الحلقة الثانية من قراءة السيناريوهات المرشحة للأوسكار.
الأولى دارت حول تلك التي كتبت للسينما خصيصاً. أما هذه الحلقة الثانية فهي
عن تلك التي تم اقتباسها من مصادر أخرى
قبل أسابيع قليلة ألقيت محاضرة في عاصمة عربية حول الاقتباس
السينمائي مع إتخاذ فيلم “عمارة يعقوبيان” لعلاء الأسواني نموذجاً. وقام
المحاضر بالمرور سريعاً (جدّاً) على تاريخ العلاقة بين المصادر الأدبية
والسينما ليخلص إلى أن هناك ثلاثة مفاهيم فيما يخص هذه العلاقة: واحد يصر
على أن يأتي العمل السينمائي أمينا، والآخر يصر على أن يأتي منفصلاً
والثالث يسعى للإبقاء على شعرة معاوية بين الرواية والسينما.
الحقيقة هي أن المسألة أعوص بكثير مما ورد وفيها خدود وشرايين
كثيرة تتعدد فيها الحالات والآراء. والحقيقة الأخرى، هي أن هذه الطروحات
للموقف المؤيد وذاك المعارض لعلاقة السينما بالنص الأدبي ما زال موجوداً
بفعل استمرار اعتماد السينما على نوعي الكتابة لها، وهما الاقتباس والكتابة
الأصلية غير المقتبسة. أما الموقف الثالث، موقف شعرة معاوية، فهو لم يكن
دوما ذا بال مهم في شأن هذه العلاقة ولا احتل حيّزاً من البحث العلمي
والنظري في السينما لأنه ملجأ آمن وسهل لا يمكن له أن يشكّل محوراً بذات
العمق والدلالة.
الأفلام الأمريكية الخمسة المرشّحة لأفضل سيناريو مقتبس تقول
الكثير في هذا الشأن على أي حال. والمحور الجامع بينها -لجانب أنها كلها
مقتبسة من مصادر مكتوبة مختلفة- هو أن حجم الاقتباس متفاوت من فيلم لآخر.
فالواقع أن لا يوجد كاتب سيناريو يستطيع أن يطلق على نفسه هذا اللقب بجدارة
يرضى بأن يحبس نفسه بين ضفتي كتاب أو أن يقول إنه يقتبس بتحرر كامل. ذلك أن
الشرط بالنسبة لكاتب سيناريو يعمل نقلاً عن كتاب هو مصلحة الفيلم المنوي
وإذا كانت المصلحة تقتضي الأمانة فليكن وإذا كانت تقتضي التحرر بنسب مختلفة
فليكن. المهم -في حالات الاقتباس كلها- أن المادة الأصلية لا تزال المرجع
الواضح، وأن السيناريو هو الوسيط الصالح للنقلة المزمعة من الكتاب إلى
الشاشة.
الأفلام
المرشّحة في هذا السياق هي:
-
تعويض
Atornemant/
-
بعيداً عنها/
Away
From Here
-
الغطّاس والفراشة/
Diving
Bell and the Butterfly
-
لا
بلد للمسنّين/
No
Country for Old Men
-
سيكون هناك دم /
There
Will be Blood
النقد التالي للسيناريوهات مبني على مشاهدة الأفلام وقراءة
سيناريوهاتها وقراءة الكتب الأصلية (باستثناء واحد هو “الغطّاس والفراشة”)
تعويض
سيناريو:
كرستوفر همبتون
الأصل:
رواية لإيان ماكايوان.
نبذة: كذبة فتاة صغيرة تؤدي إلى مأساة تعاني منها شقيقتها
والشاب الذي تحبّه لما بعد زواجهما.
“تعويض” هو حالة فريدة بين السيناريوهات المرشّحة من حيث إن
النيّة لدى المنتجين ولدى المخرج جو رايت كانت إنجاز فيلم أمين للرواية
بقدر ما يمكن. لذلك حينما كتب همبتون السيناريو الأول واجتمع مع المخرج
لمناقشته انتهى الاجتماع بإصرار المخرج على أن يعيد الكاتب كتابة كل
السيناريو (وليس فقط تصحيحه في أجزاء منه) ليأتي العمل شبيهاً بالأصل. الذي
كان في بال المخرج هو أن ينقل ذلك المرور عبر الأزمنة الذي ميّز الكتابة
لأن هذا المرور، حسب وجهة نظره، هو أحد أهم مميّزات الرواية. وما كتبه
همبتون كان معالجة متوالية ذات خط زمني واحد. أيضاً لكن ومع أنه أعاد
صياغة السيناريو بأكمله على مضض بادئ الأمر الا أنه أحب ما لجأ اليه
وتبنّاه. على ذلك، هناك اختلافات أهمّها التخلّي عن لغة المخاطب في الفيلم
رغم وجودها في الرواية.
كرستوفر كان لابد أنه وجد نفسه في مواجهة الكثير من
التحدّيات من بينها أن الرواية منقسمة إلى قسمين والقسم الثاني يكفي لأن
يكون قائماً بحد ذاته فهو يحتوي على الفصول الثلاثة الرئيسية في العمل
الدرامي التقليدي (بداية، الحبكة ثم الخلاصة) وهو قرّر أن يعمد إلى ما
يوحّد أكثر بين هذين القسمين.
بعيداً
عنها
سيناريو:
سارا بولي
الأصل:
قصّة قصيرة لأليس منرو
نبذة: امرأة متزوّجة منذ أربعين سنة تفقد ذاكرتها. في المصح من
دون زوجها لأول مرّة ومن دون ذاكرتها تقع في حب رجل مقعد.
هذه الدراما التي أخرجتها سارا بولي مقتبسة بأمانة عن القصّة
القصيرة التي نشرتها
أليس منرو في مجلة “ذي نيويوركر” سنة 1999. حين شاهدت الكاتبة
الفيلم صرّحت بأن الفيلم لم يحدث تغييرات كثيرة في السيناريو إذ “لا يزال
الفيلم يصوّر الازدواجية في الحياة فالحب والزواج يستطيعان جلب الكثير من
السعادة لكنهما أيضاً خسارة وألم”. ما وجدته المخرجة التي كتبت السيناريو
بنفسها واضحاً هو هذا المفهوم على حزنه. في السيناريو
الذي وضعته هناك ذات المحطّات الزمنية والحدثية. وهي حتى لو
رغبت في التغيير فإن مجالات القصّة القصيرة التي من شأنها تمكينها من هذا
التغيير محدودة. هنا الأمانة ناتجة عن أن القصّة مكتوبة باقتصاد وبكثير من
الشرح النفسي والعاطفي لذلك فإن الباقي هو اتّباع الأحداث والمفارقات
المحدودة تلك.
الغطاس
والفراشة
سيناريو:
رونالد هاروود
الأصل:
كتاب مذكّرات وضعه الصحافي الفرنسي جان- دومونيك بوبي.
نبذة: سرد الصحافي ما حدث له بعد إصابته بنوبة نتج عنها شلل
تام منعه من تحريك أي شيء باستثناء جفنه الأيسر. بهما وضع الكتاب.
السيناريو المكتوب تطلّب الكثير من الجهد لكن ليس الجهد
الموازي للصحافي الذي اتفق مع الكاتب التنفيذي على آلية العمل: لقد قسّما
الأحرف الفرنسية إلى أرقام. الحرف
A
يتطلّب
رشفة جفن واحدة. حرف
B
رشفتين
وهكذا (مجموع الرشفات نحو 200 الف). ما نجده في سيناريو الكاتب هاروود هو
متابعة لحياة المقعد واستحواذ تلك الفرص الواردة في الكتاب للخروج من
المكان الواحد. هذه الفرص عبارة عن ذكريات وخواطر الكاتب عن حياته قبل
إصابته.
هاروود كاتب جيّد وضع “عازف البيانو” و”أوليفر تويست”
(أخرجهما رومان بولانسكي) لكنه هنا يواجه مهمّة مختلفة وعسيرة ولو أنه
نفّذها جيداً. على أن جهد المخرج جوليان شنابل يطغى على العمل (نال شنابل
جائزة أفضل مخرج في مهرجان “كان”)
لا بلد
للمسنين
سيناريو:
جوول وإيثان كوون
الأصل:
رواية من تأليف: كورماك مكارثي
نبذة: صيّاد في صحراء تكساس يجد حقيبة مملوءة بالمال نتيجة
عملية مخدّرات فاشلة. يهرب بها فيلحقه قاتل لا يرحم وشريف يحاول إنقاذ
حياته.
يكتب كورماك مكارثي (الذي نقلت السينما رواية سابقة له هي “كل
تلك الجياد الجميلة”) مرثياً الغرب والماضي الذي انتهى. يخاف من الحاضر
لكنه يحب من بقي -مثله- حيّاً فيه وحيّاً في أمسه أيضاً. سيناريو الأخوين
كوون اللذين أخرجا الفيلم أيضاً مفصّل. يختار من القصّة أحداثها لكنه يلعب
قليلاً بشخصياتها فإذا هي كرتونية أكثر مما تستحق. لكن القصّة من القوّة
بحيث إن الفيلم لا يمكن أن يحتفي بها خصوصاً وأن كورماك كتب روايته بأسلوب
بصري سهل النقل إلى السينما. الحوار نقطة ضعف أخرى لأن كاتبي السيناريو كان
عليهما إعادة صياغة ما وضعه الكاتب والكاتب قليلاً ما يعمد إلى الحوار
ويكثر من الوصف. إلى ذلك، فإن نهاية السيناريو هي أضعف من نهاية الكتاب.
سيكون
هناك دم
سيناريو:
بول توماس أندرسون.
الأصل:
رواية لأبتون سينكلير وعنوانها “نفط”.
نبذة: بطل الفيلم صاحب آبار نفط بنى نفسه بنفسه وفي خضم
انشغاله بتعزيز ثروته ومحاربة منافسيه ينزوي على نفسه وينتهي وحيداً.
إبتون سينكلير كان كاتباً يسارياً والرواية التي وضعها باسم
“نفط” تحتوي على هجوم على الرأسمالية وتضع بين الشخصيات الرئيسية شخصية
نقابي شيوعي معاد لبطل الفيلم. بول توماس أندرسون الذي أخرج الفيلم عادة ما
يكتب سيناريوهاته من وحي خياله وهذه هي المرّة الأولى التي يقتبس فيها
عملاً. وقد أحسن عملاً حين قلل من الشخصيات الرئيسية ليحصر اهتمام المشاهد
بالشخصية المحورية التي يؤديها على الشاشة دانيال داي-لويس.
إلى ذلك، ابتعد عن المقاطع ذات الخطاب المباشر واكتفى بصياغة
فيلم تستطيع أن تتوصّل عبره إلى ذات النقد السابق بلافتات أقل.
أوراق ناقد
...
مهرجانات ذات "أجندة"
المهرجانات العربية التي تقام في العواصم والمدن غير العربية
ليست كثيرة. ومن يقول انها كافية لا يعرف بعد معنى أن يكون للفيلم العربي
مهرجان ناجح في العالم. وربما لا يعرف -حتى الساعة- أهمية السينما في تجاوز
أخطاء السياسيين والإعلاميين ومحن الزمن.
هناك
مهرجان في سان فرانسيسكو وآخر في روتردام ومحاولة خجولة في كل من لندن
وبروكسل. في المقابل أغلق أنجحها وأهمّها على الإطلاق، وهو “مهرجان الفيلم
العربي في باريس” أبوابه. عقود من العمل والمواظبة والطموحات لم تجد في
الميزانية الجديدة مكاناً ولا في أجندة رئيس جديد مطرحاً. طار المهرجان ومن
كان يديره.
في المقابل أيضاً، سأعد من الذاكرة، ومن دون الرجوع إلى
المواقع الإلكترونية لاحصاء دقيق، المدن التي يُقام فيها مهرجان الفيلم
اليهودي: سيدني، لندن، باريس، روما، تورنتو، مونتريال، مدريد وفي نحو خمسة
عشرة مدينة أمريكية رئيسية أو شبه رئيسية: نيويورك، سان فرانسيسكو، لوس
أنجلوس، ميامي، لويزيانا، شيكاغو، فينكس، سان دياغو، بالم سبرينغز، بوسطن
الخ...
المهرجانات اليهودية ليست مقامة لأجل الإشادة بفن السينما، لكي
تبيع أفلامها إلى الأسواق التي تعرض فيها، بل هي مقامة لخطّة ثقافية واضحة
تشمل التعريف بالثقافة والفن “الإسرائيليين” وتعزيز وجودهما كخطاب فكري
معبّر عن الهوية اليهودية (البعض من الزملاء ينكر وجودها لكن لن ندخل في
مسألة ما إذا كانت موجودة أو لا- المهم أنهم في الكيان الصهيوني يعترفون
بها) وعن الدولة “الإسرائيلية”.
ولاحظ: مهرجان الفيلم اليهودي النشط هذا هو غير المهرجان
النشط الآخر المسمّى مهرجان الفيلم “الإسرائيلي”. هذا الثاني يتعاطى
الأفلام المنتجة “إسرائيلياً” وهدفه التعريف وضمن التعريف الإعلان عن
الحياة في “إسرائيل” من دون الوضع الفلسطيني غالباً. مهرجان الفيلم اليهودي
يضيف إلى هذه الغاية استيعاب أفلام يهودية غير “إسرائيلية” الإنتاج. بذلك
هو يعرض أفلاماً من داخل الدولة العبرية ومن خارجها وتتضمن أفلاماً عن
الهولوكوست وأخرى عن الحياة في “إسرائيل” وثالثة عن شخصيات يهودية
“متميّزة” و”فريدة” حول العالم الخ.
لأنهم يعملون في تناسق تام ولأنهم يستطيعون اتهام أي طرف آخر
بالمعاداة للسامية في إبتزاز واضح، ثم لأنهم نجحوا في طمس التاريخ وتحريف
الحقائق، فإنهم ينجحون في الوصول إلى حيث يريدون إقامة هذا الاحتفال
الدعائي طوال أيام السنة. الأفلام، في غالبيّتها، تنتقل من هذه المدينة إلى
تلك ليتأكد أن رسالاتها تصل إلى كل الناس.
أما نحن... يا للمهزلة.
مهرجاناتنا العربية خارج الدول العربية تعمل على المازوت.
تعيل نفسها ببعض المال وتشحذ البعض الآخر. تنطلق على نحو عشوائي لأن عملية
حصولهم على حفنة أفلام صعبة وخمسين بالمائة من نتائجها فاشلة. معظم
السينمائيين لا يستجيبون والكثير من المؤسسات الحكومية لا تتحرك أو تكترث،
والموظفون فيها لا يُبالون. وليس هناك من منهج واحد. ولا من تعاون فيما
بينها على الإطلاق.
المهرجانات العربية ليس لديها سوى أدنى حد من القدرة على
الإيفاء برسالاتها: ليس فقط أن عدد الأفلام العربية الجيّدة محدود (رغم
أننا ما شاء الله مؤلّفون من أكثر من سبع عشرة دولة) والسبب في أنه عدد
محدود أن معظم الدول العربية لا تكترث لأن تكون لديها صناعة سينمائية لا
خاصّة ولا عامّة. ليست هناك حوافز وليس هناك مفهوم ولا هدف أسمى ولا حتى
مفهوم أقل من أسمى.
وأنا متأكد من هذه الفوضى والتشرذم وعدم وجود الغاية النبيلة
ولا الهدف الثقافي ولا الحافز لمستقبل أفضل، موجود في كل القطاعات الأخرى.
نحن جماعات تجيد دوماً أن تتظاهر وتتصرّف بعاطفية جياشة في بعض الأمور فقط،
لكنها لا تملك أي مفهوم تطبيقي للحياة على الأرض.
مهرجاناتنا العربية الصغيرة والخجولة لا تستطيع أن تكبر لكل
الأسباب الواردة أعلاه وبالتالي لا يستطيع الإعلام العربي الصحيح الوصول
إلى العالم كما يجب. الذي يصل أكثر من غيره هو ذلك الإعلام الناتج عن سقوط
عالمنا في براثن عنف المتطرّفين وقيامهم بخطف الإسلام وتخويف الشعوب الأخرى
منه وبالتالي قيام ردّة فعل هناك ضد الإسلام والمسلمين.
م.ر
email: merci4404@earthlink.net
Blog: shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في 3
فبراير 2008
|