امرأتان تصعدان من قلب الكادر، تسيران بخطواتٍ جنائزيّة إلى
جانب جوادٍ عجوز، باحثتين عن قطرة ماء، تحيط بهما منطقة جافّة، جرداء،
قاسية، تُعبِّر عن قسوة أخرى تطوق عنقَيْهنّ. فيما ينبعث من شريط الصوت، في
موازاة ذلك، إيقاع حزين يُردده صوت أنثوي مجروح، يُلقي أبياتاً من قصيدة
لوركا التي كتبها في رثاء صديقه مصارع الثيران إغناثيو سانشيز ميخِيّاس،
الذي قضى بطعنة من قرن الثّور:
دقّت السّاعات كلّها
في الخامسة بعد الظُّهر
إنها الخامسة في ظُلمة ما بعد الظُّهر
يا للساعة الخامسة من بعد الظُّهر .
المشهد الأوّل للشريط السينمائي، ينطوي على مُفتتحٍ للخطاب
الذي يطمح فيلم المخرجة الإيرانيّة الشّابة سميرة مخملباف الخامسة بعد
الظُّهر بلوغه وإيصالنا إليه، والذي سيكون هو نفسه مشهد النهاية، مع فارق
أن المرأتين تصعدان من الأرض في البداية ولكنهما تغوصان في الأرض نفسها عند
النهاية.
وإذا كانت قصيدة لوركا تتردد في بداية الفيلم وفي نهايته،
ويتعزّز وجودها في السياق، من خلال شاعرٍ شابّ يمثِّل حالة ذكوريّة
أفغانيّة مُتقدّمة نسبياً، إذ يقف إلى جانب الصبيّة التي تحلم برئاسة
أفغانستان، فيُقدِّم إليها القصيدة للتدرُّب من خلالها لتكون مهيأة
سيكولوجياً لخطاب الرئاسة. فإن القصيدة نفسها هي التي يمنح مطلُعها الفيلمَ
عنوانَه، وهي تُحيل إلى حادثة الثور الذي قتل المُصارع. فثمّة إذاً ثورٌ
هائج، وضحيّة تستحق الرِّثاء. ولا شكّ في أن الضحيّة هنا لن تكون سوى
المرأة. فهل أرادت المخرجة أن تُقدِّم مرثيّة بصريّة للمرأة الأفغانيّة؟!.
بعد ذلك المشهد الافتتاحي، نتابع نيغرا ، وهي إحدى المرأتين،
والشخصيّة الأساسيّة في الفيلم. فتاة يأخذها والدها العجوز بعربته الفقيرة
إلى مدرسة لحفظ القرآن، تتردد فيها آيات منتقاة بعناية لتسويق خطاب مُحدّد:
قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، من دون أن يدري الأب
المخدوع أن ابنته تتسرّب من تلك المدرسة المحصورة في دراسة القرآن إلى
مدرسة أكثر انفتاحاً وتنوعاً. وهو الانفتاح الذي جعل وزارة التربيّة في
كابول، التي جاءت بعد إسقاط حركة طالبان وإبعادها نهائياً عن السّلطة،
تروِّج لطرح سؤال على الفتيات حول المهنة المستقبليّة التي تحلم كلّ واحدة
بها، وماذا يمكنّ أن تكون عليه. فتُفصح نيغرا عن حلمها الشّاسع: أن تُصبح
رئيسة لجمهوريّة أفغانستان.
إنه تبدّل شكلانيّ واضح في أوضاع المرأة الأفغانيّة، وانقلاب
في المفاهيم والأوضاع نقلها من البؤس والحرمان، إلى حلمٍ كبير بهذا
المستوى، رغم أن خلفيّة الصّوت تأتي بآياتٍ بيّناتٍ تناقض هذه الأحلام:
الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض ، وهي الآية التي
يُمكن استثمارها لنفي إمكانيّة قوامة المرأة. رغم أن الرجال يبدون تائهين،
ضائعين في صحاريهم بحثاً عن الدولة الإسلاميّة التي ليس فيها وجود
للموسيقى، والتبرُّج، وتحرص فيها النساء فيها على النقاب، لأن التخلي عنه
يبلغ مستوى الخطيئة والسير في طريق الجحيم!.
فرغم سقوط طالبان، إلاّ أن الطالبانيّة ومفاهيمها المتعلِّقة
بالمرأة ما تزال تفعل فعلها. فالهمّ الذكوري الأفغاني، في المرحلة
الأميركيّة الجديدة لأفغانستان، يتلخّص في هاجس خلع النساء البرقع. فيما
الوالد العجوز، الذي يُردد مثل هذه الأفكار، لا يسأل عن قاتل ابنه عندما
يعلم بمصرعه، ويكتفي بأن يبثّ جوادَه الأكثر عجزاً، همومَه وأحزانه (وهنا
لا تغيب عنّا أجواء قصّة قصيرة وبديعة لأنطون تشيخوف).
تستثمر سميرة مخملباف هذه الأجواء الديمقراطيّة في الحوار،
لترفع من حدّة النبرة التي ينطوي عليها خطابها، عبر حواراتٍ لا تتجنّب
المباشرة والتسطُّح، لتنتهي إلى النتائج المعروفة والمُعدّة سلفاً: طالبان
هي المسؤولة عن دمار أفغانستان.. فهي المسؤولة عن كلّ الفظائع والشرور.
إنها حركة مناهضة للمرأة، وقد عملت على تغييب دورها وإلغائه وفرض البرقع.
وهي المسؤولة عن إبادة البشر، بعد عمليات القتل التي مارسها الروس.. من دون
أن يتضمّن الخطاب شيئاً عن الذين قتلهم الأميركان، أو يأتي على الوجود
الأميركي الاحتلالي البشع لتلك البلد.
ويبلغ الحقد بإحداهن، ممن اكتوت بنيران الحقبة الطالبانيّة،
التي قتلت والدها وشقيقها وتعرّضت هي نفسها للجلد، أن تُعبِّر عن حلمها بأن
تصل إلى مكانة الرئاسة لكي تمنع ولادة أيّ طالباني. فيما نسمع من نيغرا
عبارة تقول فيها لمن يُردِّد أمامها عناوين الخطاب الطالباني المتخلِّف حول
المرأة: من حسن الحظّ أنك ولدت من رحم امرأة، وإلاّ لقلتَ إننا لا نصلح لأي
شيء! .
قد نتفق، بلا تردُّد، مع خطاب الفيلم في ناحية الممارسات
الطالبانيّة الكارثيّة. لكن هذا الخطاب يحلّ في ظلّ تغييب الاحتلال
الأميركي لأفغانستان، والذي ينتفي تماماً حضوره المادي العسكريّ عن كاميرا
مخملباف، وعن حواراتها المباشرة وغير المُباشرة. فلا نرى في الفيلم سوى
جنديّ فرنسيّ، وسيم وساذج وطيّب القلب، يؤدي بغباء التحيّة لرئيسة
أفغانستان الحالمة بالرئاسة.
ورغم تلك التحولات السياسيّة التي منحت المرأة تحرراً شكلياً،
فإن روح طالبان ما تزال تُعشش في الأيديولوجيا الاجتماعيّة. وهو ما يُبقي
أحلام المرأة بالتحرُّر أسيرة مواضعات اجتماعيّة هي أقوى من كلّ شيء.
فقطعان النساء الخارجات من بيوت العلم والمعرفة، تسير جماعاتٍ بالشادور
الأزرق بكامل نقابهن. أمّا الحالمة باحتلال موقع الرئيس الأفغاني، فإنها
مضطرّة إلى حمل نسخة من القرآن الكريم وقراءته لممارسة التضليل، وهي لا
تُردد في حمل حذاء أبيض بكعبٍ عالٍ في حقيبتها المدرسيّة، فتُمارس من خلاله
أنوثتها المقموعة عندما تتاح لها الفرصة لذلك. كما أنها تطلّ علينا غالباً،
وكلما كانت بعيدة عن رقابة العيون الذكوريّة المُترصِّدة، بوجه حاسرٍ. فرغم
تحايلها، إلاّ أنها لا تبدو متحررة تماماً من الأيديولوجيا الدينيّة
الطالبانية التي يمثِّلها والدها بالإنابة، يسنده في آرائه آخرون يثيرون
غضب الصبيّة الحالمة.
في النهاية، فإن فيلم مخملباف هو محاولة بصريّة لفصل الخطاب
الإبداعي، الأيديولوجي والاجتماعي، عن المسألة الوطنيّة وحقيقة الاحتلال
الرازح فوق الأرض الأفغانيّة، وهو تغييب وحذف متعمّد لحقيقة تاريخيّة
راهنة، ما برحت تفعل فعلها. ففي ظلّ الهيمنة الأميركيّة القادرة على المجيء
برئيس يُنفِّذ سياساتها الاحتلاليّة، يتمّ القفز عن المسألة بهدف التركيز
على خطاب قضايا المرأة بمعزلٍ عن قضايا الأمّة الغارقة في البؤس والفقر
والعوز. إنه الخطاب الذي يجدر قراءته مع الجانب المحذوف من المشهد الشامل
للأوضاع التي آلت إليها أفغانستان ما بعد طالبان. وهو يتطلّب طرح الأسئلة
حول الفراغات السياسيّة والأيديولوجيّة والبصريّة التي تمّ تهميشها
وإلغاؤها ونفيها تحت ذريعة التركيز على قضيّة المرأة.
فيلم سميرة مخملباف، هو خطاب بصري مصنوع على المستوى الفني
والتقني، ولا يُمكن القفز عن مقدرته التأثيريّة الهائلة في الأوساط
الغربيّة المفتونة بقضايا المرأة في المجتمعات المتخلِّفة. ومن هنا تنبع
خطورته!
*كاتب
أردني
Wadi49@hotmail.com
الرأي الأردنية في 18
يناير 2008
|