جديد حداد

 
 
 
 
 

سرقات صيفية:

مغامرة فنية تحتفي بالذاتية

بقلم: حسن حداد

 
 
 
 
 
 
 
   
 
 
 
 
   
 
 
 
 
 
 

(سرقات صيفية ـ 1987). هو الفيلم الذي بشر بميلاد مخرج جديد آنذاك.. مخرج فنان يحمل رؤية سينمائية فكرية وإجتماعية واعية، ألا وهو الفنان يسري نصر الله. وقد كان أول عرض لهذا الفيلم في إفتتاح تظاهرة نصف شهر المخرجين في مهرجان كان الدولي 1988. ومن ثم إنطلق الى بقية المهرجانات الدولية وطاف دول العالم من خلالها، وحصل على الكثير من الجوائز.

ولكن بالرغم من الترحيب الدولي، الذي إعتبره البعض بأنه جواز مروره الى الداخل، إلا أن (سرقات صيفية) فيلم مصري بكل المقاييس. فالفيلم أعتبر حينها تجربة فنية هامة، خاضها المخرج/ المؤلف مع طاقمه الفني الشاب. هذا إضافة الى إختياره لموضوع إجتماعي حيوي، وطرحه ومناقشته من خلال أسلوب فني جديد وجرىء. فهو هنا يناقش العلاقة الحساسة بين طبقة الإقطاع وبين قرارات ثورة يوليو الإشتراكية. كما يتابع عملية تحلل هذه الطبقة وتفككها، وما صاحبته من أمراض إجتماعية وعلاقات إنسانية محبطة.

في فيلم (سرقات صيفية)، نحن أمام فترة تاريخية تعد من بين أهم فترات التحولات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية في التاريخ المصري أبان قرارات ثورة يوليو، والمتعلقة بقوانين الإصلاح الزراعي في مطلع الستينات.

يأخذنا يسري نصرالله معه للتعرف على أجزاء من سيرته الذاتية، ويضعنا أمام عائلة أرستقراطية تمثل شريحة أو نموذج للطبقة البرجوازية الكبيرة (الإقطاعية) المستقلة. هذه الطبقة/ العائلة التي ظهرت من العدم.. ظهرت من خدعة ماكرة، وذلك عندما جاء الجد الكبير الى مساحة من الأرض الجرداء وأقنع الفلاحين بأنها تحتوي على كنز. وعلى أساس هذه الخدعة/الكذبة تكونت قرية كايد ونشأت معها ملكية العائلة للأرض. وهكذا تبدأ جذور العائلة.. تبدأ بجد مغامر لا يستطيع حتى الإستمرار في كذبته هذه نتيجة إحساسه بالذنب. لذلك تكون الخمرة هي الملاذ المسكن والقاتل في نفس الوقت، فيموت تاركاً ورائه زوجته وأبنائه (ريما ـ منى ـ أمينة ـ عزيز)، وتاركاً أيضاً ذلك الحمل الكبير على أعتاق الجيل الثاني لكي يواجه تناقض المنشأ وعقدة الأصل.

تتزوج البنات من برجوازيين بحثاً عن التوازن الطبقي وإستكمالاً لمقومات الملكية، ويتزوج الإبن من لبنانية بحثاً عن وطن آخر. إنهم لا يثقون في ملكية الأرض لهذا يدعمونها بأشياء أخرى. ثم يأتي الجيل الثالث (ياسر ـ داليا( في ظل تاريخ جديد للملكية. فنجده يبحث عن إنتماء جديد، فلا يجد أمامه سوى الفلاحين المطحونين. ففي محاولة من ياسر وداليا للبحث عن الصداقة والحب نراهما يسعيان لتكوين علاقات مع الفلاحين. إلا أنهما يصطدمان بقوانين العائلة، حيث الملكية هي المحتوى الذي تتشكل حوله صراعاتهم الجديدة.

بعد وفاة الجد، تبقى زوجته لترى الإضطراب الذي يحدث من بعده.. فهي الآن أشبه بالعاجزة.. صامتة طوال الوقت، ربما تعبيراً عن الرغبة في الإنفصال عن الواقع الجديد.. أحياناً تترك مخيلتها لتغوص في بحيرة ذكرياتها وتتشبث بما كان من لحظات جميلة، وتكون في نفس الوقت شاهدة على إضطرابات بناتها وصراعاتهن النفسية.

فالبنت الكبرى (أمينة) تبدأ هي أيضاً في فقد سمعها، وتنتابها حالات وهواجس الفلاحين اللصوص. والإبنتان (ريما ـ منى) تنفصلان عن زوجيهما. الأولى نتيجة الخلاف معه على بيع الأرض وإستثمار ذلك في تأمين مستقبل الأولاد. أما منى فتترك زوجها لكي تتزوج من رجل الدولة الذي سيساعدها في حماية الأرض، حيث أنها تشكو من إضطراب في علاقتها الزوجية. بالرغم من أنها تتحلى بشخصية قوية مسيطرة، فهي نموذج الأرستقراطية العنيدة التي لا تريد التنازل عن أرضها، وتريد طرد الفلاحين منها وتحويلها الى حدائق للفاكهة. وهي بالتالي تمتلك نفوذاً وسيطرة كبيرة على كافة أفراد العائلة، وخاصة أختها ريما. أما ياسر وداليا فقد قاما بمحاولة للتحرر من أسر القيد الطبقي وتكوين علاقات مع أفراد من خارج الطبقة، وذلك من خلال ياسر بـ ليل و داليا بـ عبدالله، إلا أن قوانين المجتمع والعائلة الأرستقراطية وأنظمتها تقف عائقاً لتحقيق ذلك.. ياسر يحب صديقه ليل حباً ملكياً محدوداً ومحصوراً داخل نفس الأطر والمقاييس الأيدلوجية لطبقته، كما يتضح ذلك في أنانيته وتخليه عن صديقه بعد إلقاء القبض عليه نتيجة قيامهما بالسرقات الصيفية. وليل يحب ذلك الحب الذي يمكن لعبد أن يحبه.. حب الأسياد وأبناؤهم والرغبة الورعة في وصالهم. كذلك داليا التي تحب عبدالله إبن الفلاحة حباً خطابياً عاجزاً، فهي تماثل والدتها في عواطفها وترغب في إبن فلاحين متعلم يساعدها في تخطي أزماتها. وعبدالله ذلك الضابط الذي إلتحق بالكلية الحربية بمساعدة العائلة الإرستقراطية، يظل أيضاً عاجزاً أمام داليا ولا يتملكها كموضوع للحب والشهوة.

يضعنا يسري نصر الله في فيلمه الأول (سرقات صيفية) أمام مأساة هذه العائلة الإقطاعية، التي تعيش تناقضات كثيرة وخطرة على مستوى العلاقات الإجتماعية والإقتصادية، وبالتالي تؤدي الى تفككها وتحللها نتيجة تلك الهزات العاطفية والأمراض النفسية المتأصلة. فالجيل الأول لم يتوصل الى المصالحة النفسية مع الذات، ليصاب بالقلق والإضطراب. والجيل الثاني يصاب بالعجز وعدم التواصل مع الآخر. أما الجيل الثالث فقد وصل حد الكراهية للذات والرغبة في الضياع.

فالصراع يدور بين شخصيات الفيلم/العائلة ضمن ثلاثة محاور.. الملكية ـ العائلة ـ الدولة. الملكية: تتجسد في شخصية الجد، كونه مؤسس هذه الملكية وشرف الأبناء الدفاع عن هذه الملكية. والعائلة: تبدأ نتيجة لهذه الملكية وتستمر كوعاء لها. فالعائلة في هذه الحالة ليست عبارة عن علاقات إجتماعية مترابطة، وإنما هي علاقات تحتويها إضطرابات كثيرة مع كل تغيير يطرأ على الأرض/الملكية. حيث يداخلنا الشك في وجود علاقات طبيعية كالتضامن والمحبة والأخوة بين أفراد هذه العائلة، وإن وجدت فهي وسائل فقط للحفاظ على ملكية الأرض وإستمرارها. ثم المحور الثالث وهو الدولة: التي هي إستمرار للتاريخ الإجتماعي للعائلة، فالحكومة هنا هي الهرم الذي يجاور الملكية ويكون حارساً عليها. وعندما لن يكون كذلك فإن الملكية تكون في خطر.

لقد نجح المخرج يسري نصر الله في الغوص في أعماق شخصياته المتمثلة في أفراد العائلة، وتعرية طبيعتها ودوافعها وإدانتها بشكل قاس وجريء، ولكنه في نفس الوقت كان حريصاً على أن يمسح على آلامها وجروحها بحب وحنان. إننا نشعر بمأساة هذه العائلة ونتفاعل معها، فهي تشحننا ضدها على المستوى الإجتماعي والسياسي، كما تثير تعاطفنا على مستوى أزماتها العاطفية والنفسية. والفيلم ينطلق من مجموعة حية من الأفكار والمشاعر، ويداعب عواطف راقية للمتفرج الحساس الذي لا يبحث عن الميلودراما المخدرة. وهو أيضاً فيلم لا يعتمد في سرده على الأسلوب التقليدي للدراما، وإنما على توظيف إمكانيات السينما في خلق حالات وعلاقات، لذلك فمن الصعب البحث عن حدوتة أو أحداثاً متتابعة، هذا إضافة الى أن المخرج قد نجح الى حد كبير في السيطرة على جميع أدواته الفنية والتقنية (أداء ـ تصوير ـ مونتاج ـ موسيقى ـ ديكور)، وإستطاع توظيفها لخدمة مضمونه الدرامي. فالملاحظ بأن أغلب المشاهد التي تدور داخل البيت الكبير بأسواره وأثاثه وألوان شبابيكه، تميزت بإضاءة محايدة بين الحزن والفرح.. إضاءة خافتة وألوان مطفئة، وليس هذا إلا تعبيراً موحياً وتجسيداً لكافة العلاقات الإنسانية المتناقضة والعواطف المحبطة. هذا بخلاف الجزء الثاني من الفيلم حيث الإضاءة الساطعة، بعد تفكك العائلة وإنهيار البيت الكبير، أضيئت المشاهد هنا لكي نرى هذا التفكك والإنهيار، كما عبر ياسر في حديثه عن مشهد مماثل في بيروت.

إن يسرى نصر الله في فيلمه هذا يقوم بعرض هذه المرحلة التاريخية الهامة من خلال الحياة اليومية لهذه العائلة، بكل تفاصيلها وخصوصياتها، وتجسيدها بشكل واقعي صادق من خلال ذلك الإيقاع المميت لتتابع المشاهد وحركة الكاميرا أو المونتاج الخاد في القطع. إنه يتذكر جوانب من سيرته الذاتية، لذلك أتصف الفيلم بدفء المعايشة الشخصية للحدث.

أخيراً، ينبغي الإشارة الى أن فيلم (سرقات صيفية) عمل ليس له علاقة تماماً بالإنتاج السينمائي المصري المهيمن.. عمل متحرر من كافة قيود الإنتاج التقليدي.. عمل لا يعتمد على نظام النجوم. كل هذا قد جعله فيلماً متميزاً، وجعل مخرجه في حالة فريدة من الحرية الفنية والشخصية، لتقديم فيلم إنطلق أساساً من قناعاته هو كفنان وإنسان، وكانت النتيجة مذهلة. فقد تخطى بنجاح هذه المغامرة الفنية الخطرة في ظل هيمنة تيار السينما التقليدية.

 

مجلة نقد21 المصرية

عدد يونيو 2022

 
 
 

يسرى نصرالله.. جزء من سيرة

 

كان عمري ست سنوات عندما ذهبت للمرة الاولى مع أبي وأختي لنتفرج على فيلم في سينما كايرو، كان اسم الفيلم "رحلة إلى منتصف الأرض" عن قصة لجول فيرن، "إتهبلت" وأظن أنه منذ ذلك اليوم عرفت أن السينما هي أكثر شيء، أحبه في الدنيا.. أكثر شيء أريد عمله. أتذكر أنني كنت أضرب بالأكف على وجهي من أبي ومن المدرسين لأني كنت أرسم على كراريسي إعلانات الأفلام التي لا أستطيع مشاهدتها.. التي كانوا يمنعونني عنها. كنت أرسم وأنا في السابعة علامة "سكوب بالألوان"، وأظن أنه في سن الثامنة كنت أكتب تحت الإعلانات: "إخراج: يسري نصرالله". لم تكن فكرة أن أكون ممثلاً بجذابة لدي، ولكن ما كان يجذبني دائماً هو: من يعمل هذه الافلام؟ وكان هذا هو سؤالي الدائم لأهلي.. كنا نذهب للسينما يوم الجمعة، فكان الخروج إلى السينما هو الشيء الذي أحيا لأجله من الجمعة للجمعة، واليوم الذي كنا لا نذهب فيه للسينما كنت أزعل وأبكي وأكتئب. في المدرسة أيضاً كان حبي للسينما يجعلني أتكلم مع أصحابي دائماً عن السينما، وأيام 1967 منعت الأفلام الأمريكية من مصر، كانوا يعرضون أفلام السينما الصديقة: الروسية، التشيكية، البولندية، وكل السينما الأوروبية، فعرفت فيلليني وفيسكونتي وجودار.. إلخ.

تربينا كجيل على السينما الأوروبية، وجاءت معرفتنا بالسينما الأمريكية متأخرة، وهذا وإن كان له فوائد إلا أنني عندما أصبحت سينمائياً اكتشفت أن هذا له أيضاً مشاكله، فالسينما الأوروبية سينما أكثر فكرية، وحيز الإبهار والاستعراض فيها أقل، واليوم أحاول أن أقاوم هذا، أحاول أن أرجع ـ ليس بالمعنى التجاري ولكن بالمعنى الجمالي أيضاً.. بمعنى مفهومي للسينما ـ أحاول أن أرجع بذاكرتي للحظة مشاهدة فيلم لأول مرة في حياتي، ذلك الفيلم الذي بهرني وأخذني إلى داخل السينما ـ شفطني ـ والذي كان فيلم مغامرات تحت الأرض. إحساسي اليوم أن السينما في ظل وجود التليفزيون يجب أن تأخذك لما هو غير مألوف، تأخذك بعيداً، تفتح لك شبابيك تحلم منها وترى ما لم تتعود على رؤيته وما ليس يومياً، اليوم أشعر بضرورة هذا وبضرورة أن أبحث عنه، ليس تنكراً للسينما الأوروبية ـ التي أحبها بتياراتها المختلفة ـ ولكن بحثاً عن شيء لا ينبغي أن يكون ناقصاً، السينما كفن جماهيري، كفن يفترض أن من يشاهد يبتهج ولا يشعر أن بينه وبين ما يراه مسافة.

الأستاذ شادي عبدالسلام كان يسكن تحت مسكني، وبالنسبة لي هو أول شخص تعلمت منه أو اقتربت إلى السينما من خلاله، كنت أذهب إلى مكتبه ـ الموجود في شارع 26 يوليو ـ كثيراً، منذ أن كنت في الثانوي وكنت أدخل في النقاشات الجارية في المكتب مع عدد كبير من العاملين بالسينما الآن والذين كانوا يذهبون إلى مكتبه، مثل رأفت الميهي وداود عبدالسيد.. أذكر أني في المدرسة كتبت مقالاً طويلاً جداً نشر بمجلة المدرسة عن فيلم "المومياء"، وكان شادي قد أعطاني صوراً ورسومات من الفيلم لكي أحكي كيف كان يعمل الكادرات ولأبين أنها كانت مرسومة بدقة قبل التصوير، وما إلى ذلك... فلما جاءت السنة الثانية في الكلية قال لي الأستاذ شادي: "قدم في المعهد.. أنت تحب السينما"، فذهبت إلى المعهد وقدمت ولم أكن أعرف أحداً هناك وامتحنت ونجحت.

*****

دفعتي في المعهد كانت تضم بهاء النقاش ـ الله يرحه ـ وعرب لطفي ومحمد شعبان وعدداً من الشباب المتحمسين جداً، وكان هناك حركة طلابية ـ أنا أتكلم هنا عن السبعينيات من 1970 إلى 1973. كان لدينا إحساس أنه لابد أن ننزل بالكاميرا إلى الشارع ونرى ما يفعله الناس، قلنا لنفعل ذلك ونجمع "فلوس" ما بيننا ونتحرك لنرى ما يحدث، كنا نريد ذلك كأشخاص يحلمون بالسينما ويعايشون التيارات السينمائية الموجودة في العالم أيامها ـ الكاميرا التي تنزل إلى الشارع والموجة الجديدة والسينما الثورية وكل تلك الأمور ـ قابلنا العميد لكي يعطينا الكاميرا ويكون مشرفاً علينا، فطردنا وقعتها، قال لنا: "أنتم سنة أولى ومالكمش دعوة بالكاميرا.. أنتم فاكرين نفسكم إيه؟".. أظن أن هذا الرجل كان جمال مدكور ولكني لست متأكداً لأن ثلاثة أشخاص تناوبوا على منصب العميد في تلك السنة الوحيدة هم: جمال مدكور وموسى حقي ـ أخو الأستاذ يحيي حقي ـ ومحمود الشريف، كان لدي إحساس بأن ميكانيزم المعهد أيامها هو ما جعلني لا أشعر بالراحة في المعهد (مجموع القبول بالمعهد من الثانوية العامة كان قليلاً ويدفعك للإحساس بأن في المعهد أشخاصاً كثيرين موجودين لأنهم لم يجدوا مكاناً آخر "يتاويهم" والنقاش السينمائي الفكري في المعهد كان بشعاً ومنحطاً جداً). كنت أشعر أني لو أكملت بالمعهد فسأكره السينما، ومع هذا الإحساس بخطورة المعهد على حبي للسينما وعلى رغبتي في عمل سينما ومع خناقة ثانية مع الإدارة أو شيء مثل ذلك دخلت في محاضرة الأستاذ محمود مرسي وكان من المدرسين المحترمين، وقمت بقراءة استقالتي من المعهد: "آنه نتيجة كذا وكذا وكذا سأترك معهد السينما حرصاً على حبي للسينما، وهاتشوفوا أني في خلال كم سنة هابقى مخرج"، وتركت المعهد وأكملت في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية، وأخذت منها البكالوريوس.

أعتقد أن معهد السينما اليوم يحاول خلق توازن أكبر في معرفة الطالب أو الطالبة بالعالم، فعندما ذهبت لمناقشة "سرقات صيفية" و"مرسيدس" في المعهد شعرت أن هناك مستوى نقاش معقول لم يكن موجوداً أيامنا.. أيامنا كان النقاش "فهلوي" أكثر، "سلطوي" أكثر، الناس خائفون لأنهم غير داخلين في آليات المجتمع.. اليوم هناك تحسن، تحسن ناتج غالباً من أن المجتمع أصبح متطوراً، لم يعد هناك شيء اسمه "التنظيم الطليعي" وهذه "البلاوي" التي كنا نتعامل معها، الدولة نفسها تغيرت، هيمنتها على المجتمع قلّت، وأصبح الصراع مشروعاً ـ بهذا المعنى ـ بين الدولة والمجتمع وداخل المجتمع ذاته: أيامنا لم يكن الأمر كذلك: كنا نعتبر فيلماً كـ"زائر الفجر" لممدوح شكري فيلم "سوبر ثوري"، وأفلام "دميانو دمياني" التي هي أفلام رديئة تشبه المحاضرات عن المافيا الإيطالية وتواطؤ أجهزة الدولة معها كانت بالنبة لنا أفلاماً ثورية تماماً، وهذه كانت الأفلام التي كنا نذهب لنناقشها كمرجع لكيفية التكلم عن مشاكلنا في المجتمع، اليوم نتكلم بشكل واضح عما لدينا وما ينقصنا.

*****

سنة 1978 ذهبت إلى بيروت بناء على دعوة من صديقة اسمها ريما سالم كان زوج شقيقتها أحمد عبدالرحمن في منظمة التحرير الفلسطينية، قالت لي: "ما تيجي تعمل فيلم علن الأطفال الفلسطينيين، ونقدر ندبر لك تمويلاً".. كان أيامها عام الطفل، ذهبت إلى لبنان هاديء جداً وبريء جداً، ولكن عندما دخلت في إطار مؤسسة السينما الفلسطينية وجدت جنوناً تاماً. حاولت أن أعمل فيلماً عن أطفال تل الزعتر والشباب الذي حضر مذبحة أيلول الأسود. وكانت الفكرة هي أن تبعية النضال الفلسطيني للأنظمة العربية هو الذي يجعل مذابح مثل هذه تحدث.. طبعاً لم يتم عمل الفيلم.

في هذه الأثناء استقال الناقد إبراهيم العريس من جريدة السفير فعرضوا علي أن أكتب مقالات أسبوعية فكانت فرصة لأني لم أكن آخذ نقوداً من منظمة التحرير، وكنت أعتبر ما أعمله جزءاً من التزامي الثوري تجاه قضايا النضال العربي، وسمح لي عملي في السفير أن أبقى في بيروت لكي أكمل الاستطلاع الذي كنت أعمله لنفسي، لكي أعمل الفيلم الذ لم يُعمل أبداً. كانت بيروت مكاناً خرافياً، عشت فيها أربع سنين من 1978 حتى 19882.

سنة 1982 ـ السنة التي حدث فيها الغزو الإسرائيلي لبيروت ـ بدأ التعب يظهر ويزداد الإحساس بالهزيمة، وما زاد إحساسي بذلك هو عملي مع المخرج السوري المعروف عمر أميرالاي كمساعد في فيلم تسجيلي اسمه "مصائب قوم" عن حانوتي شيعي يشغّل سيارته كـ"تاكسي" حينما لا يكون هناك أموات.. الشخصية ظريفة جداً، وتجربة الفيلم نقلتنا من مكان لمكان فبدأت أشعر أن هناك أشياء لم تعد "ماشية".. لم تعد "نافعة". السينما وسيلة معرفة، تستشعر من خلال نشاطك كسينمائي أسياء، بالمتابعة تبدأ في الإحساس بها.

عندما جئت إلى مصر في مارس 1982 قابلت يوسف شاهين. قال لي يوسف شاهين: "أنت إيه اللي مقعدك في بيروت ما تيجي مصر"، وهذا ما كنت أتمناه، فرجعت إلى بيروت و"وضبت" أوضاعي وعدت إلى مصر في 30 مايو، ولمدة شهر لم يكن يوسف شاهين موجوداً، فلم أكن أعرف ماذا أفعل، ولا أدري إذا كنت سأجد عملاً في السينما أم لا، المهم.. رجع يوسف شاهين وكان يريد أحداً يعمل معه كمنقح لسيناريو "الوداع يا بونابرت" للغة وللتركيبة نفسها، "يوضب" له أوراقه وأشياء كهذه ـ مثل السكرتير ـ فعملت هذا العمل وبالتدريج وجدت نفسي قادراً على العمل مع يوسف شاهين كمساعد إخراج، لأني كنت قد أصبحت عارفاً بالموضوع جيداً، عارفاً بتفاصيله، وعملت مع يوسف شاهين المعاينات.. إلخ. فوجدت نفسي من الشارع مساعد أول في "الوداع يا بونابرت" ومعي أحمد قاسم، وكانت هذه التجربة مغامرة خرافية تعلمت ن خلالها ما معنى السينما، ماذا يعني الإخراج، ماذا يعني أن تجد مكاناً للتصوير.. عندما تعمل فيلماً ـ هذا أكثر شي تعلمته من يوسف شاهين ـ كيف تحول مكاناً موضوعاً وشخصيات إلى أشياء تخصك، تشعر بالراحة لها مثل علاقتك ببيتك، وهؤلاء الناس الذين تعمل معهم هم أهلك، وإلى أي مدى لابد أن تكون متواضعاً أمام عملك، ومباشرة بعد "الوداع يا بونابرت" بدأت أكتب في "سرقات صيفية".

**

منقول عن مجلة "ألف"ـ العدد 15 ـ 1995

أعيد نشرها كما هي في مجلة هنا البحرين عام 2005

 

 

مجلة نقد21 المصرية

عدد يونيو 2022

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004