يلعب الهم الواحد قطب الرّحى الذي يدور حوله مجموعة من البشر
-صغرت أو كبرت-، فتراهم مجتمعين حول موضوع أو مهنة أو قضية أو
فن -باختلاف القطب ومن يدورون حوله- والسينمائيون في العالَم
من هذا اللون، ممَّن يجتمعون حول شغفهم، ولأنَّ السينما ميدان
واسع يحتضن أصحاب مهن كثيرة (الكتاب، المخرجين، المصورين،
الممثلين، وبقية القائمة الطويلة)؛ لذلك دائرة صداقاتهم أكثر
اتساعًا عند مقارنتها بالآداب والفنون الأخرى، وأجمل هذه
الصداقات حين تكون السينما طرفًا لا أصلًا، فشلة «الحرافيش»
على سبيل المثال تضم الروائي والسيناريست نجيب محفوظ والمخرج
توفيق صالح، التي أنتجت أولى خطوات توفيق صالح في فيلم «درب
المهابيل» عام 1955م، وخاصة بعد خوض نجيب محفوظ تجربة كتابة
السيناريو مع المخرج صلاح أبو سيف في أعمال عدة منها: المنتقم
عام 1947م، ولك يوم يا ظالم عام 1951م، وريا وسكينة عام 1953م،
والوحش، وجعلوني مجرمًا عام 1954م.
هذه الصداقات منتجة، وتسير وفق تحقيق الأهداف المنشودة، بتقديم
الأفكار بألوانها وفي قوالب مختلفة، فـ«الحرافيش» لم تجمع
الروائي والمخرج فحسب! بل الفنان أحمد مظهر، ورسام الكاريكاتير
بهجت عثمان، والتشكيلي توفيق شفيق، والطبيب يحيى الرخاوي،
والصحفي محمد عفيفي، والكاتب عادل كامل، والروائي ثروت أباظة،
وغيرهم ممن تتسع بهم الدائرة وتضيق، فهذه التوليفة هي التي
تصنع الحكايات، وتوسّع أفق المعارف، وتساهم في تنفيذ المشاريع
المشتركة، فكل خطوة في مسيرتها ؛ تقود إلى خطوة أخرى.
إن تجارب نجيب محفوظ مع صلاح أبو سيف في كتابة سيناريوهات لقصص
غيره ؛ قادته إلى كتابة فيلمه الخاص مع توفيق صالح، والانطلاق
مع مخرجين آخرين، وظهور رواياته وقصصه في السينما وعلى الشاشات
بقلمه أو بقلم غيره، فهذا الانفتاح على الفنون هو ما يوصل
الحروف لتُسمع، والكلمات لتتمثّل على ألسنة أبطالها، وهذه
الصداقات هي واحدة من وسائل التواصل الأسرع بسماع كل طرف من
الآخر، واهتمام المخرج بما سمعه، والتفكير بتنفيذه؛ حتى يصبح
واقعًا لا حلمًا على كف الورق.
وسائل التواصل الاجتماعي في هذا العصر جعلت من الحرافيش أكثر
تقاربًا وبُعدًا، فمن الممكن عقد صداقات افتراضية، ولكنها لن
تكون بقدر التواصل بين الأصدقاء، وإن كانت تبني جسورًا لتحقق
تواصلًا حقيقيًّا مثمرًا كما حدث فور صعود اليوتيوب، وتكوين
شلل صحية على غرار «سين» و«يوتيرن» و«تلفاز 11» وغيرهم، ولا
أبلغ من النجاح الذي تحقق على يدي الأخيرة، وهي من ابتدأت
بأربعة من المهتمين: فهد البتيري، وإبراهيم الخير الله، وعلاء
يوسف، وعلي الكلثمي. فهذه البذرة هي من نهضت شجرة مثمرة يسّاقط
ثمرها حتى اليوم، وذلك بجذب المبدعين، واحتضان المواهب، وتذليل
العقبات لتقديم أعمالهم، وحسبهم ما أُنتج أخيرًا من أفلام
طويلة بمواهب مختلفة التوجهات مثل «أغنية الغراب» لمحمد
السلمان، و«سطّار» للمخرج الكويتي عبد الله العراك، وبطولة
إبراهيم الحجاج وعبدالعزيز الشهري وإبراهيم الخيرالله،
و«الخلاط+» على نتفليكس لفهد العماري، وأخيرًا وصول مهرجان
تورنتو السينمائي هذا العام بفيلمَي «مندوب الليل» لعلي
الكلثمي، و«ناقة» لمشعل الجاسر.
من يتابع هذا الحراك في «تلفاز 11» سيدرك أثر الصداقات الصحية
في تحقيق الأعمال على أرض الواقع، وخروجها من رؤوس وأوراق
أصحابها؛ لتكون صورًا تتحرك، وأبطالًا يرسمون مستقبل السينما
السعودية بخطوات جادة، والعمل على الإنجاز؛ لا الحديث
والأمنيات، وهذا ما تحقق أيضًا على يدي المخرج مالك نجر وعبد
العزيز المزيني بالقواسم المشتركة، والتوافق الفني بين
الاثنين، والانطلاق بـ«مسامير» لتصبح فيلمًا ومحافظة لاحقًا،
و«يعرب»، ولن تنتهي شراكتهما الفنية المبدعة بـ«راس براس»،
فأفُق تطلعاتهما وطموح المبدعين لا سقف له، والثنائيات المبدعة
دائمًا ما تُثمر، ولا تتوقف مثل ما حدث بين مفرج المجفل
وعبدالعزيز الشلاحي، وأثمر أعمالًا رسمت مسيرة الاثنين ؛ عندما
ابتدأت هذه الصداقة بعد تنفيذ المخرج عبد العزيز الشلاحي عددًا
من أفلامه مثل: مشوار وعطوى وكمان، ليجمع القدر بينهما في
فيلمهما القصير «المغادرون» عام 2017م؛ للتمهيد لاستمرار
علاقتهما الفنية، وتنفيذ مزيدٍ من الأعمال والمشاريع المشتركة،
والانطلاق نحو الفيلم الطويل بـ «المسافة صفر» عام 2019م،
وفيلم «حد الطار» عام 2020م، فضلًا على الأعمال التليفزيونية
المشتركة، والاستعداد لفيلم جديد -بعنوان «هوبال»- جارٍ طهيه
على نار هادئة، وسيُنفَّذ في استوديوهات «بَجدة» في نيوم خلال
هذا العام.
إن هذه الثنائيات دومًا منتجة، فبها تنطلق المسيرة، وإن لم تكن
محبذة ؛ لخشية تكرار التجارب، وعدم الانفتاح على تجارب أخرى
للطرفين، ولعل هذه ما يعيه كل الأصدقاء بتنوع أعمالهم، وتعاون
كل طرف مع طرف آخر لتجربة أسلوب مختلف؛ غير أن تكرارها أمرٌ
صحيٌّ أيضًا ووارد جدًّا. فتوافُق الرؤى، ومعرفة كل طرف
بالآخر، والاشتغال على مواطن القوة عند كل واحد منهما؛ تقود
إلى أجود ما يمكن تقديمه لكليهما.
أذكر ما يتردد من عتب على الجيل الجديد من قطيعة بينهم وبين
الرواية السعودية؛ حيث أثير هذا الموضوع في ملتقى الأدباء
بالطائف في أغسطس 2022م ضمن ندوة تجمعني بالصديق بدر السماري،
وكنت أشير يومها إلى أهمية هذا التواصل بين الأطراف بتهيئة
سُبل الصداقات بين الطرفين، وردم الهوة بين الأدباء والفنانين،
فما دام التصور مستمرًّا في الفصل بين الأدب والفن؛ فلن تتغير
الصورة، ما دام الأدب معزولًا في أنديته، أو في شريك أدبي
انتقل بفكره، وبدّل المسارح الفارغة بالمقاهي لا أكثر، دون هذا
الجمع ما بين الأدباء وعُشاق الفن، واجتماعهم على هم واحد،
وبفسحة وتسلية واحدة؛ تجمع ما بين الإصغاء والمشاهدة دون
مفاضلة بين الفنون أو الآداب، ومعرفة أن كل فن محتاج إلى الآخر
بطريقة أو بأخرى، فالسبيل الوحيد لإظهار الأجود، هو القبض على
الأجدر، وتقديمه بأفضل صورة، فلا غنى عن الرسم والموسيقى
والأدب والفنون والمسرح والسينما في عصرها، وتعالي أي جهة ما
هو إلا نوع من السقوط، وعند ذلك تكون المراكز الثقافية الجامعة
هي الوسيلة لجمع كل الأطراف، فلا أجمل من الخروج من حفلة
موسيقية للدخول إلى معرض فني، والتعريج على أمسية ثقافية،
والسهر على فيلم سينمائي، والنقاش بعده مع «حرافيش» من
المهتمين، وسيظل ذلك حلمًا حتى حين، فمملكة الأحلام هي التي
صرنا نراهن على تحقيقها سريعًا؛ بل قبل أن نفيق من حلمنا. |