·
اللقطة الطويلة في الفيلم مصنوعة باتقان غير مسبوق حيث تصور ساحة حرب
عقب انتهاء المعارك بما تعجز عن وصفه كل الأقلام
·
السيناريو الذي كتبه كريستوفر هامبتون عن رواية ريان ماكوان جمع بين
مزايا السينما وروعة الأدب
·
في الفيلم تتداخل الأزمنة والأماكن بين ما يحدث في الواقع وما تتخيله
البطلة التي تكتب الروايات
لا أعتقد أن أحداً شاهد في السينما العالمية مثل هذه اللقطة
الواحدة الطويلة التي رأيناها في الفيلم البريطاني التعويض، أو التكفير عن
الذنب من اخراج جوي رايت.قد نكون شاهدنا الكثير من اللقطات الطويلة الواحدة
في أفلام بعينها، خاصة في أفلام مخرجي السينما الجديدة الفرنسية، ولا أنسي
مثلا واحدة من هذه اللقطات للممثلة رومي شنايدر، في فيلم الموت علي الهواء
اخراج برتران تافرينييه 198، لكن اللقطة الطويلة الواحدة في فيلم التعويض
مصنوعة باتقان شديد، لا مثل له من قبل، وهي ببساطة تدور في ساحة حرب، عقب
انتهاء المعارك، يتحرك فيها جنديان، كي نري كافة وقائع الميدان المنهزم بما
تعجز الأقلام عن وصفه، حتي ولو كان القلم للكاتب البريطاني ايان ماكوان
مؤلف الرواية.تحمست دوما للروايات المأخوذ عنها أفلام، ورأيت أن أفضل
الأفلام هي المأخوذة دوما من نصوص أدبية، لذا لم تتوقف السينما دوماً عن
اقتباس نصوص من الأدب من كافة الأجيال، لكن مثل هذا المشهد يغير خريطة
القناعات، فليس في الأدب ما يسمي بالجملة الطويلة الواحدة، إلا في روايات
كتاب الطليعة مثل كلودسيمون رواية الريح والآن روب جربيه، وقد فشل مخرجو
هذه الأفلام في أن يجعلوا هذه الجملة الطويلة الواحدة براقة جذابة، مثلما
يحدث في السينما.ورغم ذلك، فإن النص السينمائي، لا يمكن أن يخرج عن قرينه
الأدبي، ليس أبداً من خلال تفاصيل الحدوتة، أو سلوك أبطال، ولكن في المقام
الأول من خلال صياغة الحكي، فالحكي الأدبي له خصوصيته، وعند تحويله إلي
السينما، فإن السيناريو الأبرع هو الذي يحاكي أسلوب الحكي الذي اتبعه
الكاتب، ونحن هنا أمام امرأة تروي تفاصيل من حياتها، علي مراحل زمانية
متباعدة، أو متقاربة، حول علاقتها بأختها سيليا والرجل الذي تحبه. تظل هذه
العلاقة بتفاصيلها ماثلة في ذهنها، تحكيها بأسلوبها، ومثلما هناك لقطة
مصورة طويلة، فإن هناك مشهداً طويلاً أيضاً يعتمد علي الاعتراف، أو البوح
الذاتي، وهو لا يحتاج إلي صورة، بقدر حاجته إلي حوار طويل مليء بالفضفضة،
يعبر عن كل ما اعتمل في شخصية بريوني طوال حياتها.بين السينما والأدبأي أن
السيناريو الذي كتبه كريستوفر هامبتون عن روايات ماكوين، حاول أن يجمع بين
مزايا السينما، وروعة الأدب، وفي هذا النص أدبيا وسينمائياً تكريم للكاتب،
وللابداع، فالطفلة الصغيرة بريوني بدأت بكتابة المسرحيات الصغيرة في بيتها
الواسع الذي تعيش فيه مع أختها الاكبر سيسليا، ومع أمها، وهي تتوحد مع هذه
النصوص لدرجة أنها تقوم باخراجها داخل المنزل، وتختار من أطفال الاسرة
شخوصاً يجسدون ما ألفته، تقرأ النص أيضا علي أمها، والنص المسرحي حول فتاة
هربت مع شاب.وهذه المؤلفة الصغيرة تعيش بنفسها قصة سوف تظل تطاردها طوال
حياتها، فهي ترقب مشاعر الحب المتنامية دوماً بين اختها وبين الشاب الذي
يود أن يصبح طبيباً، وهي تتمني لو صارت مكان أختها، أن يحبها ذلك الشاب،
ولذا فهي تسعي للتخلص منه، وتعترف ضده، عندما تتاح لها الفرصة لذلك، حتي
وان تم ذلك بشكل غير عمدي.والأحداث التي تدور في ثلاثينيات القرن الماضي،
ثم تمتد إلي الحرب العالمية الثانية، إلي أن تصير الصغيرة كاتبة عجوزاً،
أنجزت واحد وعشرين مؤلفاً، وتستعد لنشر كتابها الجديد، تبدو في بعض الأحيان
واقعية مثلما عاشتها صاحبتها، وفي أحيان كثيرة تحدث في خيال المؤلفة، كنوع
من البديل، أي أنه ماذا يمكن أن يحدث لو التقي عاشقان متيمان، حسبما تواعدا
وماذا يمكن أن يحدث لو لم يحدث ذلك، فالكاتبة، والنص السينمائي، سعيا إلي
أن نري البديلين معا، ما دار في الواقع، ثم ما تخيلته المؤلفة لنا، سواء في
كتاباتها، أو في أحداث الفيلم.والقصة في مجملها أقرب إلي ما شاهنداه في
فيلم المرسال لجوزيف لوزي، المأخوذ بدوره عن رواية بريطانية للكاتب ل.ب.هارتلي،
فالطفلة تقوم لبعض الوقت بحمل الرسائل بين العاشقين، وتستأثر لنفسها بواحدة
من هذه الرسائل، كما أنها تحب العاشق، مثلما أحب المرسال العشيقة، وتسعي
الصغيرة إلي تحذير أختها من حبيبها انه مهووس، عليك أن تتصلي بالشرطة،
وبريوني هذه تبدو ناضجة عاطفياً رغم صغر سنها. تتصرف مع أختها كأنها قدرها
وعيناها. وفي أجواء ريفية مغلقة أشبه بأجواء روايات جون فاولز، حيث هناك
الكثير من النوايا والسلوكيات غير الطبيعية، تقوم بريوني، بابتكار الكذبات،
كأنها تصنع مصائر من حولها بالأسلوب نفسه الذي تفعله مع أبطال مؤلفاتها،
فهي تعترف أن روبي هو الذي ارتكب جريمة قتل، رغم أنها تعرف أن ذلك غير
صحيح، ويؤدي ذلك بالشاب الذي كان يحلم أن يصبح طبيباً إلي السجن لبضع
سنوات، يخرج بعدها إلي الحرب، ليكون أحد الجنود البريطانيين الذين سافروا
إلي الجبهة الفرنسية.من المهم الاشارة، إلي أننا نتكلم بلغة تقليدية عن نص
سينمائي غير تقليدي، وهذا يظلم النص كثيراً، لكن هذا هو ما تعلمناه حتي
الآن، فالجندي روبي يلتقي مرة أخري بحبيبته أثناء الحرب، هي تعمل ممرضة
وهوة يذهب إلي المدينة من وقت لآخر، في البداية علينا أن نتصور أن هذا هو
الواقع، وأن الحبيبين التقيا بعد سنوات، ثم نكتشف أن كل ما حدث ليس سوي
خيالات كاتبة، وكما أشرنا، فإن التشابه ملحوظ مع فيلم المرسال فخلال هذه
السنوات كانت الرسائل متبادلة بينهما، تدل علي حرارة المشاعر، يحدث بينهما
وداع متخيل، تركب الحافلة، ويجري وراءها، ويحتفظ معه برسائلها وصورة لها،
فالرسائل لم تنقطع بين الاثنين، سأعود، وسأحبك، وسأتزوجك.العودة
للطفولةولابد أن تشعر أنك تقرأ نصاً أدبياً مصوراً، وأنت تستمع إلي جمل
حوارية بعينها، لا يجيد كتابتها كتاب سيناريو الأفلام غير المأخوذة عن
الروايات من طراز لا تثق أبداً ببحار فوق اليابسة، ووسط هذه الاجواء حول
قسوة الحرب، يصور المخرج مشهده الأطول، فهو مشهد جماعي، يصور بشر، ودخان،
ونساء حزينات، وعربات حربية قديمة، وبيوتات معلقة، وأفقاً بعيداً، وشواطئ،
وجنود جرحي، وكثبان، وأشياء متراكبة معاً، ومثلما يتداخل كل شئ في هذا
المشهد، فإن الأزمنة المتراكبة تتداخل أيضاً. تحركها عبارات حب من طراز
سأحبك، وأتزوج بك.. ويبدو الفيلم نفسه كأنه بؤرة تجميع للأزمنة بما تمثله
الاماكن التي تدور فيها الأحداث، سواء في مخيلة المؤلفة بريوني، وهي تكذب
علي قرائها، وتصور لهم أن روبي قد التقي بأخته سيسليا، وعاش معها في غرفة
صغيرة، وأنها قد شهدت دوما علي أن هذه اللقاءات كانت من الواقع، ثم هي
تعترف أن كل ذلك كان من مخيلتها، وأنها تمنت لو يحدث ذلك، وهي التي تعرف
تماما ان روبي قد مات في ظروف بالغة الصعوبة في الثكنة العسكرية.ومثلما
كانت بريوني ناقلة رسائل إلي اختها سيسليا من حبيبها، صارت هي كاتبة رسائل
إلي الأخت بعد أن كانت السبب في ادخال روبي الي السجن، وهي تعود إلي
طفولتها بين الحين والآخر سقطت في النهر كي اعرف انه سوف ينقذني أم لا...،
لقد تمنت أن تكون محبوبة مثل اختها، وهي المرأة التي لم تتحدث قط عن رجل
آخر يدخل حياتها الطويلة، رغم موت روبي في الحرب، وتصنع الوقائع لنفسها كي
تختلي، خياليا، بالجندي، حين يصاب في الحرب، ويدخل المستشفي التي تطوعت هي
الأخري للعمل بها كممرضة، وهي تسمع منه بعض العبارات من طراز هل تحبيني، هل
يمكن أن تبقي قليلا، أنا خائف.والنص هو محاولة للتذكر، والعودة دوماً إلي
الماضي، فما نلبث أن نفهم الحقيقة أن هناك شخصاً قد غرر بالضحية، لقد كان
ذلك الضيف الذي جاء في هذا الصيف، وشاهدته بريوني بعد سنوات يتزوج في حفل
زفافه، وكأنه لم يرتكب شيئاً، أما الأبرياء، خاصة بريوني، فقد دفعوا الثمن،
ومن هنا يأتي مشهد الاعتراف الذي تدلي به الكاتبة بريوني العجوزة، في
برنامج تليفزيوني، حيث يطلب منها أن تدلي بالحقيقة بعد ان نشرت روايتها
الجديدة والأخيرة التكفير عن الذنب، وتقول أنا أحتضر، وهذه الرواية هي سيرة
حياتي. لقد تخيلت المشهد الذي اعترفت فيه، لقد مات روبي في الحرب.كما أن
المؤلفة العجوز تعترف أنها لم تستطع أن تتصالح مع أختها سيسليا، لأنها ماتت
في أكتوبر لم يجتمع روبي قط مع أختي، ومنذ ذلك الحين كنت أحاول منع حدوث
هذا اللقاء، لذلك رغبت في الكتابة.اعتراف بالذنبفي الملخص الوافي للرواية
علي صفحات الانترنت، نلاحظ أن الفيلم اعتمد علي الحدوتة، وأن الكاتب قد قسم
روايته إلي ثلاثة أقسام، فإذا كان ايوان المولود عام 1948 لم يشهد هذه
الاحداث، التي بدأت عام 1935، فانه أيضا جعل بطلة روايته امراة كاتبة، وهذا
شيء نادر الحدوث، خصوصا بالنسبة للاداب الحديثة التي تقوم علي الاعتراف،
الاقسام الثلاثة هي عن الطفولة، والشباب، ثم الشيخوخة، وفي القسم الثالث من
النص الادبي، ان الذي دفع الكاتبة للاعتراف ان ناشرها قد رفض روايتها
الأخيرة، لأنها لم تذكر الحقائق، وذلك لأنها تخشي أن يؤدي اعترافها
بالحقيقة إلي أن تدخل السجن، وقد بدت هذه النقطة غير واضحة في الفيلم، وكأن
ما فعلته العجوز هو نوع من الاعتراف بالذنب، ناتج عن احساسها بعقدة الذنب،
فحسب الرواية، فإن ما دفع بالكاتبة الي الاعتراف بالحقيقة هو رفض الناشر
وليس مجرد حالة تكفير عن الذنب أثناء تسجيل برنامج تليفزيوني.في الختام: من
الأفضل أن يكتب المرء عن الفيلم دون أن ، يكون في ذهنه أنه مرشح للعديد من
الجوائز المهمة، أو أنه حصل بالفعل علي هذه الجوائز، وبعد أن انتهيت من
كتابة المقال، تابعت أحد مواقع النت لأكتشف أنه قام بمقارنة التعويض بأفلام
أخري ذكرناها هنا بالفعل مثل المرسال ثم بأفلام لم نذكرها، منها فيلم لقاء
عابر لدافيرلين عام 1945 عن مسرحية نويل كوارد، وهي المسرحية التي اقتبسها
بركات في أحد أفلامه عام 1963، وايضا بالفيلم الفرنسي رصيف الضباب حول
معركة دنكرك، الذي قام ببطولته جان جابان وميشيل مورجان، باعتبار ان الفيلم
البريطاني اعاد الي الاذهان الموقعة نفسها.
جريدة القاهرة في 19
فبراير 2008
|