علاقة مالك نجر وعبد العزيز المزيني ببناء المدن المتخيلة تسبق
بناءهم لـ «بذيخة» : المدينة التي يقوم عليها وبها فيلمهم «راس
براس»، والذي بُثَّ يوم الخميس في الثالث من أغسطس، ومنذ
انطلاقته، وهو يحتل المرتبة الأولى والأكثر مشاهدة في المملكة
العربية السعودية، وكذلك في الكويت وعمان والبحرين حسب تغريدة
للمزيني على تويتر.
ويعود هذا الوصول لتجارب الكاتب والمخرج السابقة في بناء المدن
وصناعة الشخصيات، فمنذ انطلاقتهم بشخصيات كرتونية في مسامير،
ومساحة الخلق مشرعة عندهما لا حدود لها، وهذه مزية الرسوم
الكرتونية عندما لا تضع حدًّا للخيال بما تلقاه من قبول لدى
المشاهد المتعطش لشخصيات كرتونية نعرفها وتشبهنا، فمن مسامير
اليوتيوبية تخلّقت محافظة «مسامير» التي كوّنت موسميْنِ
ناجحيْنِ مُستمدَّيْنِ نجاحَهما من أرشيف جيد، وجماهيرية
رائعة، وعودة ناجحة بعد تجربة فيلم في شباك التذاكر، والوصول
إلى نتيجة مفادها صلاحية ما يقدمونه في مسامير على منصة مشاهدة
بحجم «نتفليكس» التي تزاحم صالات السينما على اقتناص الجمهور
دون تقليل من حجم ما قُدِّم في فيلم مسامير، فحسبه فتح باب
الإنتاج، والوصول مبكرًا لصالات السينما، ودفع من بعده لخوض
التجربة.
«بذيخة» مدينة مختلفة، وأدوات الكاتب والمخرج تطورّت بكثرة
التجريب، فتجاربهم لم تقتصر على مسامير فحسب، بل على «يعرب»
ومدنه التي يرتحل إليها مثل مملكة قيدار، وإرم التي تُلهم
كثيرين عبر التاريخ، وإشاراتها العجائبية المذكورة في القرآن،
فهي «إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ
مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ »، وتكفي هذه الإشارة بعدم خلق
المثيل إلى فتح آفاق الخيال، واستلهام القُصّاص، في الزمن
السابق، والسينمائيين في عصر السينما. فالمحاولات المتكررة
لكشف الأسرار وما يلف المدينة من غموض محفزٌ لصنع المزيد، ولا
شك أن عصر الصورة، والمحاولات المماثلة لبناء مدن متخيلة، ولعب
دور شداد بن عاد في بنائه لـ«إرم» دافعٌ للسينمائيين القادرين
بأدواتهم على بناء المدن، فقواعد اللعبة اختلفت عبر الزمن، ولن
يحتاج المزيني ونجر إلى ثلاثمائة عام لبناء «بذيخة»! ما دام في
وسعهم بناؤها في زمن يسير مقارنة بإرم، وتظل الدهشة والأسرار
هي الفيصل في الخفاء والجلاء والمقارنة والصمود.
«بذيخة» المدينة التي تخلق شخصياتها؛ فلديها القابلية على
الحفاظ على فياض ودرويش وبو غدرة ولقمان وزاروب وغيرهم، حتى
إعادة ولد الديمن للحياة من جديد واردة جدًّا ما دام إطلاق
النار جاء دون رؤية وفاة قاطعة لولد الديمن، ولذلك الرهان على
الشخصيات لا يقل عن رهاننا على بذيخة حاضنة العمل، وملعب
الأحداث، ومضمار السباق.
كتب سلطان العامر في تغريدة له: «"بذيخة" بتصير هي جوثام
السعودية»، وقد أحسن التوصيف، فبناء مدينة متخيلة هي الوسيلة
الأكثر رحابة لتقديم ما تريد دون قيود وخشية من تشابه أو
تأويل، وربط «بذيخة» المتخيلة بما هو واقعي بإيراد «الرياض» في
الحوار، بحلم السير بمحفظة ممتلئة دون خوف من أن تتعرض لطعنة
من أحد، ومصادقة «فياض» على أن هذه حقيقة لا ريب فيها، فمثل
هذه الحوارات على لسان الأبطال/ الممثلين بلهجاتهم وحديثهم
الواقعي، مباشرة في الطرح، فلا خيال دون بناء على واقع، ولا
تحليق دون انطلاق من الأرض، وهذا ما يسوغ مثل هذا الفعل في
فيلم كوميدي يستمدُّ روحَه من أبطاله.
هذه القاعدة والأرضية الواقعية هي التي سمحت بتمرير كل ما يريد
الكاتب طرحه بذكاء من قبيل العنصرية، والصورة النمطية وغيرها
من قضايا، فحسب المشاهد بحوارات موظف الاستقبال الذي قام بدوره
«مالك نجر»، وأظهر مهارة مضافة لمجموع مهاراته -نمسك الخشب-،
فهو مبدع في الإخراج والكتابة والأداء الصوتي والأنيميشن، وحين
انتقل إلى مساحة جديدة بتصوير وكاميرا؛ لم يقلّ أداؤه؛ بل كسب
الجولة، وأرغم من شاهد الفيلم على شاشة منزلية ؛ أن يتمنى لو
كان هذا الفيلم في صالة سينما، فالصالة مكان الفيلم الحقيقي،
وصورة هذه المدينة المدعوّة «بذيخة» وما تحمله من غرائبية
ودمار بسبب «ولد الديمن»، وما تكتنفه من دهاليز لم تُرَ بعد؛
يجعلها محبوبة للمشاهد الذي يستمتع بسحر الصورة؛ فيظل مترقبًا
لما سيأتي بعد ذلك على غرار «جوثام» وما احتضنته من أفلام
وشخصيات على رأسها الرجل الوطواط «باتمان»، فالمدينة بكل ما
تحويه من دمار وجرائم، وما تلعبه الشخصية الشريرة من دور كبير
في إعلاء مستوى الترقب لبطل حقيقي في مواجهة البطل الشرير،
وضرورة حضور «باتمان» أو ما يوازيه من أبطال كما حدث في خلق
الفتاة الوطواط «بات جيرل» والأبطال الأربعة، وما رُسم في
«بذيخة» من أبطال أربعة هم: «فياض» و«درويش» ومساندتهما لاحقًا
بـ «الحصني بو غدرة» و«عبود خفاش» للخلاص من «ولد الديمن»
وعصابته، ودخول «لطيفة» بمفاجأة في شخصيتها، وربط الخيوط التي
يسعى المزيني لتوليفها، وتعقيد الحكاية في مواطن، وحلّها
بالاقتراب شيئًا فشيئًا من النهاية، وكشف العلاقات التي تربط
بين أبطال الفيلم، كل تلك العوامل جعلت الحكاية تتوالد لصنع
فيلم جديد، فلا حدود للخيال، ولا سقف للتوقعات، وتجارب مالك
نجر وعبد العزيز المزيني متصاعدة ومحلقة. وفي هذا الفيلم جرى
توظيف كل ما سبق في بناء عمل جديد ومغاير، بتسريب كل المهارات
من الجرافيكس والأنيميشن في ثنايا الفيلم، والسرد بأسلوبهم في
التأسيس لحكاية المدينة وشخصياتها، وإن كان في هذا العدد
بشخصياتنا العادية بتوظيف بطل الفيلم «فياض» مدير الصيانة الذي
اعتمد عليه الفيلم بشخصيته الكوميدية وخفة دمه دون أن يُطلق له
العنان؛ بل كان مقيدًا بأحداث الفيلم، ومظهرًا لإمكانياته في
مواطنها بمساعدة بقية المؤدين، وأميزهم أداء من وجهة نظري زياد
العمري في شخصية «الحصني بو غدرة» والزي الذي ساعده بالقبعة
اللطيفة، وعلبة الفنتولين للتنفس، وأما محمد القس الذي يمتلك
قدرات عالية بتجاربه الواسعة -نسبيًّا- فلم يكن بحجم المساحة
المتوقعة لممثل متمكن في أدواره، ومنها «موضوع عائلي» وشخصية
غازي التي لفتت الأنظار، وهذا ما يجعلنا نترقب عودة ولد الديمن
بصورة جديدة لتصعيد الشر، ومواصلة الرحلة في بذيخة، بالبناء
على ما سبق وصناعة شخصيات جديدة، وتوكيد البطولات بشخصيات
تشبهنا ونعرفها ولو كانت خيالية، فإن كان لديهم رجل وطواط،
فلدينا حصني وخفاش لديهما القدرة على الانطلاق والتحليق. |