أفلام ما بعد الحداثة التي شاعت مؤخرًا في منطقتنا العربية،
جاءت صادمة، وتواجه موجة من الاعتراضات، وتحديدًا في البيئتين:
الحداثية، والتقليدية التي اتفقتا ـــ لأول مرة ـــ في التاريخ
على هدف واحد، وكانتا قبل ذلك خصمين لدودين. بينما البيئات
الغربية تجاوزت الحداثة والتقليد إلى زمن ما بعد الحداثة
كأوروبا وأمريكا تحديدًا، لهذا جاء منتجها السينمائي متسقًا مع
مرحلتها الزمنية، ولا يخلو الأمر من اعتراضات.
يمكن أن نعد عام 2020م، العام الأبرز في انتشار أفلام ما بعد
الحداثة في مناطق أخرى في العالم، كالشرق الأوسط، والعالم
العربي. وهنا ـــ عربيًّا ــــ بدأ الناس خلال السنوات الثلاث
الماضية، يرون أفلامًا لم يألفوها، لا شكلًا ولا مضمونًا.. وهو
العام الذي تزامن معه تسلّم الأيديولوجيا اليسارية الحُكمَ في
الولايات المتحدة الأمريكية متمثلًا في الحزب الديمقراطي
بقيادة
Joe Biden،
حيث امتطى اليسار الأمريكي قيمَ زمن ما بعد الحداثة، وجعلها
بمثابة حصان طروادة، اقتحم بها عالمَنا عن طريق منصة
Netflix
وغيرها من المنصات، ودور السينما، وإلا فإن قيم ما بعد الحداثة
لا تتعامل في أصلها مع الأيديولوجيات أيًّا كانت، وتراها شكلًا
زائفًا.
تشعرك أفلام ما بعد الحداثة بعدم التوازن، مرهقة، تصدمك، تطرح
ألف سؤال بعد الانتهاء من العرض، وتقدم ألف معنى، لا يتفق أحد
عليها، تكسر أشياء كثيرة اعتدتَ عليها.
يمكن أن يحصل لك كل ما سبق بمجرد أن تنتهي من مشاهد فيلم
Oppenheimer
«2023» الذي ما زال يُعرَض حاليًّا في دور السينما السعودية،
والإرباك يتركّز في السلسلة السردية، فلا تدري هل هو سيرة
ذاتية، أم فيلم وثائقي، أم درامي، لأن الخط السردي جاء
متعرّجًا، متداخلًا، متشظيًا، وكسر فيه كل قوانين الزمن، وجاءت
بشكل غير خطي
Non-linear،
معتمدًا على جُملٍ حوارية سريعة، تظل طوال ثلاث ساعات مدة
العرض، تلاحقها لتصل للمعنى، وما أن تصل إليه، تجد الذي بجوارك
قد وصل لمعنًى آخر، يفعل ذلك حتى يكون الفيلم متقدمًا على
الجمهور قليلًا، حتى لا يعرفوا القادم فيصابوا بالإحباط.
كرستوفر نولان الذي قوض بذلك كل قوانين كتابة السيناريو
الحداثية المعروفة، كان له تجربة هي الأخرى ما بعد حداثية،
تتجلى في فيلم «The Dark
Knight»
(2008) الذي استعرض فيه تاريخ ظهور زمن ما بعد الحداثة، وهي
تناهض قيم الحداثة، ويتمثل ذلك في: الرجل الوطواط، والجوكر،
الأول يهتم بالقيم الاجتماعية وهي أهم سرديات الحداثة، بينما
الثاني يقوض كل شيء. تشاهد الفيلم، وكأنك تقرأ كتاب ليوتار
«الوضع ما بعد الحداثي» 1979م.
وفي هذا السياق، يعرض حاليًّا فيلم
Barbie
«2023»، وهو فيلم ما بعد حداثي في كثير من تفاصيله، لا يحفل
مطلقًا بالنظام الأُسري التقليدي المعروف، ولا بالنوع، يحطم
قيم الفن العالي، ويرفع قيمًا منخفضة، حتى عدَّه البعض فيلمًا
تافهًا، يعمل على إرضاء غرور الأنثى مقابل الذكر، ولكنه في
تفاصيل أخرى لا تخطئ العين بعضًا من الأصوات اليسارية، لهذا،
من الضروري الفصل بين الأفلام ما بعد الحداثية، أو الأفلام ما
بعد الحداثية المنطوية على فعل يساري موجه.
وبمقارنة سريعة، يكون فيلم
Oppenheimer
فيلمًا ما بعد حداثي في شكله وتكوينه، ولكنه لا يتجرد تمامًا
من قيم الحداثة إذا ما عددْنا الفيلم دعوةً لجعل أمريكا عظيمة
Make America
Great Again
كما هو شعار الرئيس الأمريكي السابق ترامب، بينما فيلم
Barbie
فيلم ما بعد حداثي، موجه، بملامح يسارية، استعاد الدمية
الشهيرة باربي، وأعاد صياغتها بطريقة
pastiche
ونسجها ضمن قصة الفيلم في توليفة بات الفيلم فيها أقل مستوى من
مكانة الدمية باربي، والنتيجة من هذه المقارنة بين الفيلمين،
أعني:
Oppenheimer
و
Barbie
تؤكد أن أفلام ما بعد الحداثة، هي أفلام أفرزتها مرحلة زمنية،
قوانينها تنبع من ذاتها، تناهض الحداثة بسلبياتها التي لم تعد
تطاق، وتقلل من أهمية السرديات الكبرى، في الوقت الذي تناهض
فيه الأيديولوجيات بشتى أنواعها، ولأن هذا الزمان، زمانها،
زمنٌ ما بعد حداثي مهيمن، يعكس قيم الأجيال الجديدة، فإنَّ
الأيديولوجيات كعادتها تركب الموجات الجديدة وتجيرها لصالحها،
وحتى لا يختلط الأمر، ليس كل فيلم ما بعد حداثي، يساريًا أو
يمينيًّا، إلا بقدر الجرعات التي يضعها صانع الفيلم.
أما فيلم
Amelie
(2001م) للمخرج الفرنسي جون بيير جونيه، فهو أحد أشهر الأفلام
التي تنتمي لما بعد الحداثة، بعيدًا عن أي أيديولوجيا موجهة،
وتكمن ملامح ما بعد الحداثة، في كسرها لقواعد الإخراج، وخروجه
عن قواعد تحرير الألوان، وكذلك في الانتقالات من مشهد إلى مشهد
ليس بينهما رابط حكائي، ولا دلالي، ولكن السحر والجمال يربط
بين كل المشاهد، لدرجة تسامي المشاهد مع الفيلم، والإغراق في
التأمل.
أفلام
American beauty
أو
fight club،
هي أمثلة لأفلام أخرى ما بعد حداثية، الأول يتناول الحياة
الافتراضية، بين الحلم الأمريكي الجميل، وما يخفى من قبح،
ومشكلات، وما تظهره الأسرة من حياة جميلة، ليس بالضرورة أن
يكونوا على وفاق من الداخل، أما الثاني فيصب جام غضبه على رؤوس
الأموال التي صنعت مجتمعات استهلاكية، ويتطلع إلى مجتمع بلا
سلطة، ولكنه لا يخلو من أدبيات الأناركية
Anarchism.
لهذا، من الضروري التفريق بين أفلام ما بعد الحداثة الخالصة،
والأفلام التي شابها شيء من الأيديولوجيا.
هذا يحيلنا إلى سؤال متوقع: ما هي الحداثة؟ وما هي ما بعد
الحداثة؟ ونختصر الإجابة بالآتي:
يتلمس الباحثون مفردة «الحداثة» عند هيغل، الفيلسوف الألماني،
المتوفَّى عام 1831م، حينما ذكر في كتابه «ظواهر الروح» جملة:
«الأزمنة الحديثة». وعرَّفها بأنها، «معيار ذاتها» بمعنى أن أي
شيء «حديث» يكون معياره فيه، في داخله، وهذا المعيار لم يُؤخذ
من العصور السابقة، ولا من التراث ولا من أي مكان. ففي هذا
الزمن تحديدًا كل ما ظهر من اختراعات وفلسفات، وعلوم طبيعية،
وقوانين، وأنظمة، تعبر عن طفرة زمنية حديثة، أطلق عليها زمن
الحداثة الذي بشّر بحياة كريمة للإنسان، والسيطرة على كل ما
يؤرقه، ولكن الحداثة فيما بعد تجبَّرت، واستعمرت الإنسان
وجعلته ترسًا لمصانعها، وجنديًّا في مستعمراتها، وسحقت شعوبًا،
ورفعت آخرين، وكتبت السرديات الكبرى، مثل: التاريخ يتقدم،
والديمقراطية، والنظم الاجتماعية، وأنتجت الحروب العالمية:
الأولى والثانية، وحروبًا أخرى في كل مكان.
وكردِّ فعل لسلبيات زمن الحداثة، ظهر زمن جديد يناهض توحش
الحداثة، وقوض سردياتها الكبرى، وناهض النخبة، والطبقية،
والاستعمار، والأنظمة التي تدير العالم، وأسقط المرجعيات على
إطلاقها، ومن ضمنها مرجعات الفنون، وبدا لكل فنان، فنُّه الذي
يعبر فيه عن ذاته، ولكل شريحة فنية، فنُّها الخاص، لا قواعد في
كتابة السيناريو، ولا قواعد في إخراج الفيلم، ولا قواعد في
التمثيل، وكل شيء يمكن أن يكون فنًّا، وتلاشى النقد، فماذا
يمكن أن يُقرأ، أو يحلل، أو يفسر!! فكل ما يشاهده الناقد ليس
سوى انفعالات، وتعبير ذاتي، وتجليات، لا تحكمها قاعدة، ولا
نظام. ومفهوم ما بعد الحداثة الخالص، مفهوم جمالي، وشعوري،
وتأملي، أكثر من كونه عقلانيًّا أو مرجعيًّا.
*رجا العتيبي ــ أكاديمي ، سينما ومسرح |