كان الأمر في حاجة الى فترة زمنية كافية – نحو ثمانية أو تسعة
أشهر هنا – حتى يمكن المرء ان يستوعب تماماً هذا العمل السينمائي
الاستثنائي في تاريخ الفن السابع. وعملية الاستيعاب لم تعد على أي حال
كونها الانتقال من استقبال هذا العمل كمزحة، أو مسألة لهو جماعي، الى
استقباله كما باتت الآن حاله، كجزء من تاريخ السينما في المقام الأول، ولكن
ايضاً كجزء من تاريخ كل واحد من السينمائيين الذين اشتركوا في صنعه.
العمل اسمه «لكل سينماه»، اما عدد المخرجين الذين «ساهموا» في
وجوده، فخمسة وثلاثون مخرجاً يشكلون في مجموعهم زبدة اهل السينما في زمننا
هذا. وهذا ما يجعل لـ «لكل سينماه» أكبر عدد من المخرجين في تاريخ الفن
السابع.
ولكن قبل ان يدهش القارئ ويخيل إليه انه امام عمل يتوخى الدخول
الى موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية، لا بد من التوضيح: طول الفيلم بالكاد
يزيد على الساعة ونصف الساعة، وهو في الأصل مؤلف من 35 مقطعاً طول كل منها
لا يزيد على ثلاث دقائق. وللوهلة الأولى – ومنطقياً – ليس لأية قطعة علاقة
بالتي تليها أو تسبقها. كل ما في الأمر ان الحكاية بدأت حين ارتأى جيل
جاكوب، رئيس مهرجان «كان» السينمائي أن أمثل طريقة للاحتفال بستينية
المهرجان، في دورة العام الفائت 2007، إنما تكمن في إعطاء ضوء أخضر لخمسة
وثلاثين مخرجاً، من أهل «كان» وكبار المخرجين الذين نالوا جوائز دوراتها
السابقة، كي يعبر كل منهم – في ثلاث دقائق لا أكثر – عن علاقته بالسينما.
منذ البداية لم تكن هناك شروط ولا قواعد. كل مخرج حر في اختيار
أسلوبه، حكايته، لغته، حبه للسينما أو كراهيته لها، أي جانب من ذكرياته
سيروي أو سيخفي. ما نتج من هذا كله، كما بتنا نعرف الآن هو الشريط الطويل
الذي نحن في صدده هنا. هذا الشريط عرض في «كان» ونال استحساناً عاماً.
غير انه وللوهلة الأولى، عومل على شكل فصل ترفيهي متعدد
الأوجه. عرض قطعاً متفرقة كما عرض مجتمعاً. دارت التكهنات في شأنه: هل يعرض
في الصالات لاحقاً أو على شاشات التلفزة؟ اين سيكون الإقبال عليه أكثر؟ هل
سيتعدى المهتمون به غلاة جمهور السينما الخاص أم يصبح عملاً شعبياً؟ ثم،
أية مكانة ستكون لهذا العمل في تاريخ السينما نفسه؟ جواباً على مثل هذه
الأسئلة تنوعت كتابات النقاد وتخميناتهم، لكن اللافت ان اكثرهم – وحتى
الأكثر جدية من بينهم – رأى في الموضوع طرافته لا أكثر... كما رأى غرابته
المدهشة ووجّهت تحية عامة الى جيل جاكوب على فكرته الجيدة. وبعد ذلك، بعد
ان انقضى المهرجان... دار بعض حديث عن الفيلم الجامع هذا، هنا أو هناك، ثم
نسي بعض الشيء. ولكن بعد ان انقضت شهور شغل فيها أهل السينما وجمهورها،
بأفلام جيدة – معظمها سياسي مميز أتى من الولايات المتحدة مناهضاً لسياسات
الإدارة الأميركية وهو عادة موضوع مثير للجدل و... الإعجاب العام -، ها هو
الفيلم يبرز من جديد. ها هو «لكل سينماه» يتخذ معاني ودلالات جديدة. لم يعد
جزءاً من الحدث، صار جزءاً من السينما، وفي شكل أكثر وضوحاً: جزءاً من
علاقة السينما مع نفسها. وهذا هو الجانب من الفيلم، الذي سيعيش من الآن
فصاعداً بالتأكيد.
السينما
وطفولتها
نعرف، طبعاً، ان السينما منذ طفولتها انشغلت بذاتها وأمعنت في
تصوير حكايات تحكي عن السينما. وكأن بعض الشاشات في هذا الإطار اصبح مرايا
مزدوجة السطح، تصور الحياة والسينما، ثم السينما والحياة في لحظة تكعيبية
واحدة. وعلى مدى قرن كامل هو، اليوم، عمر الفن السينمائي الجاد، تطور
اهتمام السينما هذا بنفسها وصارت افلام السينما السينمائية نوعاً قائماً في
ذاته، لا يكتفي بأن يثير فضول المتفرجين وإعجابهم، بل يتيح لبعض كبار
المخرجين ان يحققوا بعض اجمل افلامهم. نقول هذا ونفكر طبعاً بأناس من طينة
دزيغا فرتوف («رجل الكاميرا») وبيلي وايلدر («صانست بوليفارد») وفنشنتي
مينيللي («أسبوعان في مدينة أخرى») وصولاً الى الذين مزجوا بين النوع هذا
وبين سيرتهم الذاتية، من فلليني الى يوسف شاهين وعشرات غيرهم.
ولا بد من ان نقول هنا ان معظم مخرجي هذا الصنف، أو هذا الصنف
وتفرعاته، ابدعوا في هذه الأفلام بالتحديد، لأن حياتهم والسينما هما الشيء
الذي يعرفونه أكثر من أي شيء آخر في وجودهم. لن نسترسل هنا في الحديث عن
نوع سبق ان جرى حديث كثير عنه. لكننا سننتقل الى ما يعني «لكل سينماه» من
هذا الحديث. ذلك ان جيل جاكوب، حين أعطى هذه الفرصة لمبدعين كبار من مبدعي
زمننا هذا، ليحققوا شرائط قصيرة عن السينما، عن سينماهم، وأعطاهم حرية
التعبير كاملة، أفلت من الأسر عشرات المواضيع والصور والرؤى التي كانت
مخبوءة في داخل كل واحد منهم، لتبدو النتيجة اشبه بجنون جرت عقلنته
ابداعياً. أو بلعبة كلمات متقاطعة. ذلك ان كل واحد من المخرجين الآتين من
القارات الخمس ومن أكثر من دزينتين ونصف الدزينة من البلدان والثقافات
والتواريخ، حين وجد نفسه وقد طُلب منه ان يضع «علاقته» بالسينما في قالب
محدود زمنياً، مفلوش إبداعياً، رأى ان الشيء الوحيد الذي يمكنه ان يضعه في
ذلك القالب، هو علاقته مع ذاته السينمائية. ومع تكون هذه الذات في المسافة،
اللامحدودة، التي تفصل بين عينه الآن وعينه ذات لحظة سابقة، وبين الشاشة.
بعد هذا لا يهم إن كانت هذه «الشاشة» شاشة القرية الأولى، حين
شاهد الطفل الذي كانه مبدع اليوم فيلمه الأول (شين كيغي)، أو شاشة مهرجان
«كان» حين تحقق له، بعد انتظار 47 سنة حلم الفوز في ذلك المهرجان (يوسف
شاهين) او شاشة يرمي عليها ذاته وهموم ذاته وإن بطريقة مرحة (ناني موريتي)
أو شاشة يسجل من خلالها احتقاره للحاضر التلفزيوني (كين لوتش). أو شاشة
غائبة تنظر هي الى الصالة وما يدور فيها (تهكم لارس فون تراير على من
يختارون صالة السينما للثرثرة خلال عرض الفيلم واستمتاع الآخرين به)؟ أو
شاشة للطبقة العاملة (آكي كورسماكي) أو شاشة يفرغ عليها خياله من حول مشاعر
نساء إيرانيات، امام خاتمة فيلم روميو وجولييت (كياروستامي). أو شاشة يقف
راعي البقر حائراً فيها بين ان يشاهد فيلماً نخبوياً فنياً أو فيلماً
نخبوياً فنياً آخر (واحد لرينوار والثاني للتركي نوري بلغي جيلان)، هي
دائماً الشاشات نفسها وربما ايضاً العلاقة بالسينما نفسها، ومع هذا تبدو
الهوة كبيرة بين لقاء يجمع جان مورو بمارتشيلو ماستروياني (شريط ثيو
انغلوبولوس) وشريط يصور فيه هسيو هيساوهسيين دخول عائلة الى صالة السينما،
أو ثالث لدافيد كروننبرغ تعبر فيه الشاشة كلمات تتحدث عن «مقتل آخر يهودي
في العالم في آخر صالة للسينما في العالم» وربما رابع يصور فيه اندريه
كونتشا لوفسكي قوماً عاديين يشاهدون فيلماً غير عادي هو «ثمانية ونصف»
لفلليني. هنا بالتحديد مع هذا الشريط يتضاعف عدد المرايا المتقابلة في شكل
لافت، ذلك اننا نعرف ان «ثمانية ونصف» إنما هو واحد من أكثر الأفلام التي
تحدثت عن علاقة مبدع سينمائي بسينماه، بل أكثر من هذا: عن عجزه عن تحقيق
سينماه. إذاً؟
معجزة
صغيرة
لن نقول هنا ان هذه الأفلام في مجموعها، أو كلاً منها على
انفراد، تصلح لأن تستخدم كجزء من سيرة صاحبها، أو سيرة علاقته بالسينما.
سينماه أو سينما الآخرين، ولكن من المؤكد اليوم، بعد اشهر عدة من عروض
الفيلم وضجته الأولى، ان كل هذه الشرائط انما تبدو في نهاية الأمر وكأنها
تنتمي الى متفرجي السينما انفسهم، الى طفولتهم وعلاقة هذه الطفولة
بالسينما. ثم علاقة شبابهم بها ذلك أن تجربة مشاهدة هذه الشرائط معاً،
اليوم وقد نسي مبرر وجودها الأساسي وحكاية هذا الوجود، من شأنها ان تضع
المتفرج، كل متفرج، امام تاريخه السينمائي الخاص، ما يجعل ترتيباً، أو
إعادة ترتيب للأفلام، جزءاً اساسياً من ذلك التاريخ؟ اما مشاهدتها في ترتيب
عشوائي فإنها كفيلة بأن تضع المشاهد امام لحظات من ذاكرته السينمائية تومض
هنا وهناك، وفي الأحوال كافة امام علاقة متجددة بذاكرته السينمائية تقول له
مباشرة كم ان السينما تشكل جزءاً اساسياً من تاريخه، من ذاكرته ومن وجوده.
وهذه في الحقيقة، معجزة صغيرة حققها فيلم من المؤكد ان صانعيه، بمن فيهم
صاحب فكرته الأساس، لم يخمنوا وجودها. ترى، هل خمّن العاملون على بناء
الكاتدرائيات الضخمة، زمن بنائهم لها، انها ستكون لاحقاً جزءاً دائماً من
وجودهم واستمراراً لهذا الوجود بعد ان رحلوا وغابوا في نسيان الأزمنة؟
الحياة اللندنية في 1
فبراير 2008
|