انطلقت أمس الدورة السابعة والثلاثون لمهرجان روتردام
السينمائي الدولي تحت ادارة جديدة يتولاها روتغر وولفسن وذلك بعد استقالة
مديرة المهرجان السابقة ساندرا دين هامر في ايلول 2007. وتطرح هذه المدة
القصيرة نسبياً (أربعة أشهر) لتسلم وولفسن تساؤلات حول قدرته على طبع
المهرجان بخصوصيته ذلك ان القسم الأكبر من البرنامج كان قد اكتمل قبيل
تسلمه زمام الأمور. وليس ذلك بجديد على مهرجان روتردام الذي يعتمد أكثر من
غيره على اختيارات مبرمجيه المتخصصين في مجالاتهم الى حد تحول كل فئة
انعكاساً لذائقة مبرمجها من دون ان تفقد انسجامها مع روحية المهرجان. ولكن
نتيجة مساهمة وولفسن واضحة لاسيما من خلال اطلاقه شعار "الراديكاليون
الاحرار" للتدليل على كنه الدورة الحالية. ولئن كان التعبير الأخير يستعير
من علم الكيمياء وصفه للذرات التي تثير أحياناً ردود فعل شرسة، فهو ايضاًاي
التعبير ملتصق بعمل وولفسن لسنوات طويلة في مجال ادارة المتاحف الفنية
المعاصرة كما بمؤلفاته في هذا المجال. "الراديكاليون الاحرار" هم اذاً في
عرف الدورة الحالية لمهرجان روتردام سينمائيو الاسلوب والسينما الحرة الذين
يميلون الى التفلت من النظم المكرسة والتقنية المثالية التي تسوقها
الصناعات السينمائية للخروج بعمل "بدائي"، نقي، جديد وأحياناً صاعق. وتلك
تتجلى في برامج عدة أبرزها: "فنان في البؤرة"
Artist
in
Focus،
"سينمائي في البؤرة"
Filmmaker in
Focus،
"السينما المتفجرة"
Exploding
Cinema
و"البدء من الصفر"
Starting from Scratch.
في البرنامج الاول، يكرم كاميرون جايمي الفنان البصري الاميركي المتخصص في
تحليل وتوثيق العادات الفولكلورية والاشكال الثقافية الجديدة التي تنشأ على
هامش الحضارات مستخدماً وسائط مختلفة من الفيلم الى الرسم والتصوير
الفوتوغرافي مروراً بالفن الادائي. وخلال الدورة الحالية، ستُعرض ثلاثة من
أفلامه مع اداء موسيقي حي لفرقة الروك الاميركية "ذي ميلفينز". السينمائي
الاميركي روبرت برير هو محور البرنامج الثاني حيث سيقدم بعض افلامه الذي
يجمع بين الرسم والفيديو المنزلي ومقاطع من الصحافة والارشيف. اما السينما
المتفجرة فستجمع السينمائي التجريبي بول شاريتاز الى جانب جيل جديد من
التجريبيين تحت عنوان "الراديكاليون الاحرار". اما البرنامج الرابع، فيقدم
تجارب لمخرجين يشتغلون بموازنات ضئيلة جداً ويحققون أفلامهم بأنفسهم على
شكل تجهيزات او عروض.
الافتتاح
والمسابقة
ينسحب اسم الدورة الحالية "الراديكاليون الاحرار" بشكل ما على
فيلم الافتتاح ايضاً "حمل لله"Lamb
for God
للوتشيا سيدرون. والسبب ليس شكل الفيلم بقدر ما هو الموقف وراء اختياره.
فهذا فيلم اول يفتتح مهرجاناً عالمياً في ما يندر حدوثه في المهرجانات
الاخرى ويتبارى ايضاً في مسابقة جوائز النمر. وللتذكير فقط والمقارنة نشير
الى ان الدورة الماضية افتُتحت بفيلم فيرنر هيرتزوغ "فجر الانقاذ"
Rescue Dawn.
فيلم سيدرون يبدأ في العام 2002 باختطاف "أرتورو" السبعيني الذي يعيش مع
حفيدته. وحين تُطالب الاخيرة بفدية كبيرة، تُضطر للجوء الى والدتها
"تيريزا" المقيمة في فرنسا منذ السبعينات. تعود الاخيرة الى "بوينوس آيريس"
للمرة الاولى منذ خروجها من البلاد مرغمة بسبب اعتقالها بتهمة علاقتها
بالمعارضة لترجع الاحداث الى تلك المرحلة السياسية المضطربة. وللفيلم علاقة
مباشرة بمخرجته حيث ان والدها السينمائي خورخي سيدرون مات في ظروف غامضة في
السبعينات.
يتبارى الفيلم في المسابقة الرسمية مع اربعة عشر فيلماً آخر هي
الافلام الاولى او الثانية لمخرجيها كما تنص قوانين المسابقة التي انطلقت
في العام 1995. تأتي الافلام المشاركة من تشيلي وماليزيا والصين والدانمارك
والسويد وهاييتي واوكرانيا وهولندا وكازاخستان واليونان واليابان واميركا
وتايلندا والفيليبين.
ولكن الحق ان "الراديكالية" سمة لصيقة بمهرجان روتردام حتى قبل
ان يعلنها وولفسن شعاراً صريحاً للدورة الحالية وهي تكمن في مواضع عدة
ابرزها خيارات المهرجان المتعلقة بموقعه واختياراته اذ يشكل حالة خاصة بين
المهرجانات السينمائية العالمية. فهو مهرجان كبير باكتشافاته وثري
باختياراته ولكنه لا يتماشى مع المظاهر الرنانة للمهرجانات الأخرى. ولكنه
على الرغم من ذلك محط أنظار العديد من السينمائيين بسبب تحرره من القواعد
والقوانين وانفتاحه على التجارب الجديدة واهتمامه بالسينمائيين الشباب
وابتعاده من التنافسية والمفاضلة. الى مسابقة الأفلام الاولى والثانية،
تتجاور وتتحاور في فئات لا تقوم على المفاضلة بل على روحية الافلام.
والواقع ان فكرة التصنيف في خانات هدفها توضيح الصورة لرواد المهرجان. تعكس
فئات البرنامج الرسمي مواصفات المهرجان: سينما المستقبل في "ستورم أند
درانغ"؛ سينما العالم في "تايم أند تايد" حيث تعكس الأفلام مجتمعاتها وتقدم
صوراً من ثقافات لا نعرفها؛ الفئة الثالثة هي فئة "الملوك والمتفوقون"
Kings and Aces
أي أفلام المخرجين المؤلفين الكبار في السينما المعاصرة. اتبع المهرجان هذا
التصنيف قبل ثلاث دورات اي في العام 2005. قبل ذلك، كانت هناك فئة البرنامج
الرئيسي التي تتضمن قرابة 150 فيلماً. .
"ستورم
أند درانغ"او سينما المستقبل
يعرف المهرجان هذه الفئة بأنها فئة الاكتشافات والمواهب
الصاعدة والمحاولات المتجددة وهي الفئة التي تضم العدد الاكبر من الافلام
التي يصل عددها الى خمسة وستين فيلماً نعثر من بينها على شريط ويس اندرسن
The
Darjeeling
Limited
الذي يدور حول رحلة ثلاثة أشقاء الى الهند بحثاً عن المغامرة والروحانية
وانما ايضاً عن والدتهم. يحمل الفيلم بصمة اندرسن ويقع في صميم اهتمامه
بالثقافة الشعبية وهو محمّل بالموسيقى. بمحاذاته، يعرض اللبناني شادي زين
الدين باكورة اعماله الروائية الطويلة "وعلى الارض السلام" الذي يختزل
تجربة شَغُوفَة ومتفردة حيث أكب المخرج الشاب على تصوير فيلمه مشهداً مشهد
على مدى أكثر من ثلاث سنوات لضرورات يقتضيها الانتاج والتمويل وأخيراً خرج
بعمل خاص يحكي بيروت في فصول حروبها من خلال ثلاث حكايات منفصلةمتصلة. من
افلام هذه الفئة ايضاً، شريط جايسن رايتمن
Juno
الذي حاز اهتماماً كبيراً خلال الاشهر الفائتة من المهرجانات السينمائية
والنقاد والجمهور على حد سواء بسبب من موضوعه ومعالجته الحساسة. يروي
الفيلم حكاية المراهقة "جونو" التي تكتشف انها حامل وتقرر الابقاء على
الجنين ومن ثم عرضه للتبني لزوجين لا ينجبان. ألن بايج خصوصاً حازت اعجاباً
كبيراً في دور "جونو". في تشكيلة العروض هذه، يجد شريط اليابانية نايومي
كاواسي
The Mourning
Forest مكانه ايضاً بعد عرضه الافتتاحي في مسابقة مهرجان كان الفائت
وفوزه بجائزة لجنة التحكيم. يروي الفيلم حكاية رجل يتوه في غابة مع ممرضته
بحثاً عن مكان معين يحتفظ بسره. الفيلم التايلندي
Ploy
لبن إك راتاناروانغ هو الآخر جال مهرجانات عدة وحاز الجوائز وان كان يعاني
من الرقابة في موطنه التي قصّت معظم المشاهد الايروتيكية الصميمة في الفيلم
حيث يروي حكاية زوجين متباعدين تنفجر علاقتهما عندما يتعرف الزوج بشابة في
اوائل العشرينات تأخذه في رحلة بين الخيال والواقع. من مهرجان كان ايضاً
يأتي فيلم المكسيكي كارلوس ريغاداس
Still Lights الذي يدور حول قبيلة "مينونيت" التي تمارس طقوساً متشددة
فتعزل نفسها وتتقشف في حياتها بما يجعل من حكاية رجل متزوج يتورط في علاقة
مع إمرأة أخرى فعلاً شيطانياً في نظر القبيلة.
"تايم اند
تايد": سينما العالم
تقدم هذه الفئة افلاماً من حول العالم تُظهر الى حد بعيد
التزام مخرجيها الاجتماعي وحساسيتهم تجاه التحولات الكبرى وكيفية تأثيرها
على الحكايات الشخصية واساليب العيش الفردية. ويتصدر هذه الفئة شريط
التحريك
Persepolis
للايرانية مارجان ساترابي وفينسنت بارونو عن مذكرات الاولى طفلة في ايران
بعيد الثورة الاسلامية ومن ثم تجربتها في السفر الى خارج البلاد وعودتها
اللاحقة اليها. كما يُعرض الوثائقي
L'avocat de la Terreure
لباربي شرودر الذي يقدم بورتريه مذهلاً عن جاك فيرجيس الذي اشتهر محامي
دفاع عن شخصيات تتراوح بين جميلة بوحيرد وبول بوت. وثائقي آخر للاردني
محمود المساد "اعادة خلق"
Recycle يعرض في هذه الفئة متناولاً حياة مجاهد سابق في
افغانستان. وتطول لائحة الافلام العربية في هذا البرنامج فنقع على تجربة
المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد الاخيرة "خارج التغطية" عن علاقة
ثلاثية بين معتقل أفرج عنه وزوجته وصديقه وفيلم الجزائري أمور هكّار "البيت
الأصفر"
La Maison Jaune
عن عائلة بربرية تحاول متابعة حياتها بعيد مقتل ابنها البكر. كما يعرض
مواطنه عبد اللطيف كشيش شريطه الفائز في البندقية "أسرار الكسكس"
le Graine et
le Mulet
عن مهاجرين مغاربة في جنوب فرنسا. ويقدم المخرج العراقي الشاب محمد
الدرادجي فيلمه الوثائقي "حرب، حب، الله وجنون" الذي يوثق تجربته الروائية
الاولى "أحلام" في العام 2005 التي شكلت ثاني الافلام العراقية المصورة في
العراق بعيد سقوط حكم صدام حسين والذي عُرض في مهرجان روتردام قبل دورتين.
اما المغربي أحمد المعنوني فيقدم فيلمه "القلوب المحترقة" الذي يرافق عودة
شاب من باريس الى موطنه المغرب لزيارة عمه المريض بما يفجر ذكريات قاسية.
الى تلك الاعمال، تضم فئة "تايم أند تايد" تسعة أفلام هندية
تعرض بمعظمها لشؤون مجتمعاتها المعاصرة كالجنس والمافيا والعلاقات والدين.
"كينغز
أند آيسز": ملوك السينما
على الرغم من الفسحة الاكتشافية التي توفرها المهرجانات
السينمائية في العالم، لا تني الاسماء السينمائية المكرسة تشكل نقطة اجتذاب
اساسية حتى لدى هواة السينما الاصيلين الساعين الى الاكتشاف. لكأن تلك
الاسماء المعروفة تشكل الأرضية المتينة التي ينطلق منها اي مهرجان الى
اكتشاف المواهب الجديدة. فبدون توجيه تحية الى مايستروات السينما يبدو اي
مهرجان ناقصاً. يستفيد مهرجان روتردام من عدم التزامه بشروط المنظمة
الدولية للمنتجين السينمائيين بما يسمح له بدعوة افلام الكبار الى المهرجان
بعيداً من شروط العرض الاول وأحياناً بعد ان تكون قد جالت على المهرجانات
الكبرى. وثمة لاستضافة تلك الافلام وجه آخر هو التزام المهرجان تجاه جمهوره
المحلي بما يفرض عليه مراعاة متطلبات ذلك الجمهور والحفاظ على دوره كنافذة
يطل الاخير من خلالها على انتاجات السينما العالمية بكافة أطيافها.
والاحتفال هذا العام كبير بسينمائيين معروفين ببصماتهم الخاصة من طراز
ارمانو أولمي وتاكيشي كيتانو والكسندر سوكوروف واولريتش سايدل وآخرين. "ألكسندرا"
لسوكوروف يقدم صورة عن الحرب من وجهة نظر جدّة تذهب لزيارة ابنها في الجبهة
على الحدود الشيشانية. "قصة حب أستريا وسيلادون" آخر أفلام المحاضر في
الادب أريك رومر يعود من خلاله الى القرن الخامس عشر ليروي قصة حب بين راعي
فقير وفتاة ترفض حبه بسبب سوء فهم فيقرر الانتقام لإثبات مدى حبه لها. اما
كيتانو فيشرّع نفسه في
Glory
to Filmmaker
على السخرية ساخراً من نفسه ومن أعماله. بينما يطرح الايراني ابو الفضل
الجليلي في فيلمه "حافظ" حكاية حب خرافية في اطار معاصر بيم تلميذ للمفتي
توكل اليه مهمة تعليم خطيبة ابن المفتي اصول الدين. ولكن ينتهي الامر
بالاثنين عاشقين متيمين بما ينسبب بنفي الشاب في رحلة روحية. ويعرض
الاميركي تود هاينز في
I'm Not
There
لسيرة الفنان بوب ديلن من خلال خمس شخصيات مختلفة. كذلك يعرض الاخوان كوين
فيلمهما الاخير المؤثر
No Country For Old Men
ويقدم السينمائي المصري يوسف شاهين آخر أفلامه "هي فوضى" الذي يدور حول
فساد الشرطة وقد شاركه اخراجه خالد يوسف.
يرافق مهرجان روتردام السينمائي الدولي الممتد الى الثالث من
شباط/فبراير المقبل سوق الافلام "سينيمارت" الذي يستقبل هذا العام تسعة
وثلاثين مشروعاً تم اختيارها من بين خمسمئة وخمسين مشروعاً تقدمت للمشاركة
في اعمال السوق الذي يتيح للمشاريع السينمائية الروائية الطويلة ذات
الموازنات الضئيلة والمتوسطة الحصول على مساعدات انتاجية في مراحلها
المختلفة: كتابة، انتاجاً وما بعد الانتاج. من المشاريع التي سيبحثها مدعوو
السوق من منتجين وموزعين أعمال لأمثال الايرانيين جعفر باناهي (عضو لجنة
تحكيم افلام المسابقة ايضاً) وعباس كياروستامي والروماني كريستي بيو صاحب
الفيلم الفائز
The Death of
Mr. Lazarescu
وآخرين.
المستقبل اللبنانية في 25
يناير 2008
|