في عام 1965 أصدر الكاتب المصري إحسان عبد القدوس مجموعته
القصصية «بنت السلطان» التي ضمت 33 قصة قصيرة متنوعة ما بين
الفانتازي والاجتماعي والبوليسي والنفسي، وهي عادة إحسان في
تقديم وجبة أدبية متنوعة خلال مجموعاته القصصية التي بدأت مع
نهاية الأربعينيات، وشكلت صوتًا مختلفًا وجديدًا في كتابة
القصة القصيرة المصرية والعربية على حدٍّ سواء.
ومن بين قصص المجموعة قدَّم عبد القدوس قصة إمبراطورية ميم
فيما لا يزيد على عشر صفحات، لتصبح بعد ذلك نواة الفكرة التي
ينطلق منها مُجايِله الكبير نجيب محفوظ عام 1972 بالتعاون مع
إحسان نفسه والمخرج الشاب-آنذاك- حسين كمال، وكاتبة الحوار
كوثر هيكل، لتقديم سيناريو اجتماعي سياسي من بطولة فاتن حمامة
وأحمد مظهر يحمل اسم القصة القصيرة نفسها، ولكن شتان بين النص
الأصلي والمعالجة المحفوظية للسيناريو الفيلمي.
في قصة إحسان كان البطل-ويُدعى محمد مرسي- هو رجل عصامي استطاع
أن يصعد مهنيًّا واجتماعيًّا وماديًّا بأسلوب شريف وفي سياق
نجاح يكفله مجتمع ينمو بشكل اقتصادي جيد خلال سنوات الستينيات،
رغم كل ما يشوبه من سيطرة فكرة الحكم الفردي والسلطة السياسية
مطلقة القوة.
وعندما أنجب محمد مرسي خمسة أبناء ذكور قرر أن يُطلق على
جميعهم أسماء تبدأ بحرف الميم، في محاولة لصناعة إمبراطورية
أسرية تتكاثر وتتوالد عبر أبناء وأحفاد بالحرف نفسه! وعندما
يظن مرسي أنه قد ثبَّت سلطاته الأبوية، وأصبح ينتظر أن يجني
ثمار الحياة الأسرية الناجحة، والعزوة الذكورية الفخمة، يصطدم
مع ابنه الأوسط مجدي دارس الفلسفة، الذي يقاوم هذا المد
السُّلطوي الأبوي ويُقرر أن يطرح فكرة الانتخابات لتداول
السلطة في البيت، على اعتباره الخلية الاجتماعية الأولية التي
يتشكل منها المجتمع.
يترشح مجدي أمام أبيه الذي يرفض أن يصنع لنفسه أي دعاية
انتخابية معتبرًا أن ما يحدث لعب عيال! لكنه يُصاب بهواجس
وأحلام حول انهيار سلطته داخل المنزل وتحوُّله من أب/ قائد/
صاحب سلطة إلى مجرد فرد تابع لسلطة أكبر منه، يتم تداولها بناء
على اختيار الأفراد المستفيدين مما تقدمه لهم، وليس نتيجة
قانون طبيعي كالأبوة، أو شكل اجتماعي سياسي يخص أن من يملك
المال يحكم المصير.
ثم تأتي نتيجة الانتخابات باختيار الأب! وتشكيل مجلس إدارة
للأسرة لا يصبح فيه الفرد هو المتحكم، ويتلقى الأب درسًا في
مسألة تداول السلطة على يد ابنه الأوسط مجدي الذي –لحكمة
سياسية- لا يتم اختياره في مجلس الإدارة خوفًا من تطرفه.
بالطبع كان الإسقاط واضحًا على المجتمع المصري صاحب مبدأ الصوت
الواحد خلال فترة الستينيات -حرف الميم هو أيضًا أول حرف من
اسم مصر- وسيطرة الفرد في مواجهة رغبات المجموع، فلا مانع من
أن يتولى الأب/الزعيم السلطة ولكن بناء على اختيار الشعب، وليس
فرضًا بالقوة أو كحق طبيعي مكتسب، وهو ما نلمحه في الحوارات
السياسية ما بين الأب ومجدي في أثناء صدامهما، خاصة في مسألة
أن من يملك المال يحق له أن يحكم.
كذلك بدت الرسالة واضحة في أن أصحاب النظريات والأيديولوجيات
مهمتهم فقط تحفيز الشعب/ الأسرة وتنويره، ولكن لا يجوز أن
يصبحوا جزءًا من السلطة نظرًا لكون النظرية هي إشارة للطريق
السليم ولكن تطبيقها الحرفي قد يؤدي إلى فشل النظام بأكمله وهو
ما أدى إلى استبعاد الابن مجدي من مجلس إدارة العائلة.
ما فعله محفوظ في المعالجة الفيلمية هو الانطلاق من فكرة
التعدُّدية وتداول السلطة مع الحفاظ على رأس العائلة مهيبًا
ومسيطِرًا من خلال تحويل الشخصية الرئيسة من رجل إلى امرأة،
ليصبح الإسقاط الأساسي بالنسبة له هو الأم/ الدولة، وليس
الزعيم الفرد، وهو ما يشير إليه وضع الفيلم في سياقه الزمني
والسياسي (1972) أي بعد رحيل عبد الناصر عام 1970، وتولّي أنور
السادات.
الاقتباس والجندرية
تبديل جندر الشخصية الرئيسة من الأب إلى الأم انتقل بالفكرة
إلى مستوى أعمق وأكثر دلالة، مع كون اسمها أيضا يبدأ بحرف
الميم «منى»، وقام السيناريو بتغيير جندر الأولاد ليصبحوا
أربعة شخصيات ذكور وفتاتيْنِ بدلًا من كونهم جميعًا ذكورًا في
النص الأصلي، وجعل الابن الأكبر مصطفى طالبًا في كلية الحقوق،
ليصبح اكثر اتساقا مع كونه المنظر الأيديولوجي للأسرة بدلًا من
الأوسط مجدي، دارس الفلسفة في القصة القصيرة.
وقام عبر المعالجة بتقديم ثلاثة خطوط متقاطعة لم يكن لها أي
وجود في القصة؛ الأول هو كون منى أرملة وليست زوجة، «في القصة
كان الأب زوج والزوجة على قيد الحياة»، ومن ثم يوجَد خطٌّ
عاطفي يخصُّ عَلاقتها برجل أعمال كثير السفر (أحمد مظهر)، وهو
الخط الذي ينتهي بالفشل نتيجة استغراقها أو اكتشافها ضرورة أن
تكون بكليتها ملكَ أسرتها، لإدارتها بشكل سليم.
ثم الخط الثاني الذي يخص وظيفتها الحكومية التي تتولى من
خلالها منصبًا كبيرًا في وزارة التعليم -مع ملاحظة أنها وزارة
متصلة بالتربية والأجيال الجديدة مثل أبنائها، وليست وزارة
إدارية أو مجرد مؤسسة حكومية عادية-.
ثم الخط الثالث الذي يرتبط بالعلاقات الاجتماعية والعاطفية
لأبنائها، مع التركيز على أربعة نماذج: اثنين من الشباب،
والفتاتين، لتصبح الأسرة في النهاية نموذجًا للخلية الاجتماعية
الأولية من خلال استعراض طبيعة هذه العلاقات ومشكلات الشباب في
تلك الفترة، والاكتفاء بأن تصبح شخصية مصطفى مجرد محفز
أيديولوجي للانتخابات، دون أن تكتمل أبعاده الدرامية مثل إخوته
الأصغر منه: «المنحرف والعازف والمسترجلة والرومانسية» وهو ما
يلخصه المخرج الفرنسي روبير بريسون بقوله إن السيناريو هو أن
تَخلق، ليس أن تُشوِّه أو تخترع أشخاصًا، ولكن الخلق يأتي من
أن تربط علاقات جديدة بين الأشياء والأشخاص كما هم عليه.
هذه الخطوط الثلاثة أثرَت المعالجة بشكل كبير، وحافظت على جانب
براق من الفكرة الرئيسة للقصة، حيث استطاعت أن تخلط الاجتماعي
بالسياسي بالتربوي، كما أنها حافظت على رشاقة الأحداث الدرامية
وزخمها بعيدًا عن خط الصراع الواحد الذي تمحورت حوله القصة
الأصلية، حيث تشعبت الخطوط والصراعات فأصبح هناك الصراع الخاص
بالخط العاطفي بين منى وأحمد، والصراع الخاص بمحاولة منى
الحفاظ على مكانتها كسلطة عُليا في البيت الكبير، والصراعات
الخاصة بمشكلات الأولاد: المنحرف الذي يدخن ويدخل في علاقة مع
خادمة صديقه، وعازف الجيتار الراغب في التدريب بالفيلا
استعدادًا لحفلة مهمة، والرومانسية التي تذهب إلى بيت صديقها
في خطة تحررية، والمسترجلة التي تقع في حب رجل متزوج أوهمها أن
الحب حرية وليس قيودًا اجتماعية وأخلاقية.
استخدم محفوظ في معالجة الفيلم على مستوى السرد تكنيك الفلاش
باك لكي يضمن مساحة مكثفة لتقديم شخصيته الأساسية -الأم منى-
واستعرض خلفيّة أزمتها العاطفية حين التقت ذات سهرة برجل
الأعمال الجذاب أحمد.
أما البعد المهني والاجتماعي للشخصية فيجري استعراضه من خلال
مشكلات آنية تواجهها منى بالفعل، وذلك قبل أن يستقيم السرد
زمنيًّا مع تصاعد الأحداث، ويصبح سردًا خطيًّا تقليديًّا لا
تقطعه أي تداخلات زمنية، وذلك من أجل ضمان تركيز المتفرج
واستغراقه في الأمثولة اللطيفة حول عائلة قررت أن تتداول
السلطة فيما بينها، عملًا بمبدأ الديموقراطية ومصلحة الجماعة.
وكما انتهت القصة ينتهي الفيلم، تحدث الانتخابات ويختار
الأولاد أمهم بما فيهم مصطفى حتى أن الأم تُدهش قائلة «حتى أنت
يا مصطفى»، ويزيد على القصة ذرى الخطوط الثلاثة، فأحمد ينسحب
إلى الظل علّه يجد لنفسه مكانًا في حياة منى ذات يوم، والأولاد
كلٌّ تنضجه التجربة على حدة، وإن كانت مشكلاتهم لن تنتهي،
وتعود منى لرأس الأسرة ولكن بتقبُّلٍ وحُبٍّ كاملين من قبل
أبنائها، ما يعني أن البيت سوف يسير إلى ما هو أفضل، وأن
إمبراطورية ميم سوف تصبح شكلًا سياسيًّا وحلمًا اجتماعيًّا
تحقق، ولو على مستوى تلك الأسرة.
يُعدُّ سيناريو إمبراطورية ميم نموذجًا يستحق دراسته من نماذج
الاقتباس من الأدب إلى السينما التي يتم فيها إجراء تحويل
جندري لشخصيات الأبطال من أجل تعميق الفكرة، وبلورة الصراع
بصورة أكثر جاذبية وكثافة، بالإضافة إلى وجاهته الدرامية فيما
يخص صياغة أكثر من خطٍّ للصراع انطلاقًا من هذا التحول بشكل
متدرج وواعٍ دون رطانة في الحكي أو تفاصيل غير مشبعة. |