصف السبعينيات
بأعمال من قبيل
رباعية (ربما) للسيناريست الراحل 'جلال الغزالي'، توقف بعدها عن العمل في
التليفزيون المصري لنحو خمس سنوات بزعم مهاجمة المسلسل لسياسة الانفتاح
الاقتصادي،
ثم قدم مسلسل (الحب والحقيقة) للكاتبة فتحية العسال أوائل
الثمانينيات، أوقف بعدها
عن
العمل بتليفزيون بلده لخمس سنوات أخري بزعم مخالفته للأفكار السائدة، قدم
خلالها
عدة أعمال درامية في القطاع الخاص، كان أبرزها عام 1986 (الشهد والدموع)
التي هزت
الشارعين المصري والعربي، فعاد لبيته بالجزء الثاني، ثم راح
يقدم لنا مجموعة ضخمة
من
المسلسلات المثيرة للجدل، والتي تقف علي رأسها أعماله الكبري مع بلدياته
'أسامة
أنور عكاشة'، فإلي جانب ثنائية (الشهد والدموع) كانت خماسية (ليالي الحلمية)
ومسلسلات (أهالينا)، (امرأة من زمن الحب)، (كناريا وشركاه)، و(عفاريت
السيالة)،
وأخيرا (المصراوية).
وعبر هذا المشوار الطويل مع عالم أسامة أنور عكاشة وغيره من
كتٌّاب الدراما المصرية صاغ المخرج الكبير 'إسماعيل عبدالحفاظ'
رؤيته للدراما
التليفزيونية باعتبارها عملا إبداعيا جمالي الصورة، عميق المضمون، قادرا
علي إثارة
الوعي لدي المتلقي، كي يقرأ واقعه بصورة جيدة، ويكتشف قدراته علي تغييره
لما هو
أفضل.
وهو يتجلي بصورة واضحة في مسلسله الحالي، والذي أصر علي أن
يبني له قرية
كاملة بالريف المصري، صاغ ملامحها ونفذها بمهارة مصمم الديكور سيد أنور،
ومنحت مصمم
الأزياء مني الزرقاني شخصياتها حق التجول داخل بيوتها وشوارعها بملابس
تنتمي للعقد
الثاني من القرن الماضي، وراحت الكاميرا تتابع خطوات أصحابها
وهم يدلفون لعالم
قريتهم الذي عاش زمنا مغلقا علي نفسه، حتي حل فتح الله الحسيني عمدة عليه،
مقصيا
ابن عمه صابر الذي يري أنه الأحق بالعمودية إلي جزيرة عبر البراري، ففتح
الطريق
للتعرف علي عالم الصيادين والغوازي وقطاع الطرق ومعسكرات
الإنجليز، كما دفعه الطموح
لزيادة رقعة أرضه وسطوته علي قريته للتوجه إلي المحروسة مصاهرة لعلية القوم
من
الأتراك، وتورطا في العمل السياسي السري، ووعيا بأن قريته ليست غير نقطة في
محيط
جغرافي ضخم، لا يقتصر أفقيا علي العاصمة المصرية، بل يتشعب
يمنة ويسرة في كل
اتجاهات الأرض، ولا يقف رأسيا عند حدود كونه 'فلاح ابن فلاح مصر'، بل إن
نقاء الجنس
ما
هو إلا أسطورة يصنعها الانغلاق داخل القرية الصغيرة، أما الانفتاح علي
العالم،
فيعني اختلاط الأجناس، وصياغة الهوية من أكثر من عنصر.
تزوج فتح الله الحسيني
داخل قريته من 'خضرة' (نورهان) ابنة خاله الريفية فأنجبت له البنت، وتزوج
ممن تحمل
اسما عربيا تراثيا 'الجازية' (المتألقة روجينا) ابنة الثري
'عزام' (البارع محمود الحديني) فجاءت له بالذكر الوريث، لكنه عندما خرج من
جغرافية قريته
الصغيرة،
وقرر أن يتزوج من التركية الحسناء، والتي سرعان ما وقع في هواها، مبهورا
بجمالها ورقتها، ومدفوعا بكون دماء أبيها المصرية تجري في شرايينها، لكنها
بالحتم
ستأتي له بالوليد الذي تختلط في شرايينه دماء الفلاح المصري
بالغازي التركي، مثلما
سرت في شرايين السكندري 'بشر عامر عبدالظاهر' بطل (زيزينيا) دماء أبيه
المصرية
بدماء أمه الإيطالية، وهي ليست دماء بل ثقافة منقولة عبر نمط التربية
وأسلوب
الحياة.
ست
اخواتها
انحني ظهر 'هشام
سليم' وهو يقود شخصية 'فتح الله الحسيني' مع بداية حياته في العمودية، التي
هبطت
عليه فجأة، بقوة أمه المهيمنة علي مقدراته، وبحكم ثقل السلطة
التي تدفعه لإقصاء
غريمه، ومطاردة الخارجين علي القانون، والزواج بأكثر من واحدة، لا لشهوانية
فيه أو
حبا لتملك الحريم، بل لرغبة في بناء قوة متعددة المنابع، ثم بدا زائغ
العينين أمام
الأحداث الجسام التي حدثت أمامه في المحروسة، وتشتت عقله بين
الوطنية بسيطة التكون
والوطنية متعددة الإيديولوجيات، ثم بدأت عيناه تستقر وجسده يستقيم حينما
وضع يده
علي بداية الطريق الصحيح بأن الهوية أمر نصنعه بإرادتنا ولا
نرثه مع ماديات
الأجداد.
نجح 'هشام سليم' في صياغة هذه الشخصية الريفية التي تنتقل من
الوعي
البسيط
إلي الوعي المركب الأكثر إدراكا بحقيقة واقعه، والأكثر قدرة علي مواجهة
سطوة
أمه 'ست اخواتها'، والتي راحت 'سميحة أيوب' تسمو بها لتجعل منها شخصية
ملحمية أقرب
للربة الفرعونية 'إيزيس' التي أصرت علي أن يعلو شأن ابنها
'حورس' ويقوي ليحل محل
أبيه 'أوزوريس' المبعد عن عرشه، لذا تعمل طوال الوقت علي توجيه ابنها
المؤله 'فتح
الله'، تاركة بقية اخوته يتحركون في سديمه، يتقوقع الصغير 'حسن'، والذي
يجسده بتفوق
'هيثم محمد'، حول ذاته، ويبدو أحيانا متحدثا بلسان الراوي أو مشاهد الوقائع
من
خارجها،
ينقل لنا بضع معلومات تاريخية عن الأماكن القديمة، وعن شخصيات الأولياء
بها، ويتحول حديثه إلي ما يشبه البوح أو المناجاة الذاتية، خاصة إنه
المنخرط في
التعليم تعليما دينيا في البداية ثم مدنيا بالمدرسة الأميرية
بكفرالشيخ، بينما يتبع
الأخ الثاني 'عبدالله' عبر أداء 'حسام فارس' السلس، مسيرة أخيه 'فتح الله'
دون أن
يمتلك طموحه وإمكانياته، فيتزوج مثلما تزوج من فتاة ثرية هي 'أم الخير'
(ألفت إمام)
ابنة أكبر أثرياء الحسنية 'عبدالخالق' (عبدالرحمن أبوزهرة)، غير أنه يكتشف
أنها
ثرثارة و'نكدية'
وحريصة علي إبعاده عن مملكة أمه، فيسايرها عملا بالخروج من دار
العمودية، لكنه يظل مربوطا بحبل أمه السري، ويبدو أمامنا علي الشاشة أكثر
الأبناء
دقا علي باب أمه، وأكثرهم نقلا لها للأخبار، وتنفيذا لأوامرها،
علي العكس من الأخ
الثالث 'شاهر'، والذي قدم معه 'محمد عبدالحافظ' أفضل أدواره حتي الآن،
والمعلن منذ
البداية عدم امتشاله لسطوة أمه، ورفضه لأن يكون شبيها بأخيه، فيصادق
الأوباش،
ويقتحم بيوت الصيادين في غيبة الرجال غزوا لنسائهم، ويرافق
الغازية 'سليمة'، ويهين
رجال خفر القرية ضربا، فيكيلون له الصاع صاعين، فتهان كرامته، ولا يملك سوي
العيش
خارج بشنين.
أخبار النجوم في 5
يناير 2008
|