أحد المفاهيم الأكثر غرابة في حد ذاتها هو مفهوم الــ«Uncanny»
لفرويد حيث يتأصل في مفردتين متضادتين
ليخلق منهما تجربة نفسية بإمكانها التأصل في مفاهيم مجردة أو
التجسد والتمثّل في صور وأماكن وكوائن كالأشباح ومصاصي الدماء
والجن والقرائن. تلك المفردتان يعود أصلهما للغة الألمانية مما
شكل عدة تراجم وشروحات حتى من قبل فرويد محاولة في وصف تلك
التجربة المتناقضة في حد ذاتها. فالكلمة الأولى هي
Heimlich
وتعني بشكل مبسط المألوف والمعروف وعلى النقيض
Unheimlich
المجهول وغير المعروف والسري، الذي في ترابطه مع نقيضه في
مفهوم واحد يؤول بأنه الخفي الذي عُرف، وقد يكون أيضًا صادمًا
لأن الذات تألفه أو تعرفه أو تفهمه، مما يشكل حالة نفسية أقرب
مفردة لترجمتها هي حس «الغرابة» التي تثير في النفس الريبة
والخوف ولكن بشكل غير طبيعي، أو أقرب ما يكون بإحساس خارق
للطبيعة.
لكن من خلال قراءات ديفيد بنتر، ناقد في فلسفة الرعب، في هذا
المفهوم كتجربة تصويرية في سينما الرعب، فإنه ليس فقط التعرف
على الذات في الآخر، إنما لها تصويرات عدة كــالريبة في مواضع
الحدود وتعديها، وتعدد وتداخل مفاهيم الذوات والتجارب.
حيث إنّ أحد أهم أحاسيس الغرابة المصورة هو حالة الديجافو وهو
الإحساس بأن ما يحدث قد حدث «سابقًا» لنفس الذات وقد جرّبتها
فكأن هنالك حالة نفسية دفينة نتيجة «ما حدث». وقد يتسرب حس
الغرابة أيضًا في تلك الخطوات الوحيدة تحت نفق في منتصف ليل
ماطر مُحدِثًا تلك الريبة بأن كائنًا ما يكون متخفيًا يترقب
ويتتبع. وقد تكون في خضوع الذات لعظمة مفهوم الأبدية والأزل
وصغرها في تاريخ الأكوان والبشرية، من خلال صدى ذلك الصوت
الكامن متحيرًا ما هي حقًا «البداية»؟ وما هي «النهاية»؟ وقد
تكون في ارتباط الذات بعدة كينونات من المشاهير أو الشخصيات
العالمية أو الوهمية فلا تعد تعرف من أين «تبدأ»، ومن أين
«تنتهي»، فتقتحم الحدود وتلتبس مبادئ الذات.
الغرابة هنا ليست في تصوير الذات وقرينتها بل بالبوح عن أسرارٍ
وقلق وشك وخوف كامن في اللاوعي متجسدًا في صور عدة من البشاعة
أو خرق الطبيعة، لكنّ الذات تعي تمامًا ذاك الحس الدفين بــ
«الألفة». فهي هنا لا تنتقص عنصر الرهبة بل تزيده حدة بأن
الذات تدرك أن ما «تراه» هو تجسيد لما حاول اللاوعي والأناة في
دفنه لكنه فشل فشلًا ذريعًا فنهضت تلك المخاوف في وحوش
ومتحولين وعناصر رعب تقارع لتبوح وتعلن «أنا هنا».
يتمثل أحد أهم تصوير حس «الغرابة» في سينما الرعب المعاصرة في
مشاهد وأحداث عدة في الأفلام المقتبسة من أعمال رائد أدب الرعب
المعاصر ستيفن كينج، كفيلم «الساطع» للمخرج ستانلي كوبريك
(1980) والأفلام المقتبسة من رواية «مقبرة الحيوانات الأليفة»
عام 1989 للمخرجة ماري لامبرت، وعام 2019 للمخرجين كيفن كولسش
ودينيس ويدمر. فكلا الفيلمين يصوران الغرابة في رمزية
الــدوبلقانقر «الشبه، شخص مشابه» أو عودة الدفين بشكل تدركه
الذات لكن تأبه أن تواجه أو «تراه» كما هو مشوه وبشع، مخيف
وصادم.
وكما في أفلام جوردان بيل، ولعل أكثرها وضوحًا فيلم «نحن» عام
2019، حيث يجسد عائلة «مرتبطة» بعائلة أخرى حلَت عليهم متعدية
الحدود المكانية والشخصية لتريهم تصويرًا صادما لما تخبيه
الأقنعة بأنهم هم ذوات العائلة التي لا ترتبط بحدود المنطق
والعقل والأخلاقيات فظهرت بشعة وعنيفة.
لكن كما ذكر بنتر هذه التصويرات قد تكون تجريدية كما في أفلام
هيتشكوك مثل فيلم «ريبيكا» عام 1940 المقتبس من الرواية
القوطية بنفس الاسم للروائية دافني دي مورير، الذي يجسد
«الغرابة» في شكل شبح، وفيلم «المريض النفسي - سايكو» عام 1960
في سايكولوجية نورمان بيتز، وارتباطه النفسي بجثمان أمه، وفيلم
«الطيور» عام 1963 في تصوير ما هو مألوف كالعصافير والحمام في
المدينة كوسائل مراقبة «واعية»، تشن هجمات منسقة على سكان
المدينة البشر.
فالغريب سينمائيًّا مرتبط بالعودة والبوح والكشف والانجلاء وما
ينتج من صدمات محاولة من الذات مقاومة إدراك مصدر تلك المخاوف
والأسرار ومواجهتها.
أما في الثقافة المحلية فقد يبرز مفهوم الغرابة والدوبلقانقر
في القرين وقصص الجن، أما في أنواعها المعاصرة والمتعددة فقد
تظهر في تصويرات عدة تجريدية كما ذكر. لكن على مستوى عام يصف
بنتر هذا المفهوم بأنه ما «يخبر» عن خبايا الثقافة والمجتمع
ويصف ما قد تشترك فيه مخاوفهم من أفكار وقلق وحركات قد أثرت في
شريحة أوسع من المجتمع.
فمثلاً في دراسة تصويرات الغرابة في إطار هذا المفهوم من خلال
أمثلة من أفلام رعب أمريكية نجد تصوير آثار التحول الرأسمالي
وثقافة «الالتهام» في أفلام عدة في أواخر القرن العشرين كفيلم
«مجزرة منشار تكساس» وغيره من أفلام «السلاشر» أو التقطيع
والدموية وما سبقه من أفلام الأشباح التي تسكن وتطارد شرائح من
المجتمع، وترمز للحالة الاجتماعية والسعي خلف المال والجشع في
أوائل القرن، وما قد آل إليه الحال من ظواهر التضخم والاحتكار
في آخره التي أدت إلى أفلام «آكلي البشر» والالتهام.
من هنا تظهر أهمية سينما الرعب وأنماطه والضرورة في الابتكار
والإبداع حيث تمكّن صوت للمجتمع ليكون تصويرات سائدة مشكّلة
دراسةَ رعبٍ محلية ينتج عنها معرفة ما، تبوح بها الثقافة وما
يخافه الفرد. |