يوما إثر يوم تنضمّ فضائيات جديدة إلى عالم البث التلفزيوني
عبر الأقمار الصناعية، تكرر في غالبيتها بث المحتويات نفسها من أغانٍ
وبرامج ترفيهية ومسلسلات وعروض أفلام مع بعض التميز الذي تستوجبه التبعية
السياسية والتمويلية لدولة أو لتنظيم ما. ويدل هذا الوضع على أن إمكانية
افتتاح محطات تلفزيونية فضائية جديدة باتت أمرا على غاية من اليسر لكل راغب
وقادر.
في بداياته فاجأ انتشارُ البثّ التلفزيوني عبر الأقمار
الصناعية حكوماتٍ عديدة في العالم النامي، وفي العالم العربي خاصة قررت
الحكومات العربية مجتمعةً اللحاق بركب العالم المتحضّر في هذا المجال
وإطلاق القمر الصناعي العربي الأول ''عربسات''، وأدى الخوف من البث
التلفزيوني الحر إلى تأخير إطلاق القمر الصناعي لسنوات عديدة، تم خلالها
هدر الأموال بهدف إعادة برمجة القمر، بحيث تقتصر وظيفته على الاتصالات
ويستثنى البث التلفزيوني منها. فيما بعد، جرى إيجاد مساومة تقضي بأن لا يبث
القمر إلا البرامج الرسمية وأن لا يتم الاستقبال إلا من خلال المحطات
الرسمية المحلية.
مع مرور الأيام، حصل تبدل في المواقف: قبلت الحكومات في
البداية بالأمر الواقع، وبهذا ألقت الكرة في ملعب شعوبها، وبدورها تلقفت
الشعوب الكرة وسعدت بامتلاكها. وكتعبير عن هذا الوفاق الوطني مضت الحكومات
قدماً وخطت خطوات أبعد، إذ سمحت للشعوب بتركيب الأطباق اللاقطة كنتيجة
طبيعية لامتلاك الحكومات محطاتها الفضائية الخاصة بها وكاعتراف بالأمر
الواقع بعد أن امتلكت الشعوب الأطباق اللاقطة بشكل قانوني ونشرتها فوق
الأسطح وصارت لا تكتفي بمشاهدة البث الوطني، بل تتلقى البث من مختلف أرجاء
العالم، وبعد أن صار بمقدور القطاع الخاص تأسيس محطاته المنفلتة من رقابة
الدول والتي صارت عملية حصولها على رخص البث من داخل الدول العربية شديدة
السهولة واليسر.
من ذلك الحين استعر الجدال الشعبي العام والذي كان يتمحور حول
ثنائية مفيد-مضّر، أخلاقي-لاأخلاقي، دون أن يؤثر هذا الجدال عمليا في الأمر
الواقع أو يعطل مسيرة التاريخ، واتضح أن الأمر محسوم لصالح ضرورات التطور،
وأن عدم إمكانية حسم الجدال لصالح موقف دون آخر يؤكد أن ثمة مشكلة حقيقية
في الأمر، مشكلة تخص الأفراد كما تشمل المجتمع.. مشكلة تضع الأفراد
والجماعات أمام تحدٍّ ثقافي، أخلاقي ونفسي.
يجلس الإنسان الفرد وحيدا أمام شاشة التلفزيون هو والشاشة
أحدهما في مواجهة الآخر، ثمة وسيط في هذه العلاقة، وسيط له أزرار تضغطها
الأصابع وتحركها، بشكل خفي، الرغبة بملاحقة خيارات العرض المتنوعة،
والخيارات في نهاية المطاف هي رسائل موجهة للمشاهد، تنهال عليه بموافقته
الإلزامية رسائل هي خطاب ثقافي إعلامي ترفيهي مرسل إلى العقول والعواطف
والغرائز، وهو خطاب محير، يرى المشاهد الفرد الشيء ونقيضه، الصدق والكذب،
الشر والخير، الطهارة والنجس، الحب العذري والجنس الإباحي، يرى ما يتوافق
مع أخلاقه وما يتنافى معها، هي رسائل تخترق عقله وبنيته النفسية ومفاهيمه
الأخلاقية وفي كل الاتجاهات.
في خلوة المشاهد الفرد أمام الشاشة وضع خاص من نوعه، فلا أحد
يراه، لا أحد يرى ما يرى فيتدخل بطريقة أو بأخرى، هو في وضع سري حميم، ثمة
عزلة تقدم له تبريرا يُسكت ضميره أو يُهدئ من غلوائه. أما أمام الآخرين
فسيكون تصرفه مختلفا ومتحفظا، لكنه عندما يكون وحده يطلق العنان لحريته في
الاختيار.
عملية المشاهدة الفردية ليست هي القاعدة دائما، ففي كثير من
الأحيان تكون المشاهدة ذات طابع جماعي، فهي تتوسع قليلا لتشمل العائلة أو
المعارف. هنا يختلف الوضع ويتطلب الأمر حلا اجتماعيا توافقيا بين المجتمعين
في مواجهة الشاشة على ما يجب أن يشاهدوه، أو حلاًّ رقابياً خاصة فيما يتعلق
بالأطفال، إذ يُسمح للأطفال بمراقبة معروضات ويتم منعنهم عن أخرى.
إنها حلول وقائية آنيّة لم تصمد طويلا أمام التطور والتنوع في
البث الفضائي. وهو تطور مرعب في سرعته وسعته وكثافته وأساليبه في الإغواء،
وتزيد من تأثيره طبيعة التقنيات التلفزيونية التي تسمح للمشاهد أن ينتقل
بين المحطات ذهابا وإيابا دون أن يفوته شيء.
لم يحدث في تاريخ فنون العرض البصرية مثل هذا، لم يحدث أن وجد
الإنسان نفسه أمام هذا الزخم من الرسائل المتنوعة والمتناقضة والمحيرة التي
تجرده من أسلحته وتفقده القدرة على المقاومة بما يؤدي به إلى القبول، ولو
السلبي، بالوضع.
في مثل هذه الأحوال، كان من البديهي أن تُطرح الكثير من
التحفظات أو الأسئلة التي تتعلق بافتراض وجود تأثيرات سلبية محتملة مثل
ازدواج الشخصية على مستوى الأفراد، وانقسام الأسرة المتماسكة إلى أفراد
مختلفين في مرجعياتهم الأخلاقية وانقسام المجتمع إلى جماعات يتعصب بعضها
للماضي وللتقاليد المتوارثة وينفتح بعضها الآخر بهذه الدرجة من الوعي أو
تلك على الجديد وتتكاثر في الأذهان بلا جواب يقيني أسئلة التقاليد والبدع،
الأصالة والحداثة، التمسك بالهوية الثقافية الوطنية أو الانجرار وراء
التبعية الثقافية التي تستوجبها العولمة.
ولكن الزمن سرعان ما أثبت أنه لا بد ممّا ليس منه بد، فخمدت
براكين الأسئلة وتراجعت التحفظات، وبات الخائفون من الفضائيات يحاولون
الاستفادة منها، فيما أدرك المتحمسون لها فوائدها الاستثمارية. أما جماهير
المشاهدين العرب من الأجيال كافة، فقد اكتشفوا في الفضائيات وسيلة للتخاطب
أو التعبير عن الرأي أو التواصــل والتعارف، وحتى إمكانية ربح الجوائز
المجزية.
وهكذا، في النتيجة، احتلت خدمة البث التلفزيوني عبر الأقمار
الصناعية الغربية والعربية فضاءها الطبيعي، وفي حين كان بداية حذرة لسلسلة
لاحقة متلاحقة من أقمار ''عربسات''، فقد تشجعت الدول وانفتحت شهية
المستثمرين لفتح القنوات المتعددة والمتنوعة، حيث سرعان ما تلا إنشاء سلسلة
أقمار ''عربسات'' إنشاء قمر عربي آخر هو ''نيل سات''، ومن ثم شبكات فضائيات
استثمارية خاصة فيها قنوات مشفّرة والقليل من القنوات المتاحة من دون
تشفير، ومن ثم قنوات فضائية عربية تتجاور في أقمار أجنبية مع قنوات فضائية
من كل أنحاء العالم، على ما بين القنوات العربية والأجنبية من تناقض صارخ
في الرسالة الأخلاقية، كأن تتجاور قناة دينية مع قناة أخرى إباحية عبر
القمر الأوروبي ''هوت بيرد'' (العصفور الساخن)، أو أي أقمار أخرى، فينتقل
المتفرج من هذه إلى تلك إن لم يكن بإرادة منه، فعلى الأقل، نتيجة خطأ إصبعي
لا يمكن أن يلومه عليه أحد، ربما، باستثناء وزراء الإعلام!
* ناقد
سينمائي أردني
الرأي الأردنية في 22
فبراير 2008
|