يبدأ المخرج مايك نيويل فيلم «الحب في زمن الكوليرا» من لحظة
موت الدكتور خوفينال أوربينو (بنيامين برات)، زوج فيرمينا داثا (جيوفانا
ميزجيورنو)، عقب سقوطه عن السلّم. وهذا يعني أنّ الفيلم يبدأ من الصفحة 50
في الرواية. لعلّ في هذه الملاحظة إشارة مبكرة إلى أن الفيلم سيتجنب تفاصيل
كثيرة في الرواية. وهو ما يحدث فعلاً. كذلك فإن المشاهد سيلاحظ بالتدريج أن
المخرج يغيّب أسلوب غابرييل غارسيا ماركيز نفسه في سرد الرواية. وإذا علمنا
أن سيناريو الفيلم (رونالد هارود) بُني على الترجمة الإنكليزية للرواية،
وأن المخرج بريطاني الجنسية، وأن اثنين من الشخصيات الرئيسية لا علاقة لهما
بأميركا اللاتينية واللغة الاسبانية، فسيتسنّى للمشاهد القول بأن رواية
ماركيز لم تتوافر لها الظروف والمكونات اللائقة لتتحول إلى فيلم جيد. بل
بإمكانه القول إن الفيلم نجح في تقزيم الرواية وقص خيالها وإهمال واقعيتها
السحرية.
لقد سبق لماركيز أن عمل في السينما وكتب سيناريوهات لأفلام
عدة. وهو يعرف ما تفعله السينما بالروايات. ولهذا امتنع طويلاً عن تحويل
رواياته إلى أفلام، لكنه في النهاية وافق على بعضها، وهو ما حدث لروايات:
«حكاية موت معلن»، و«في ساعة نحس»، و«ليس لدى الكولونيل من يكاتبه». لكنّه
لا يزال يرفض تحويل عمله الأشهر «مئة عام من العزلة» إلى الشاشة الكبيرة.
وبغضّ النظر عن النجاح الذي حققته هذه الأفلام تجارياً وفنياً، لا بد من
ملاحظة أن برازيلياً ومكسيكياً وإيطالياً (أقرب الأوروبيين إلى المزاج
اللاتيني) هم من تولوا إخراج تلك الأفلام. ليس ضرورياً أن يكون للهويات
والانتماءات دور حاسم في هذا السياق، لكنها، بالتأكيد، قادرة على تأمين
ظروف أفضل لتقديم قراءة سينمائية ناجحة ومعقولة لمطلق رواية. إن طريقة
اشتغال مايك نيويل على رواية ماركيز تكشف بوضوح عن شحٍّ في فهم البيئة التي
تجري فيها الأحداث. الفيلم يفتك بسحر الرواية وروحها الداخلية. إنه نسخة
مفقّرة من الرواية، بل هو ـــــ إذا استعرنا لغة أحدث ـــــ نسخة خالية من
دسم العوالم الثرية للرواية، القائمة على تقنيات وأساليب ونبرات سردية
متعددة لما سُمّي «الواقعية السحرية» في أعمال روائيي تلك البلاد. لقد
اكتفى نيويل بسيناريو يُلخِّص الرواية ويحذف تفاصيل سردية شديدة التأثير.
لعل «أجنبية» المخرج وغربته المسبقة عن لغة الرواية وبيئتها، أفقدتاه
الجرأة الضروية على مواجهة الرواية سينمائياً، ولهذا صعُب عليه ترجمة
الأسلوب الماركيزي الفذّ والآسر بالكاميرا، فتحولت «الواقعية السحرية» إلى
مجرد ظلال شاحبة، بالكاد تُرى في خلفية أحداث الفيلم، وتم الإجهاز على
المحتوى الروحي والفلسفي للرواية، عبر الإصرار على إظهار قشور الأفكار
بدلاً من أحشائها. بل وصل الأمر بالمخرج إلى تقديم شخصية فلورنتينو أريثا (خافيير
بارديم) كمهرج عاطفي، لا كعاشق جعلته لوثة غرامه ينتظر فيرمينا داثا واحداً
وخمسين عاماً وتسعة أشهر وأربعة أيام، ليعلن إخلاصه لحبه القديم. العاشق
الذي فتك الحب بقلبه، كثيراً ما أظهره الفيلم ساذجاً ومفتقراً إلى كاريزما
تحمي حضوره الهش. أما فكرة أنه احتفظ بطهارة روحه وقام بمداواتها في أحضان
622 امرأة، فبدت كاريكاتورية وغير مقنعة. بل إنه افتقد الجاذبية والغواية
المطلوبة لجذب هذا العدد الهائل من النساء، وربما لجذب حبيبته فيرمينا داثا
نفسها.
الفيلم، بمجمله، ليس إلا الهيكل العظمي للرواية. اكتفى المخرج
بالخطوط العريضة (اقرأ: السطحية) للرواية. ربما لأن الرواية شاسعة ومتداخلة
ومعقدة أكثر مما يتطلبه فيلم يستغرق ساعتين فقط. علينا أن نعترف بأن
الرواية فضفاضة على فيلم. هذه كلها عوائق تخفض من توقعات نجاح فيلم مقتبس
منها. المخرج ملومٌ بالطيع، لكن لا بدّ من تذكّر تاريخ الروايات التي تحولت
إلى أفلام. قليلة هي الروايات التي صارت أفلاماً ناجحة، ونادراً ما تفوقت
الأفلام التي على أصلها الروائي. «الحب في زمن الكوليرا» واحد من تلك
الأفلام، ونقطة على السطر.
Love in the time of Cholera
حالياً في صالات أمبير
www.circuit-empire.com.lb
الأخبار اللبنانية في 11
فبراير 2008
|