مايك نيكولز، العائد بعد غياب قصير (من أفلامه الأخيرة
"أقرب")، هو الآخر
يحاكم السياسة الأميركية الرعناء في شريطه الاوريجينال "حرب تشارلي
ويلسون"، محوّلا
كتاباً ملحمياً للصحافي جورج كريل بصفحاته الخمسمئة الى عمل
يتخطى بالكاد التسعين
دقيقة، وفي الواقع هو لا يزعج أحداً. بيد أنه يفعل فعلته مواربةً ومستخدماً
الفكاهة
والسخرية أبجديةً للمرافعة. على نقيض هاغيس الذي يعاين التأثيرات النفسية
لحرب
العراق في نفوس المدنيين، يختار نيكولز وجهة نظر اصحاب القرار
والنفوذ في قلب
الأزمة. بداية، ينتابنا احساس مغلوط بأن الفيلم مديح مجاني لسياسات أميركا
الخارجية، لكن تراكم الطرائف والنكات، بالاضافة الى المشهد الختامي، عظيم
الدلالات،
إذ يظهر المقلب الآخر للمجد الاميركي، ويجعلنا ندرك أننا في
صحبة هجاء سياسي من
طراز رفيع. لا بل أكثر من هذا، لأن نيكولز يلسع ولا يداعب، وذلك منذ انطلاق
الفيلم
حين يرينا تشارلي ويلسون في الجاكوزي مع نساء عاريات الصدر وأصدقاء له
يناقشونه في
السياسة بين شمّة كوكايين وأخرى. يصوّر نيكولز كواليس
الديبلوماسية والامكنة التي
تُصنع فيها القرارات الكبرى، والأكيد انه لا يختار البانيو والحمّام
والبارات من
طريق المصادفة. فالحروب هنا تخاض من بعيد، بين كأسين من الويسكي المعتق.
أما لوردات
الحرب والسلام فهم أشبه بأبطال مسرح الدمى، وسكرتيراتهم شبيهات
بعارضات "بلايبوي"
الممتلئات أنوثة. في هذا "الماخور" السياسي، يرى نيكولز مناسبة لا تتكرر
للكلام عن
العلاقة بين الحرب والجنس.
لكن من هو تشارلي ويلسون هذا (توم هانكس، ممتع
كعادته، وخطير!) الذي يرفع الفيلم اسمه باعتزاز؟ اضافة الى
كونه نائباً من تكساس في
الكونغرس الاميركي، فهو داعم كبير للاجهاض، ومناهض للشيوعية، جمهوره ذو
غالبية من
السود، وله خيارات سياسية ليبيرالية. في ذلك المساء، وفي الجاكوزي تحديداً،
سيكتشف
ويلسون صراع الافغان مع السوفيات، وهو يلقي نظرة خاطفة على
التلفزيون. مذاك ستكون
هذه قضيته وستسانده فيها مليارديرة متعصبة دينياً (جوليا روبرتس) وعميل في
وكالة
الاستخبارات الاميركية من أصول يونانية (فيليب سايمور هوفمان).
ثلاثية سيحطم
نيكولز من خلالها الرقابة الهوليوودية البدائية، على الأقل ما هو محظور
شفهياً. أما
ويلسون، فمعهما سينجح في طرد الدبابات والطائرات السوفياتية خارج كابول.
نحن في
مطلع الثمانينات وتتمة الرواية التاريخية أشهر من أن تحكى.
سيزوّد الادارة
الأميركية المجاهدين ما يلزم لمحاربة "العدو" الروسي (يقول كريل في كتابه
إن وكالة
الاستخبارات الاميركية درّبت أنذاك ثلاثمئة ألف مجاهد أفغاني).
طوال مدة الفيلم يظل
نيكولز تحت سقف الكلاسيكية الانيقة، حتى في مشاهد التحليق بالطيران وتجسيد
النزاع
بين الافغان والروس. لكن سرعان ما يغرق في نزعة إخراجية تسعى
الى اصابة الهدف، لأن
كل
لقطة هنا لها وظيفة محددة. والأهم انه يعود الى معاينة أصل العلاقة بين
الولايات
المتحدة والشرق الاوسط، من دون أي مشاعر أو انفعال أو حتى محاولة بسيطة
لتلقين دروس
في التاريخ.
وسط هذا الوضع المتأزم، يبحث نيكولز عن حجج للضحك والازدراء،
وينبغي القول إن السياسة الاميركية أرض خصبة يزرع فيها نيكولز
نظرته تهكماً ولؤماً.
مع ذلك لا
ينزلق في نوع من سينما أخلاقية، مكتفياً بطرح مواقف عبثية توضح الصورة،
غامزاً من قناة المؤامرة التي يحوكها الاقوى ضد الاضعف، دائماً. يؤكد أيضاً
ما كنا
نعلمه أن السياسة فن استعراض القوة والتضييق على الاحتمالات،
وينجح في اتمام مسرحية
بولفار (مصوّرة) على خلفية المأساة الافغانية - الروسية والديكتاتورية
العسكرية في
باكستان. بانسجام كبير مع منطق الفضيحة، تتسلل كاميراته الى
صالونات واشنطن
والسفارات حيث تحاك المؤامرات وتجري التسويات والمساومات، ولا توفر عملية
كشف
المستور بعض حكام الشرق (الباكستاني ضياء الحق) الذين لا يمانعون التعامل
مع
اسرائيل شرط أن يكون في السر وفي رعاية أميركية! هكذا لا يوفر
الفيلم أياً من
الاطراف والاشخاص، سوى ربما بن لادن، لأن المأساة المرتبطة باسمه لا تزال
شديدة
الطراوة لطرحه على نحو هزلي وطريف.
ولا يمكن فصل الفيلم في مجمله عن ممثله
الرئيسي توم هانكس الذي يوظف كل ما لديه من طاقات عفوية في سبيل ترسيم
ملامح
الشخصية التي يلعبها. فالسيناريو (من تأليف أيرون سوركين
الملمّ بآليات عمل الادارة
الاميركية) يسعفه في ذلك، لأن النص لا يتبنى منطق الرقابة الذاتية في تقديم
ويلسون
ولا يلمّع صورته، انما يقترحه على طبيعته ومستواه الاول، بلا رتوش أو
تعديل. يُظهر
جانبه الفاسد كما يظهر صدقه في التعاطي مع كل الموضوعات.
فبين لقاء له مع
الرئيس الباكستاني وآخر مع مجاهدين أفغان، يمضي ويلسون وقته في المضاجعة
والسكر
ويحلف باسم كذا وكذا. وهذا لا يمنع مناصريه من أن يصوتوا له.
لأن ويلسون رجل
استعراض وساحر وممثل لا منازع له في جذب المؤيدين.
بالتأكيد، هذه التناقضات
التي تتألف منها شخصية ويلسون، ينجح هانكس في لملمة تفاصيلها الدرامية
ويركّب منها
شخصية متقنة الصنع. متقنة لأن لها شكوكها ولحظات اليأس والصمت
وضعفها أمام المستحيل
وسذاجتها وايمانها العميق، وصولاً الى وقوعها النهائي في حضن البيروقراطية
السياسية
التي ستدفع مليار دولار سنوياً للمجاهدين (أعداء أميركا في ما
بعد) لشن حرب ضد
الروس، لكنها لن تصرف مليون دولار في بناء مدرسة في أفغانستان. الفيلم في
النهاية
لا
يري الاّ السطحية التي وقع فيها الاميركيون في حروبهم البعيدة والطويلة،
وأيضاً
نظرتهم القصيرة الأمد. كما انه يصوّر نجاح رجل (ويلسون) على
حساب فشل مشروع كان
يؤمن به ربما، يوم كان لا يزال ساذجاً.
ذلك لأن الحرب لن تنتهي مع نهاية الصراع
المسلّح، (نحن أدرى منهم بذلك)، انما تبدأ من هناك، وهذا ما يغيب عن بال
قادة
الحروب في كل مرّة. التسعينات من القرن الماضي وما بعدها،
يؤكدان هذا الامر.
الامتناع
عن بناء مدرسة، "الـ"مدرسة، (اقتراح ويلسون في الختام) والاستمرار في
مواجهة الشعوب بالرصاص وتصدير الديموقراطيات المعلبة الى مَن
لا يملك شيئاً، ستكلف
الولايات المتحدة الكثير من الارهاب والارهاب المضاد، لأن أولاد الافغان
كبروا في
غضون ذلك وأصبحوا مقاتلين. عدم الاستماع الى ويلسون كان بمنزلة التأسيس
لهجمات 11
ايلول التي كانت قدر أميركا المحتوم اذا استمعنا جيداً الى ما
يقوله الفيلم،
تلميحاً وضمناً. هذه الخاتمة تري كم السينما عاجزة، حتى تلك التي يصنعها
المخرج
السينيكي نيكولز، عن تحويل المأساة الى ملهاة على أكثر من ساعة ونصف الساعة!
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
النهار اللبنانية في 7
فبراير 2008
|