بالمصادفة، احتل سبيلبيرج الصفحات الأولي من كبري صحف العالم
يوم السبت الماضي، عندما استقال من عمله كمخرج أوليمبياد طوكيو، احتجاجًا
علي عدم استخدام الصين نفوذها في السودان لوقف مذابح دارفور، ويوم الأحد
بدأ في مكتبة الإسكندرية برنامج خاص عن فنان السينما الأمريكي الكبير، بدأ
بعرض «إي. تي» بمناسبة ٢٥ عامًا علي إنتاجه، ثم «إيه. أي»، أمس الأول،
وكلاهما من أفلام الخيال العلمي، وعرض أمس «قائمة شيندلر»، ويعرض اليوم
«ميونيخ»، وكلاهما من الأفلام السياسية، ويختتم غدًا بـ«صالة الانتظار».في
١٨ ديسمبر الماضي، أتم ستيفن سبيلبيرج الـ ٦٠ من عمره، وهكذا مرت السنون،
وأصبح المخرج الشاب الذي شاهدته لأول مرة في مهرجان كان عام ١٩٧٤، وهو يقدم
أول أفلامه الروائية الطويلة «شوجرلاند أكسبريس»، في مسابقة المهرجان ذلك
العام في السن التي يطلق عليها سن التقاعد، ولكن بالطبع لا تقاعد في
الإبداع، فهو يعد الآن ثلاثة أفلام للعرض في عامي ٢٠٠٨ و٢٠٠٩.
كان سبيلبيرج أحد ثلاثة مخرجين غيروا وجه هوليوود في
السبعينيات من القرن الميلادي العشرين مع فرانسيس فورد كوبولا وجورج لوكاس،
وقد تم عرض أفلامهم الأولي في مهرجان كان، فما هو ذلك التغيير، وما دلالة
عرض أفلامهم الأولي في أكبر مهرجات السينما في العالم الذي يقام في أوروبا،
وبالتحديد في فرنسا في بداية السبعينيات.
يمكن القول إن أكبر مدرستين في تاريخ السينما هما المدرسة
الأمريكية والمدرسة الأوروبية، وأنه بينما تتسم الأولي بالكوزموبوليتانية،
أي بالتوجه إلي جمهور السينما في العالم علي اختلاف ثقافاته ومستوياته،
تتسم الثانية بالتعبير الذاتي عن رؤي الفنان الفرد، أو المخرج سواء كتب
السيناريو أو شارك فيه أو لم يفعل هذا ولا ذاك، ولكل من هاتين المدرستين
جانب سلبي وآخر إيجابي، فالأولي تنجح في جذب كمية أكبر من الجمهور،
والثانية تنجح في صنع تاريخ السينما كفن أكبر من الأولي وإن كانت تجذب
جمهوراً أقل.
وقد صاغ منظرو السينما في فرنسا- أكثر من غيرهم- نظرية سينما
المؤلف من واقع تأمل تاريخ السينما في أوروبا وأمريكا، واكتشفوا أن السينما
الأمريكية بالرغم من سيادة الكوزموبوليتانية وفي إطارها قدمت للعالم مؤلفين
كبارا مثل ألفريد هيتشكوك وستانلي كيوبريك وإليا كازان وغيرهم، ولكن ظل
الاستقطاب قائمًا بين المدرستين الكبيرتين بصفة عامة، وهذا ما أنهاه جيل
كوبولا ولوكاس وسبيلبيرج، ولهذا قدمت أفلامهم الأولي في مهرجان كان الذي
عبر مع فينيسيا قبله وبرلين بعده عن المدرسة الأوروبية، وتأثيراتها علي
السينما في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية أو ما يعرف بالقارات الثلاث.
حققت أفلام جيل السبعينيات في هوليوود من الإيرادات بقدر ما
حققت من الإنجازات الفنية الخالصة، وفازت بالأوسكارات التي تعادل في شهرتها
وتأثيرها مهرجانات أوروبا الثلاث الكبري معًا، بقدر ما فازت بجوائز هذه
المهرجانات، وكان هذا أمرًا غير مسبوق، وحافظ من ناحية أخري علي بقاء
السينما بنفس الحيوية في مواجهة التليفزيون، وخاصة بعد تلوينه وانتشاره علي
نحو كاسح في كل الدنيا، وتعاظم ذلك الانتشار باطراد في العقود الأخيرة من
القرن العشرين.
قال سبيلبيرج عندما أخرج «قائمة شيندلر» عام ١٩٩٣، واعتبره
أغلب النقاد أعظم أفلامه، وذهب الكثير منهم إلي القول بأنه أول أفلامه
الشخصية، أي كمؤلف، إنه مثل الطباخ الذي يصنع الطعام طوال النهار، كما يطلب
كل زبون، ولكنه في نهاية اليوم يذهب إلي منزله ويصنع طعامه الخاص، كما
يريده هو، وكان يقصد المقارنة بين «الحديقة الجوراسية»، الذي أخرجه في نفس
العام وبين «قائمة شيندلر»، أي أن الفيلم الأول صنع كما يريده جمهوره،
والثاني صنع كما يريده هو.
وهذا التفسير للتناقض بين الفيلمين من حيث تصنيف «الحديقة
الجوراسية» كفيلم «تجاري»، و«قائمة شيندلر»، كفيلم «فني» صحيح بصفة عامة،
ولكنه غير دقيق تمامًا، فكل مخرج في العالم وفي تاريخ السينما هو «مؤلف»
علي نحو ما، أي أن له عالمه وأسلوبه، ولكن الفرق بين المخرجين هو في هذا
الأسلوب وذلك العالم، أي عن ماذا يعبر وكيف يعبر وبماذا يتميز عن غيره.
أخرج سبيلبيرج ٢٤ فيلمًا روائيا طويلاً منذ عام ١٩٧٤، يمكن
تقسيمها حسب نظرية الأنواع السينمائية إلي أفلام الخيال العلمي مثل «إي.
تي» الذي يمر عليه ٢٥ سنة في ٢٠٠٨، و«إيه. أي» الذي كان من مشروعات كيوبريك
المؤجلة، وأخرجه سبيلبيرج عام ٢٠٠١، وأفلام الوحوش مثل «أسماك القرش» ١٩٧٥،
و«الحديقة الجوراسية» ١٩٩٣، وأفلام المغامرات مثل «فرسان العهد المفقود»
١٩٨١، و«أنديانا جونز ومعبد المصير»، ١٩٨٤، والأفلام الاجتماعية مثل
«شوجرلاند اكسبريس»، ١٩٧٤، و«محطة الانتظار»، ٢٠٠٤، والأفلام التاريخية مثل
«إمبراطورية الشمس» ١٩٨٧، و«إنقاذ الجندي ريان»، ١٩٩٨،
والذي يمكن اعتباره أيضًا من الأفلام الحربية، ونظرية «الأنواع»، وهي
النظرية الأساسية في المدرسة الأمريكية، مثل نظرية «المؤلف» في المدرسة
الأوروبية، غير أن هناك مؤلفا أمريكيا رغم الأنواع، وأنواعاً أوروبية رغم
المؤلف، والتفكير النقدي يجب أن يتجاوز القوالب الجاهزة دائمًا ليكون نقديا
بحق.
في أفلام سبيلبيرج - علي اختلاف - أنواعها هناك صراع درامي بين
قوتين غير متكافئتين، أو الصراع بين دافيد وجوليات في الأسطورة اليهودية
القديمة، حيث يتمكن دافيد الضعيف من مواجهة جوليات العملاقة بالحيلة، وهذا
ما نجده في أول فيلم روائي طويل أخرجه للتليفزيون «مبارزة» عام ١٩٧١، قبل
أن يخرج أول أفلامه للسينما، والمبارزة في هذا الفيلم بين سيارة نقل ضخمة
وسيارة صغيرة علي طريق مفتوح، وليس من المصادفة أن قائد السيارة الصغيرة
يدعي دافيد، وما الفرق بين تلك السيارة الضخمة وبين سمك القرش في «أسماك
القرش»، أو الديناصور في «الحديقة الجوراسية» أو بين «إي. تي» المسكين
والوحوش البشرية.
بين
شيندلر وميونيخ
وإلي النوع السياسي ينتمي فيلما «قائمة شيندلر» ١٩٩٣،
و«ميونيخ» ٢٠٠٥، وكلاهما عن اليهود، أو عما أطلق عليه في الغرب «المشكلة
اليهودية»، وفيها يصل سبيلبيرج إلي ذروة التعبير الذاتي من حيث إنه أمريكي
يهودي، فالفيلم السياسي هو الفيلم الذي يتناول قضية سياسية مثارة في زمن
إنتاجه سواء كان زمن الأحداث الدرامية في الماضي أو الحاضر، وقد انتقلت
المشكلة اليهودية من الغرب إلي الشرق مع تقسيم فلسطين بقرار من الأمم
المتحدة عام ١٩٤٧، بين العرب واليهود وإنشاء دولة إسرائيل علي أرض فلسطين
عام ١٩٤٨، كدولة «يهودية»، حيث يختلط الدين مع القومية علي نحو ملتبس في
«الأيديولوجية» الصهيونية، وهي أساس دولة إسرائيل.
يناصر سبيلبيرج إسرائيل مثل أغلب يهود العالم، ولكن يظل هناك
اختلافًا كبيرًا بين اليهودي الذي يناصر إسرائيل، واليهودي الذي يترك بلده
ويذهب للإقامة في إسرائيل علي أساس «الأيديولوجية» الصهيونية التي تري أن
واجب كل يهودي أن يصبح من مواطني إسرائيل، وأنه بذلك «يعود» إلي «أرض
إسرائيل» المذكورة في التوراة بعد ألفي سنة ويزيد، ونضع كلمة «أيديولوجية»
بين قوسين عن عمد لأن لكل أيديولوجية نسقا ما، ولكن الصهيونية من دون أي
نسق وتخلط بين الحقائق والأساطير، وتتسم بعنصرية تميز اليهود عن غيرهم من
البشر، ومتي كان لأي مجموعة بشرية الحق في العودة إلي مكان وجدوا فيه منذ
ألفي سنة، وانقطعت صلتهم به طوال هذه المدة، وما العلاقة بين يهود فلسطين
من ألفي سنة ويهود العالم الحديث.
تعرض يهود أوروبا للاضطهاد في ألمانيا في ظل حكم الحزب النازي
الذي تولي السلطة عام ١٩٣٣، ثم في البلدان الأوروبية التي احتلتها قوات
ألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية من ١٩٣٩ إلي ١٩٤٥، والتي قتل
فيها أكثر من خمسين مليون إنسان منهم ستة ملايين يهودي، وكانت
«الأيديولوجية» النازية وهي بدورها عنصرية وملفقة تقوم علي أساس أن العرق
الألماني أفضل من كل أعراق البشر، وتستهدف إبادة اليهود فيما أطلقت عليه
«الحل النهائي» للمشكلة اليهودية، وهي مشكلة مركبة في الغرب المسيحي ترجع
جذورها إلي خيانة يهوذا للمسيح عليه السلام من ناحية، وما استقر عند أغلب
اليهود من أن دينهم هو الأصل من ناحية أخري، وأنهم وحدهم الذين يؤمنون
بالله الحق وما عداهم كفرة وزنادقة.
إسرائيل
ليست الحل
استخدمت الصهيونية اضطهاد النازي لليهود بتأكيد الادعاء بأن
إنشاء إسرائيل في فلسطين هو الحل الصحيح للمشكلة اليهودية، ولو جاء ذلك علي
حساب الشعب الفلسطيني، ومع الأسف وقع بعض العرب في فخ تأييد النازية رغم
أنهم من نفس الجنس السامي الذي تريد النازية إبادته علي أساس تصور خاطئ بأن
هذا التأييد يخدم الشعب الفلسطيني، وعندما أنتج فيلم «قائمة شيندلر»، كان
عرب آخرون مشغولين بإثبات أن عدد ضحايا النازي من اليهود لم يكن ستة ملايين
وإنما أقل، وكأن عدد الضحايا هو المشكلة، أو من شأنه أن يساهم في حل
المشكلة الفلسطينية، وكانت النازية الجديدة تعود من جديد إلي أوروبا والغرب
عمومًا بشكل محدود للغاية، ولكن من كان يتصور أن تعود علي أي نحو وبأي قدر
بعد ستة عقود فقط مما جري في الحرب العالمية الثانية.
صنع سبيلبيرج «قائمة شيندلر» ليساهم في تذكير العالم ببشاعة ما
حدث من النازي تجاه اليهود، ولأنه رجل دراما من الطراز الشكسبيري النادر
اختار واقعة حقيقية حدثت عام ١٩٤٣، في بولندا أثناء الاحتلال النازي عندما
قام رجل أعمال من الحزب النازي يدعي أوسكار شيندلر بتشغيل أكثر من ألف
يهودي كأيدي عاملة رخيصة بدلاً من إرسالهم إلي معسكرات الإبادة، ولكنه
يتغير ويدرك أنه أنقذهم، ويعمل علي إنقاذهم بالفعل، وهذه هي الدراما، هذه
هي السينما:
عمل ضد النازي من خلال تحول رجل نازي، وكان سبيلبيرج يدرك أنه
لن يرضي اليهود ولن يرضي العرب داخل أو خارج فلسطين أو إسرائيل، فاليهودي
والإسرائيلي لن يعجبا بـ «البطل» النازي، والفلسطيني والعربي لن يعجبا بـ«الضحية
اليهودية»، وهذا ما حدث، ومشكلة فيلم «قائمة شيندلر»، أنه بتصوير لقطات
تدور في إسرائيل بالألوان، بينما بقية الفيلم بالأبيض والأسود يوحي بأن
إسرائيل هي «الحل» للمشكلة اليهودية، وهذا غير صحيح، فلم تحل إسرائيل
المشكلة بعد ٦٠ عامًا من وجودها، ويبدو أن سبيلبيرج أدرك ذلك، وأراد أن يضع
اسمه في تاريخ السينما كفنان أمريكي يهودي صاحب رؤية إنسانية، وليس كفنان
يهودي، ولذلك صنع «ميونيخ» عام ٢٠٠٥، بعد ١٢ عامًا من صنع «قائمة شيندلر»،
وكأنه جزء ثان بالمعني الفكري والسياسي.
في «ميونيخ» أثبت سبيلبيرج علي نحو قاطع أنه لا يسعي لإرضاء أي
طرف من طرفي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإنما يريد أن يعبر عن الحق كما
يعتقده مثل أي فنان كبير، وكما في «قائمة شيندلر»، عاد إلي واقعة حقيقية
أيضًا، وهي انتقام إسرائيل من الهجوم الفلسطيني علي الوفد الإسرائيلي في
أوليمبياد ميونيخ عام ١٩٧٢، وكما يتحول شيندلر من الإيمان بالنازية إلي
رفضها، يتحول قائد فرقة الانتقام الإسرائيلية وهو يهودي من مواليد إسرائيل
من الإيمان بها إلي رفضها حتي أنه يغادرها ويقرر أن يعيش بقية حياته في
نيويورك، ومرة أخري هذه هي الدراما، هذه هي السينما.
لم يترك سبيلبيرج «قائمة شيندلر» فقط يمثل وجهة نظره في
المشكلة اليهودية، وصنع «ميونيخ» تمامًا كما لم يترك جريفيث «مولد أمة» فقط
ليعبر عن وجهة نظره في الحرب الأهلية الأمريكية، وصنع «التعصب»، وصورة
الفلسطيني الذي يترجم «ألف ليلة وليلة»، إلي الإيطالية في روما ويحتفل به
أصدقاؤه، والذي يشتري الخبز واللبن ويعود إلي منزله فيلقي مصرعه أمام
المصعد، هي أروع صورة للعربي في تاريخ السينما الأمريكية.
سبيلبيرج يصور الضحية اليهودية في «قائمة شيندلر»، والضحية
الفلسطينية في «ميونيخ» ويعلن أن العنف لا يولد غير العنف، ويثبت أنه
الأمريكي الحق الذي يؤمن بالحرية، وأنه اليهودي الحق الذي لا ينسي أن
الوصية الأولي من الوصايا العشر هي لا تقتل، ويضع اسمه في تاريخ السينما مع
عظماء المبدعين الذين لا يسعون إلا لإرضاء ضمائرهم، وكما كان يدرك أنه لن
يرضي العرب ولا اليهود في الفيلم الأول، كان يدرك أيضًا أنه لن يرضي هؤلاء
ولا أولئك في الفيلم الثاني، وهذا ما حدث أيضًا حيث اعتبرت إسرائيل أن
الفيلم دعاية ضدها، واعتبره العرب دعاية لإسرائيل، ومن المثير للسخرية أن
الفيلم الأول رشح لعدة جوائز أوسكار وفاز، ورشح الثاني ولكنه لم يفز، لقد
فضل سبيلبيرج أن يكسب نفسه حتي لو خسر كل العالم ومعه الأوسكار.
المصري اليوم في 21
فبراير 2008
|