كادت المخرجة نادية كامل أن تقوم في نهاية ندوة جمعية نقاد
السينما لتسلم على الحاضرين شخصا شخصا، تشدّ على أيديهم وتعدهم جميعا أن
تكفّر عن ذنبها السينمائي وأن يكون مشروعها القادم عن فلسطين. هذا بالطبع
بعض من خيال كوميدي رافقني خصوصا حين تمثلتها تشد على أيدي منتفخي الأوداج
بكلتا يديها فيما تنكسر نظرتها أرضا من الخجل. لذا عندما استهلكت المشهد
بالكامل،وبعد أن قاطعني ناقد يرتدي البدلة والكرافات ملوّحا في وجهي، قالبا
منطق حديثي، مقولا كلماتي ما لم أقله، إنصرفت.
إنطلقت أستعيد مشهدا مشهدا من "سلطة بلدي"، الفيلم الملعون،
والذي أريق بسببه سباب نقدي لا يخلو من رطانة سياسية زاعقة. كان مقدّرا
لنادية كامل أن تضع كل جسدها الأربعيني في مزرعة النحل التي تطن بغثاء
مدّعي اليسارية والقومية والإسلاموية. فهي أبت أن تعتذر عن تاريخ لا ناقة
لها فيه ولا جمل، كونها إبنة يهودية شيوعية وأب شيوعي، ثم هي من جانب آخر
لا تذكر هذا التاريخ كوسام لا شعوري ترهب به الآخرين، بل تعبر عليه خفيفة
خفة من يذكر شيئا لماما. ولأنها تبتعد عن أماكن الشغف الطبيعية المناسبة
للثرثرة، لم تعجب أحدا، حتى الشيوعيين الذين بطبيعتهم ماسكو جمرات، دفنوا
أصواتهم، لتقول كاتبة شهيرة مروج لها بعناية ما معناه أنها رغم تمردها على
كل التابوهات إلا أنها تتمنى أن يبقى تابو التطبيع صامدا، ولا أعلم بأي
معنى وعبر أي عيون شاهدوا الفيلم؟
يبدأ الفيلم بمشهد ملخص للطاقة الشعورية الدافعة لإبداعه،
عندما تتحدث المخرجة عن أزمة يوسف إبن أختها الذي تخرج به صباح يوم العيد
للصلاة، لا لشيءإلا لكي يتواصل مع محيطه وثقافته. يُفاجأ الطفل وخالته في
نهاية خطبة العيد بالدعاء على اليهود والنصارى. هنا ومنذ تلك البداية
الصادمة تطرح المخرجة (الخالة) سؤال هوية إبن الأخت (نبيل)، الذي هو في
جانب كبير منه سؤال هوية تلك الأسرة متشعبة الجذور. فنبيل، إبن الثامنة، هو
نتاج زواج الأخت من احد أفراد أسرة شعث الفلسطينية ومن ثم فهو يعيش في وطن
أمه بهوية دون جنسية. سؤال مستقبل نبيل يتقاطع مع حكي الجدة نائلة كامل
اليهودية الديانة الإيطالية الجنسية. تمسك المخرجة (الحلقة الوسيطة في
أجيال الأسرة) بخيط الهوية المتضاربة وتضع أكثر مسائله تعقدا أمام
الكاميرا. تجلس الساحرة نائلة كامل سبعينية العمر بكامل تشوشها لتحكي قصتها
لحفيدها: كيف ولدت في بيت أسرة إيطالية من المهاجرين الحرفيين الذين جاؤوا
في لحظات السيولة الكونية إبان الحرب العالمية الأولى. تحكي فتتحلّل أمامنا
قاهرة العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات الكوزموبوليتانية. تخرج الجدة
صورها القديمة فيما الجد المصري، رفيق دربها، صامت، محترما صوتها الخاص
وتداعيها الحر. لا نسمع المناضل الشيوعي الكبير سعد كامل إلا لماما، وعندما
تطلبه الحكاءة للتأكيد على جزء ما، نكتشف أمام تجاعيد تلك المرأة وبلهجتها
المصرية المتكسرة التي لم تفلح السنين في رتق لكنتها الأجنبية، نكتشف كيف
ذبل ذلك التاريخ، كيف تحولت سردية ضد تاريخية (ضد التاريخ الرسمي بكل
تنويعاته، ذلك الذي يتناسى عن عمد المكون اليهودي في الثقافة المصرية،
والكفاح الشيوعي في لحظة إزدهار سياسي تاريخي، والتأثير الأجنبي الذي لم
يتبق أثر له إلا في واجهات مباني وسط البلد الأوروبية) الى كتلة بشرية
إعتقدنا فيما هي تذوب داخلنا أنها لاتحوي داخلها نواة صلبة ما. تخرج نائلة
كامل أوراقها وشهادة ميلادها التي نكتشف منها أنها كانت يهودية. يتشتت عقل
الصبي الصغير. جدته يهودية (إسرائيلية كافرة) ووالده فلسطيني. تحكي الجدة
كيف تحولت الى المسيحية، وهي غير المتدينة أصلا لا في اليهودية أو المسيحية
أو الإسلام. تحكي فيتعقد المشهد أكثر فتغامر الابنة المخرجة بسؤالها عن
الفرع الإيطالي في عائلتها والذين خرجوا بلا عودة الى إيطاليا وتقترح عليها
رحلة الى الوطن الذي لم تره إلا في رحلات المراهقة. تسافر الجدة بغرض أن
تحصل على الجنسية علّها تنفع حفيدها المعلق في فضاءات ما نتج عن مهازل
ديموغرافية سياسية في قرن. تصل الأسرة الى إيطاليا. يتحدث خال الجدة عن
إجباره على الخروج من مصر، عن موقفه من الثورة فنرى بعين مختلفة وخارج
تابوه الأجانب المحتلين الأثرياء كيف قضت إعادة بلورة الهوية المصرية
الثنائية الديانة وواحدة اللغة على التنوع البديع الذي عاشته مصر ماقبل
الثورة، وكيف تحولت نهاية الأربعينيات الى لحظة فاصلة في تاريخ من استوطنوا
مصر من الطبقة العاملة الأوروبية. فوجئ الخال بأنه بدون جنسية لدى وصوله
الى إيطاليا. ولم تعترف به بلده الأم أيضا. ظل الرجل في سجال قانوني طويل
كي يوفر لعائلته نفحة المواطنة الإيطالية. تدرك الجدة صعوبة موقف حفيدها
الذي هو في معنى آخر مبسط صعوبة موقفها أولا. يعودون الى مصر وقد تفتح
الحنين في ذاكرة الجدة الى أكثر المناطق إظلاما وارتباكا، أي باقي عائلتها
اليهودية التي خرجت من مصر بين عامي 1946 وبداية الخمسينيات. لكنهم خرجوا
هذه المرة الى إسرائيل. تبدو الزيارة أيضا مزدوجة المعنى حين نعلم أنهم
يحاولون بها أيضا الذهاب الى عائلة شعث ليرى الطفل عائلته المحاصرة. عند
هذه اللحظة الشائكة، وبالعودة الى قاعة العرض يحل صمت مريب، صمت من يخشون
مشاهدة إسرائيل حتى ولوعلى شاشة. تخلص نادية كامل للجدل المحتدم داخل
عائلتها حول الزيارة المرتقبة، ترفض الأخت الزيارة لكونها غير قادرة على
حسم موقفها.
العمات يتساءلن عن جدوى الزيارة بصدمة، يوزعن إرتباكهن بين
محبة الجدة التي ألفوها مصريا وتناسوا وصمة يهوديتها القديمة. الارتباك هنا
خشن تضعه المخرجة على السطح بفطرية. الزوج (الجد) في أجمل مشاهد الفيلم
يتحدث عن أنه لم يختلف يوما مع زوجته ومن ثم لن يرضى أن يتركها وحيدة.
تسأله الابنة: هل تخاف عليها من إسرائيل؟ يرد: لا. تذكره الزوجة أنهم بعد
اربعين عاما إختلفا مرة واحدة، في تدخين نوعين من السجائر.
عند هذا المشهد تحديدا تعلو همهمات من بعض الحاضرين. يتلمظ
كثيرون، بل يخرج بعضهم من القاعة في حالة الغضب، وكأن الفيلم لا يستقيم
منطقه وفقا لتوقعات المشاهدة المراهقة إلا إذا رفض الجميع السفر لإسرائيل.
أما الباقون فقد إحترزوا بقية جلستهم وهم يسنون سكينا في ظلامة عقلهم،
بنظرة بعيدة عن تشويش الهمهمات. لم تعط المخرجة فرصة لأحد، طائرة تهبط في
مطار حيادي، سيارة تقف أمام إحدى العمارات المجهولة، سلّم ضيق تصطف به
عائلة في إنتظار القادمين، قبلة وحضن ودموع لعجوزين إلتقيا بعد ستين عاما
من الفرقة، لغة عربية وفرنسية ويهودية وإيطالية تتواصل بها الأجساد
المحتدمة على فاصل بين الخوف والدهشة، الذكريات المدفونة تخرج، مشاهد
الخروج من مصر بصدفة والوصول المهين الى إسرائيل كما يحكون تربك أكثر. غرفة
أم كلثوم التي يدفن بها ابن خالة الجد العجوز نفسه من السادسة والنصف كل
يوم ليعود الى أجواء القاهرة في الأربعينيات، لقطة قريبة على صورة معلقة
لشباب الأسرة يرتدون زي جيش الدفاع. يتهكم أحد أبناء الأسرة الإسرائيلية من
جيل الوسط على شيوعية الجد المصري، لا تسلم الجلسة من توتر الأجيال
المعلّقة في فراغ الكراهية، خروج بوداع أسري صباحا في محاولة للعبور الى
أراضي أريحا. على المعبر يأمر ضابط إسرائيلي المخرجة بإغلاق الكاميرا بحسم،
الحسم الكافي كي لا تحاول الكاميرا تسييس المعاناة في أداة لا شعورية
للدفاع عن النفس (الفيلم).
تنتظر الأسرة في بيت أقارب فلسطينيين يفشلون في الوصول الى غزة
المحاصرة. تكشف الجدة وهي تحكي في أحد المطاعم عن إستحالة حلّ الأزمة. تحكي
وكأنها تحررت من عبء الكشف عن تلك المناطق المظلمة والمحرمة، ويبقى مصير
الحفيد نبيل معلقا في متاهة الجذور.
لا مبرر هنا للحديث عما تبع العرض من ندوة إنتفخت فيها عروق
رقاب البعض، كيف تحول النقاش كالعادة الى الموقف من التطبيع وحديث السم
والعسل، السم الخيالي والعسل المغبون، فلا مجال هنا كالعادة للسينما.
المستقبل اللبنانية في 27
يناير 2008
|