يليق بنا
جميعا كعراقيين ان نحتفل بفيلم أحلام، فهو من الأفلام التي يفخر بها
السينمائيون العراقيون وغيرهم، وبالأخص جيل السينما الشابة،لانهم -الشباب
الاقدر في النفاذ الى جوهرالأمور.والجوهر هنا واقعنا الراهن الصعب المؤرخ
في صور هذا الشريط السينمائي.الفيلم في زمنه المحدد من البداية إلى النهاية
كنص،هويته السينمائية لاتختصر قضايا مجتمعه وناسه وبيئته فحسب،وان كان
الفيلم مرآه للوطن في زمنه الدراماتيكي الواقعي.غير ان اهتماماته الأساسية
بتناولها أبعادا إنسانية وتاريخية واجتماعية حررته من محليته الضيقة واتجهت
به صوب عواطف اعم واشمل تتخطى جغرافيته، لكون ان الهم الإبداعي كان هما
محليا نابعا من القلب كما يقول مخرج الفيلم (محمد الدراجي) وسط نزاع ثقافي
سياسي اجتماعي تسلل إلى المجتمع عبر تاريخه المؤلم،وأضحى في محنته التي اقل
ما نعبر عنها اليوم بأنها ورطة.
أحلام
واقع يفسر نفسه بنفسه.فعندما نحدد الزمان والمكان يصبح لكل شيء معنى
ودلالة.وتلزمنا البداية والنهاية ان نتأمل بعمق ذلك المعنى بإطاره العام
والخاص. المحتوى الداخلي والخارجي للفيلم،ولا ريب في ان الفيلم في ضمائرنا
يستجوب حقيقة كبيرة..تمتد بأسبابها عميقا خارج العالم الداخلي
للأحداث..تراكم عقود من الأخطاء السياسية والاجتماعية أثرت على حياة الناس
وسلوكهم وانداحت بالعراقيين الى المجهول! يستنطقها الفيلم لحظتها في جوه
العام.ولعلنا ونحن في أجواء القاعة المظلمة - نشاهد الفيلم - استحضرنا
الحقيقة المؤلمة والشعور باللا جدوى التي أضاعت أعمار وأموال الأجيال وتركت
الوطن لدى البعض معنا مجردا،او جرحا مؤلما لدى البعض الأخر. ذلك لان
الموضوع السينمائي مبني برؤية واقعية ومجسد بصورة حوارية من نوع مختلف..
حوار مابين الكاميرا وبغداد المستباحة.حوارا دافئ وموجع.يقول (انطنيوني)
رائد الواقعية الايطالية، واحد أهم أعمدة الثقافة السينمائية الايطالية:
"هناك تطابق ما بين العين والعقل، العين والحدس، العين والضمير، تطابق في
الرؤية مابين الداخل والخارج " وهذا يبيح لنا القول ان الفيلم ليس من أفلام
الشخصيات التي تنمو وتتطور لتكشف عن أبعادها.لم يكن هم المخرج النحت في هذه
الأبعاد ليشكل عالم الفيلم الداخلي الرؤيوي البحت. كانت الشخصيات تعبر عن
تطابق الرؤية مابين العالمين الداخلي والخارجي. الفيلم صورة مجتمعة برؤية
موضوعية لاخلاف عليها. صور متجمعة بمشاهد أشبه بتجمع صور القصيد في ذهن
الشاعر للإفصاح عن معنى ودلالات هكذا كان الفيلم كما ارى: نظام او طريقة في
التفكير قلما عرفتها السينما العراقية من حيث التماثل والتشابه لما يعرف
بالسينما البديلة الناجحة مثل فيلم الحارس والظامئون وبيوت في ذلك الزقاق
وفيلم المنعطف للناقد والمخرج المبدع جعفر علي، من حيث المماثلة في نمط
الإنتاج القليل الكلفة، وعمق التناول الاجتماعي والسياسي، ونسج التفاصيل
المادية الملموسة والأحداث الفعلية المجسدة، مع ترميز جمالي في أدنى حدوده
ليكتسب الإخراج مظهر وملمس الحياة اليومية المعتادة ومن ثم النجاح والقبول
العاطفي الإنساني المتحقق خارج الجغرافية المحلية التي شهدتها هذه الأفلام.
وهذا مايدعونا للتأكيد مرة أخرى للنهوض بالسينما العراقية على وفق منهج
واضح المعالم مغاير يعنى بالفكرة من السيناريو إلى العرض باستخدام جماليات
التصوير ومراعاة الأهداف والقيم التي تتيح لنا الاتصال بالعالم بلغة تصدر
عن الروح وتخاطب الروح. الذي أريد قوله في كيان الفيلم المادي هنا:ثمة زمان
ومكان فيلمي ليس اقل مايكون مادية من مكان وزمان واقعي لاهو أكثر حقيقة ولا
اقل من الواقع المعيش. أي ان الواقع الفيلمي اقرب الى الصورة الوثائقية
شكلا كافيا في إبراز مضمون وضع هذا الشكل للتعبير عنه كحامل باتجاه
المشاهد. اما الحبكة الرابطة للحوادث الموصلة بالاقرب اليها لسرد مغزى
الحكاية او الموضوع السينمائي بلوغا للمضمون الذي ينطوي على الحبكة
والموضوع، فإنها أي حبكة الفيلم قد أمدت المشاهد العراقي وشملته بالتخصيص،
بالمعنى والدلالات لاستجواب الحقيقة ومن ثم الضمير الإنساني، ولا اظن ان
السينما العراقية ستتوقف عن تقليب أوجه هذه الحقيقة الكبيرة أكثر من مرة.
الفيلم في
شكله الفني انطوى على وعي حرفي وتفسيري مؤثر، مكنه من النجاح والقبول،
فحينما اطل علينا الفيلم من طقس العتمة التي خلت ذكرى بأذهان الأجيال
المعاصرة لازدهار دور العرض السينمائي المقفلة والمندثرة في بغداد. كان
الضوء مداهما ببدء الإيقاع من أول لقطة وقعت على الشاشة في مواجهه
إبصارنا.. انفجار هائل تتلوه انفجارات مصحوبة بارتفاع ألسنة النيران من
مباني بغداد وهي تتلقى القنابل هذه المرة من قوات التحالف. لقطات أرشيفية
شهيرة حدثت في جانب الكرخ، وإذا كانت اللقطات التأسيسية للفيلم أرشيفية،
فان معالجتها الحجمية واللونية روعي فيها التأثير والانسجام مع النسيج
الإيقاعي للقطات المتوالية التي تلت، لتكشف لنا عن زمن الحاضر، الزمن
الواقعي الذي تبدأ به سردية أحداث الفيلم.. مصح للأمراض العقلية تتساقط
عليه القنابل، ويعم المكان الهلع والصراخ والفزع وسط فوضى حركية من قبل
الكاميرا والشخصيات. لقطات عامة ومتوسطة وقريبة متقاطعة. وجوه وقبضات
ايادي. لقطات عامة ضاغطة لشاب يتحرك ويهذي. شابة ببدله الزفاف تمسك
بالقضبان الحديدية وتهزها بعنف معلنة عن أزمتها. من زمن الحاضر هذا المدمدم
بالإيقاع المتلاحق يبني مخرج الفيلم التماسك الزمكاني في ذهن المتلقي. يذهب
للماضي القريب ومن ثم العودة إلى الحاضر. تداعٍ يستهله بلقطات كبيرة على
وجه الشاب وهو يهذي ويلهج باسم احدهم، يخف إيقاع الصورة ويهدأ مجرى الصوت
لينساب سرد الواقع العياني كما تتراءى بداخله الشخصيات. هذه المقدمة
بتكثيفها الدرامي مهدت للتعرف على الشخصيات الرئيسية الثلاث وخطوطها
السردية وهي بداية الحكي الأولى والبداية الثانية عندما نذهب كليا الى زمن
الماضي.. علي جندي مكلف بأداء الخدمة الإلزامية، وأحلام فتاة جامعية تستعد
للزواج، والطبيب المعالج في المصح. كان اول لقاء لهؤلاء الثلاثة هو الكشف
الدرامي الأولي عن الشخصيات يجمعهم المخرج كاتب السيناريو في زورق لعبور
نهر دجلة دونما معرفة ثم يفرقهم بلقطة عامة مرتفعة وهم يغادرون الزورق
بثلاثة خطوط حركية على يمين الشاشة وعلى يسارها واخر يتقدم باتجاه
الكاميرا، خطوط تكوينية لبداية الحكي الثانية في زمن الماضي. ومن الجدير
بالذكر قبل الدخول بالسرديات الثلاثة ودلالاتها أكد المخرج على اسم أحلام
مرة للبطلة واسم الفيلم كعنوان مرة اخرى. وكانه بهذا التاكيد يريد القول ان
السياسة هي المسؤولة عن ضياع الأحلام وهي التي تعرقل خطط الحالمين عندما
تشتط وترتكب الأخطاء. وربما ونحن بدلالات الاسماء كإيقونات فان اسم علي
الجندي وما تعرض له يحمله البعض مالا يتحمل وربما العكس صحيح..بدليل ان
النضال السياسي المعارض للنظام الذي سقط بدخول قوات التحالف كما قدمه
الفيلم كان نضالاً دينياً تقوده طائفة بعينها وهو يظهر زوج أحلام مع بعض
الشباب مجتمعين وتبدو صورة فوتوغرافية للشهيد محمد الصدر بجانبهم فضلا عن
ان الطبيب يحول تاريخ أبيه السياسي المنتمي للحزب الشيوعي دون إكمال دراسته
العليا. وبهذا التقديم يكشف الفيلم جزءا من الدلالات في مغزى الحكاية
كحقيقة يرغب باستجوابها، قبل ان يدفع بالكشف عن النتائج لمقدمة الاحتلال
كحقيقة مفتوح استجوابها الى الان. وإذا كان لابد من إعادة شرح المشروح
صوريا بقصد ان يستفيد من لم يشاهد الفيلم فان مايجمع الخطوط الثلاثة في زمن
الحاضر داخل مبنى المصح أحلام والجندي علي والطبيب والحبكة هنا تقليدية
تدور حول البطل والبطلة اما الطبيب فيعتبر كدور ساند يكشف عن مغزى اشرنا
إليه. فأحلام التي يختل إدراكها اثر القبض على عريسها في ليلة زفافها
يبقيها المخرج إلى نهاية الفيلم في بدله العرس كدلاله رمزية وعندما تستباح
بغداد وتهيم أحلام في شوارعها الخاوية على عروشها عرضة للسلب والنهب من
اللصوص الذين يغتصبون أحلام في احد مبانيها تتوحد أحلام وبغداد في المعنى
ذاته الا ان الجندي علي يكشف هو وصديقه وهما في إحد مواقع الجيش الحدودية
عن أزمة النظام السياسي وعلاقته بالأجيال الشابة التي تتوق للهرب من الخدمة
والهرب من الوطن ومن الواقع المر. ازمة ذات دلالات اجتماعية خصوصا ان هذه
العلاقة قد كشف الفيلم عنها بمشاهد واقعية من أروع ما يمكن ان تسجله
السينما الواقعية العراقية بإعادة إنتاج الواقع الذي يجري على الناس. مثل
مشهد طريقة دخول الجنود الى الباص من شبابيك التهوية خوفا من التأخير عن
موعد الالتحاق بالخدمة في الوحدات المعروفة تبعاتها. ومشهد ايقاظ العسكريين
النائمين داخل الباص من قبل مفرزة الانضباط القاسية إلى ابعد الحدود في
التعامل مع المكلفين والعسكريين إجمالا.
علي الذي
يصل هو وصديقه إلى وحدتهما عبر محطات سجل الفيلم مشاهد جمالية عبر اسلوب
تصويري مدروس عند تعطل السيارة العسكرية وهم يكابدون مشقة دفعها في مشهد
شفقي (سلويد) ظلال سوداء لشخوص مكدودة تدفع سيارة عسكرية معطلة وهي تتسلق
مرتفعاً حركة جانبية من اليسار إلى اليمين أمام خلفية حمراء دامية تعبر عن
قدرة المخرج التصويرية وتمكنه من جماليات التصوير. واللافت للنظر هنا قدرة
هذا الفنان المبدع -محمد الدراجي-على تقديم عمل إبداعي متكامل من الفكرة
إلى العرض بجهود إبداعية فردية قل مثيلها لأنها خارج سياقات العمل
السينمائي الجماعي ولا ادري هل بالإمكان تكرار مثل هذا الجهد في نوع اخر من
أنواع الفيلم.؟!
عندما
انفجرت قنبلة داخل الملجأ وتمزق الصمت الذي كان فيه علي أمام إبريق الشاي
اثر القصف الناتج عن خلاف النظام السابق مع الأمم المتحدة عام 1998 وبقرار
من (كلينتون) بعد فوز الديمقراطيين قصفت بغداد ومواقع الجيش العراقي، في
هذا المشهد يكشف الممثل الشاعر بشير الماجد عن صدق أدائي اشره المختصون
بدقه وجسد فيه ارق استرخاء أمام الكاميرا وأجمل تعبير للذهول وهول
المفاجأة، اقترب في أدائه من الوثيقة التي يقف أمامها المشاهد متماهيا
لايفيق منه إلا بالثناء والإعجاب. وعندما ندرك وفقاً لتقنيات التمثيل
السينمائي ان الحالة الأدائية وبلوغ الذروة في تجسيدها إنما هي راكور
سيكولوجي، ندرك ان استمرار طبقة الأداء في المشاهد التالية تتطلب فطرة او
موهبة او قدرة تطبيقية عالية استحق بجدارة بشير الماجد ثناء المحكمين في
المحافل الدولية. وحينما يكون المقام غير هذا في الحديث عن الملكات
الإبداعية لهذا الأداء وصدق تنظيم مشاعره والحديث عن جماليات الفيلم إجمالا
يكون الحديث أوسع واشمل. ألا ان مشهد قطع أذن الجندي علي حينما يتهم
بالهروب أثناء القبض عليه وهو يحمل جسد صديقه الجريح الذي فارق الحياة اثر
رحلة رومانسية مريرة تنقلب إلى معاناة قدرية داخل السجون ومواجهة المحاكم
والحكم عليه بقرار قطع الإذن الذي سن لردع الهاربين من الخدمة فيكون هذا
الحدث ذروة الحبك النفسي والانهيار المعنوي المتسبب بالخلل العقلي من جراء
حجم الظلم الذي وقع على الشخصية. وهنا أسجل تقديراً كبيراً لفنان الماكير
(فوزي كاظم) الذي لااريد ان أقارنه بأي من الذين أبدعوا في مجال الماكياج
السينمائي، لانه كان كذالك ان لم يتفوق في عمله هذا إلى الإبداع المبهر .
ان الذين شاهدوا نماذج القطع للإطراف من جراء القصف، أذهلتهم نسبة الصدق
المئوية الكاملة التي حققها بمواد من بنات افكاره، وبكلف لاتصدق، وربما
مشهد قطع الأذن الذي ينفر منه المشاهد.. اذ انه قادنا بقدرته الإبداعية
العالية في ان يصور اللقطة بالحجم القريب بحيث نرى مشرط الجراح يقطع الأذن
والملقط ممسكا بالجزء المقطوع ويضعه بلقطة متواصلة على المنضدة فضلا عن
ماكياج تأثير الجو العام في جميع لقطات المشاهد الفيلمية، لقد رفع الماكياج
من قدرة وتأثير المشاهد الدرامية إلى المشاهد الحربية التي تحاكي مشاعر
قصديه بعينها، وقد نجح هذا الفنان القدير في اذاء المشاعر وبث الرعب فينا
ونال من المشاهدين الإعجاب والتقدير مثلما نال الثناء من محترفي هذه الحرفة
أينما عرض الفيلم.
يعود
الفيلم الى من حيث توقف في بداية ألحكي الأولى حيث ينتهي سرد ألحكي الماضوي
ويستأنف تدفق الحاضر الزمن الواقعي للفيلم ومغزى الحكاية ومضمونها بغداد
المستباحة من المحتلين والناهبين.. شوارع فارغة إلا من القتلة.. مشاهد
أعادت إلى الأذهان أيام الجنون.. أيام الانغمار بالذات وقلة الاعتراف
بالذات.. الجنون كما يصفه علي الوردي.وبتنا لانعرف من هو المجنون مجانين
تصون الممتلكات وتلملم جراحات بعض.. وآخرون يهتكون ويقتلون البعض، ماذا حدث
حقيقة يعاد إنتاجها وتبقى أمام التاريخ شاخصة للاستجواب.
المدى العراقية في 22
يناير 2008
|