يلمز بعضُ النُّقاد بخطو السينما السعودية واقتفائها أثرَ
الأسماء العالمية من المخرجين الكبار، واقتباس مشاهد من أفلام
معروفة، ويتوقف في الفيلم جاهدًا لتعداد وجوه التشابُه بين
الفيلم السعودي الذي يتناوله، والأفلام العالمية أو العربية
التي تناولت هذا الموضوع، أو الثيمة أو المشهد والصورة ؛
متناسيًا قول بيكاسو الصريح «ما الفن إلا سرقة»، فضلًا على أن
الفيلم لا يخلو من وضع مراجع له، ربما تصرح بها الأوراق التي
لم يطّلع عليها! فيا سيدي تلك المراجع التي تشير إليها، وكأنها
فتح عظيم، يذكرها المخرجون علانيةً كما جاء في حوار لمالك نجر
وعلي الكلثمي في لقاء «في كرسي المخرج»، ويقولها علي لمالك عن
شخصيته الجديدة «داغوس» في حلقة «لازورد» بصوت «نواف الشبيلي»،
وأجواء تارانتينو، ويصرّح بها مالك نجر دون مواربة بقوله
«كُنّا نقلد تارانتينو»، فهذا مصدر فخر لا استحياء، فارفقْ
بنفسك، وتلفَّتْ حولك في الأفلام التي تُقدّرها، ستجدها
نُسِلتْ من أخرى.
مالك نجر في مسامير قدّم الشخصية السعودية، وناقش كثيرًا من
القضايا المحلية الصِّرفة، فليس بحاجة إلى المزايدات التي
تدعوه للانطلاق من الداخل، فهو يعي ما يُقدّم، وليس من المعيب
الإفادة من التجارب السابقة، فكل الدعاوى التي قيلت بشأن
المتنبي في الشعر، وسرقاته الواضحة والجلية ممن سبقه من
الشعراء؛ لم تُقلِّلْ من شاعريته على الإطلاق، ولم تؤخّرْه ؛
بل جعلته أكثر الشعراء العرب تناولًا ودراسة حتى اليوم، ولم
تخدش مرآة «أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها.. وَيَسهَرُ
الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ» ؛ فهو مالئ الدنيا وشاغل الناس،
وحُقَّ له ذلك!، فالحقيقة التي لا مفر منها، أنه لا يمكن
البداية من الصفر، فالحياة بناء على بناء، والأسد مجموعة من
الخراف المهضومة، والسينما ليست إلا تجارب يُبنى بعضُها على
بعض، ومدارس تُكمّل كل واحدةٍ منها ما ابتدأتْه الأخرى، حتى
ولو كان الاستكمال نقضًا وبناءً، فهو نوع من مواصلة الطريق،
ولو بمسار جديد، فلولا خطوات من سبق، لم يُعرَف من لَحِقَ!
إن السينما صناعة، وهذا لا شك به، والعرب أدركت هذا المفهوم في
الشعر والنثر من عنوان أبي هلال العسكري لكتابه «الصناعتين»،
وقوله : «ليس لأحد من أصناف القائلين غنى عن تناول المعاني ممن
تقدمهم، والصب على قوالب من سبقهم»، وفي شعر المعلّقات ما
يؤكّد ذلك من قول زهير بن أبي سلمى:
مَا أرَانا نَقُولُ إلا رَجِيْعًا ومُعَادًا من قَولِنا
مَكْرُورَا
هذا ما يذكرنا بالدعوة الصريحة لـ«أوستين كليون» في كتابه «Steal
Like an Artist»
(اسرقْ مثل فنان)، الذي افتتحه بقول بيكاسو سابق الذكر، وأضاف
إليه قول توماس إليوت: «الشعراء الهواة يقلّدون، أما الناضجون
فيسرقون، والشعراء الناضجون، منهم الشاعر السيئ الذي يشوه ما
سرق، ومنهم الجيد الذي يُحوِّل ما سرقه لشيء أفضل، أو على
الأقل يحيله لشيء مختلف، فالشاعر الجيد يصنع من سرقته شعورًا
كاملًا وفريدًا ومختلِفًا تمامًا عمّا كان عليه سابقًا».
«كليون» في كتابه نظّر وأثبت أنَّ لا شيء أصلي على الإطلاق،
حتى أنت! فما أنت إلا نتاج أبوين! مستدلًّا على ذلك بعلم
الجينات، والوراثة، فالوليد نتيجة اجتماع أبوين؛ للخروج بمولود
جديد، وأن لا أصيل في الموضوع، فكل فكرة ما هي إلا دمج أو
تعديل لما سبقها من أفكار.
تلفّتْ حولك ترَ كل شيء على هذا النحو، وكل عملية تطوير مبنية
على سابق، فالسيارة بكل تقنياتها الحديثة، ما هي إلا سيل من
المحاولات المضافة لما دحرجه رجل الكهف؛ ليجر حيوان عربة
بعدها، ولتتطور شيئًا فشيئًا، حتى جاء المحرك ودخل في
المعادلة، وهكذا التقنية، وشيئًا، فشيئًا؛ حتى نعمتَ بما لديك
من رفاهية تعيشها بفضل مجموع السرقات السابقة لأفكار جرى
البناء عليها وتطويرها والخروج بمنتج جديد.
إن الدراسات والبحوث تثبت بعد التتبع دوران الحكايات حول عدد
محدود من الأحداث والوظائف التي لا يمكن الخروج عنها -ولو
حاولنا- وهذا ما أثبته الباحث الروسي فلادمير بروب في كتابه
«مورفولوجيا الحكاية الخرافية». حين تتبع قرابة المئة حكاية؛
ليخرج بعد عملية أشبه بالنظر لأجزاء النبات، ومعاملة الحكاية
بوصفها كائنا حيًّا يستحق الوصف، ومتخلّقًا مثل النبات بجذور
وساق وأوراق وزهر ونحو ذلك، ووجد بعدها أن الحكاية لم تخرج عن
31 وظيفة، بعد بحث واستقصاء، والأمر نفسه لو قام راصد بتتبُّع
الأفلام، فحتمًا سيجد النتائج عينها باختلاف الأجناس، فلا يأتي
متفذلك؛ ليقول إنَّ قصة الحب في الفيلم موضوع معاد، أو الخطف
في الفيلم جاء في أفلام كثيرة، أو ثيمة الحلم هي ذاتها عند
هتشكوك، فمن صنع يدرك ما يفعل، ويسير بوعي على خطى من سبقه؛
غير متناسٍ أن حجم خطواته مغاير، ولِكُلٍّ بصمته، ومهارته
تكمُن في الاختلاف لو ركّز مَن يتصيّد، فالكاتب جوزيف كامبل،
وهو الأقرب للسينمائيين قدَّم في كتابه «البطل بألف وجه» وجهة
نظر في المعادلة، وهو من استثمر أفلام الأكشن، وساهم في حرب
النجوم، وفي تقديم سيرته في «رحلة البطل»، ولو عدنا إلى قول
أوستن كليون بـ«لا أصيل في المعادلة»؛ سنجدها صادقة باستمرار
الحرب القائمة منذ الخلق، واستبدال ميدانها بآخر، وتطوير
أدواتها لا أكثر، فهو يقدم ما قدّمه، وهو يدرك ذلك، فهو من
يقول «أبطال الأزمنة القديمة دخلوا المتاهة قبلنا ودرسوها
بعناية، علينا فقط أن نتبع خيوطهم في مسار البطولة [...] حيثما
حسبنا أننا مسافرون للخارج، سنلج أعماق وجودنا ذاته»، فكل سفر
واقتباس وسرقة بفن؛ ما هو إلا تحقيق لعنصر جديد تقدمه، فبصمتك
ستظهر، واختلافك -إن كنت مختلفًا- سيكون عنصرًا جديدًا يدخل في
معادلة من بعدك، فثِقْ واسرقْ ولا تتردّدْ. |