فيلم (يد إلهية) أو (تدخل إلهي) - كما سُمي في الغرب - للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان، والذي لفت أنظار النقاد والجمهور وحاز علي جائزة الصحافة الدولية وجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان 2002، والذي يسبر الحياة الفلسطينية في ظل الاحتلال الاسرائيلي، يستحق أن نفرد له ما يشبه الملف، يحتوي علي الرأي النقدي من وجهة نظر غربية وحوارات أجريت مع المخرج الفلسطيني يتحدث فيها عن فيلمه.. ونبدأ هنا بمقالة كتبها جاري إنديانا، نشرت في المجلة الامريكية Film Comment، عدد يناير فبراير .2003 رجل يرتدي زي سنتا كلوز (بابا نويل)، فيما تنتأ من صدره سكين، يلاحقه زمرة من المراهقين، وهو يحاول صعود تلة. رجل بورجوازي، يبدو عليه الضجر والإرهاق، يسوق سيارته عبر طرقات الناصرة وهو يشتم ويلعن همساً فيما يلوّح للمارة مرحباً، فيما بعد ينهار صحياً في مطبخ بيته، الجيران يقذفون أكياس القمامة في بيوت بعضهم البعض، ويثقبون كرات القدم التي تضل طريقها وتقع في بيوتهم. امرأة مشعة، مفعمة بالنشاط والثقة بالنفس، تعبر بخطي واسعة حاجز التفتيش القائم علي الطريق بين القدس ورام الله، تصعق الجنود المتوترين، وعلي نحو غامض تتسبب في انهيار برج الحراسة. حبيبها (إيليا) يرمي، من غير قصد، نواة المشمش من نافذة سيارته فتفضي الي انفجار دبابة اسرائيلية. بعد عدة لقاءات في موقف السيارات قرب حاجز التفتيش، حيث يتماسكان بالايدي في صمت ويراقبان تحرش حراس الحدود الحمقي بسواق وركاب السيارات العابرة، إيليا والمرأة يتوقفان عن الاتصال بين مواعيدهما الصامتة، هو يزور والده في المستشفي وكما في الاماكن الأخري، الحوار غائب وينظم اللقطات للفيلم الذي نحن نشاهده، ملصقاً الملاحظات المفصلة علي حائط شقته في القدس. ما ذكرناه ليس سوي القليل من اللحظات المبعثرة، المؤثرة، في فيلم إيليا سليمان (يد إلهية)، هذا الفيلم الذي يقترب من الاتجاه الطليعي ومن سينما مايكل سنو أكثر من السينما السردية (القصصية)، وهذا الفيلم، الذي هو أقل تخطيطية من فيلمه السابق (سجل اختفاء) (1996)، هو يشبه سابقة في تركيزه البؤرة علي التأثير السلبي لحالة عدم الاستقرار السياسي علي النظام الاجتماعي والحياة الشخصية. كلا الفيلمين ينقلان واقعاً خانقاً من خلال مزيج من الأساليب - سليمان يستخدم اللقطة الساكنة - كما لو أنها خشبة مسرح عبثي/ هزلي - مثلما فعلت المخرجة البلجيكية شانتا أكرمان في فيلم (أنباء من الوطن)، حيث تعرض شخصيات في الموقع لكن قصصهم، في أغلب الأحوال، تظل مخفية عنا. إنهم يدخلون، يقومون بفعل جسماني ما، وفي مراحل نادرة يقولون شيئاً، ثم يغادرون. ان سليمان يقطع استمرار التأملات في الحياة الرتيبة باللقطات المصاحبة (Tracking) وبتدقيق خصوصي أكثر من شخصياته الرئيسية الثلاث، وهي الوحيدة التي تظهر في لقطات قريبة، والتي هوياتها وعلاقاتها ببعضها يستدل عليها من خلال لغة الإيماءات واللمحات. من الناحية الأسلوبية، الفيلم يتألف من (تمتمات) حسب تعبير المخرج حتي أنه، في لحظات معينة يحاكي علي سبيل السخرية تقنيات الإعلانات التلفزيونية وأفلام الكونج فو. العنصر الثابت هو الحالة النفسية أكثر من الاسلوب.. الحالة التي تتسم بالحزن والدعابة، مع تخيلات عن الثأر والفيلم يحتفظ بشحنة عاطفية شديدة، وتتفادي الميلودراما والوجدانية من خلال تشذيب الاحداث الأساسية، والتباس الصمت في الحيّز السردي. ربما لم يشاهد إيليا سليمان أفلام الألماني فرنر شروينز، لكن فيلميه حتي الآن يحملان تماثلاً مع أفلام شرويتر حيث القصص العديدة (أو الثيمات أو المجازات المركبة) تتخلق داخل وخارج المنظر وفقاً لمنطق موسيقي خاص. قد يظل المتفرج لفترة قصيرة داخل الفيلم لكنه لن يشعر بالتعاسة. في حالة شرويتر، الفخامة الأوبرالية ولا معقولية الصورة هي التي تجذب اهتمامنا، بينما في حالة سليمان فإن الموضوع سحر حقيقي حتي عندما نشاهد القليل جداً، فإن ذلك هو أكثر مما يعرفه أغلبنا عن المنطقة. النقاد كانوا سريعين في ملاحظة الشبه بين سيماء المخرج سليمان ووجه بستر كيتون الحزين (وكيتون ممثل كوميدي ونجم السينما الصامتة)، إضافة الي الاستخدام المدهش للمواقف الهزلية الصارخة، واللمسات الهزلية الأخري. ان مناقشة المضمون السياسي للفيلم كانت بوجه عام تفتقر الي الحماسة. مع ذلك، من الواضح ان هناك شيئاً متفجراً في حقيقة وجود فيلم (فني) يحمل وجهة نظر فلسطينية، الي حد أن بعض المهرجانات السينمائية التي عرضت فيلم سليمان شعرت بأن من الضروري دعوة فيلم إسرائيلي واحد علي الأقل، أياً كانت نوعيته وجودته، من أجل تحقيق (التوازن).
قال لي
المخرج إيليا سليمان بعد عرض فيلمه في مهرجان
نيويورك السينمائي: لقد وصل سليمان الي عملية تحقيق الافلام، كما يفعل الكثيرون، بدافع البحث العام عن وسط تعبيري، وبدافع الخيبة.. (قرأت عن الأفلام قبل أن أشاهد الكثير منها بدأت بقراءة أحاديث المخرجين عن أفلامهم، لم أكن أرغب في تعلم صنع الافلام بل في التعرف علي التجارب التي اكتسبها هؤلاء المخرجون من خلال أعمالهم عندما قرأت جودار، لم أكن أعرف شيئاً عن افلامه، كنت مفتوناً فحسب برؤيته السياسية تجاه البناء السردي. لقد قرأت كل هذه الكتب السينمائية لأنني في شبابي كنت مهمشاً جداً، ولم تكن لدي أي خلفية ثقافية، لكن كان لدي ذلك الحس البدهي، الحدسي، بشأن البني السردية الكلاسيكية والتي كنت لا أميل اليها، خصوصاً تلك التي تتصل بأفلام عن فلسطين وتتبع القصص الهوليوودية الحافلة بالافكار المتصورة سلفاً والشخصيات النمطية الايجابية، والتي تحاول (أنسنة) الفلسطينيين علي غرار فيلم كوستا جافراس (هنا.. ك). عندما كنت شاباً شاهدت مثل هذه الافلام لكنني لم أعرف كيف أتعامل معها. اثناء تصويري لفيلمي الأول، تعرفت علي أعمال جاك تاتي وبستر كيتون، لذا أستطيع أن أقول بأنني لم أتأثر أبداً بهؤلاء حين بدأت العمل في السينما، لم تكن لدي أي فكرة عن سبب حاجتي لأن أمثل أمام الكاميرا.. لكن هذا النوع من التعري يصبح أسلوباً. الليبراليون في حركة السلام الآن ليس لديهم أي منظور تاريخي، في لحظة حدوث أي هجوم فلسطيني، هم يتحولون الي اليمين ويصبحون تواقين الي الانتقام. وفي لحظة ارتكاب الجيش الاسرائيلي أعمالاً وحشية، نراهم يتحولون الي اليسار ويتظاهرون. إنهم لا يفعلون غير المحافظة علي الوضع الراهن). ان ممارسة سليمان للاخراج السينمائي (الذي هو فعل إيحائي، مجازي، شعري، هزلي) تتصل كثيراً برفض الشروط المسلم بها لأي مناظرة سياسية. )مؤخراً ذهبت الي رام الله ومررت بحاجز تفتيش انه لا يشبه علي الاطلاق الحاجز الذي صورته في الفيلم، بل هو أقرب الي الوحشية والفظاعة، طريقة البناء تجعل الحاجز أشبه بسجن أو معسكر كبير بأسيجة عالية وأنوار ساطعة جداً موجهة نحو الذين يعبرون. ان طرق التفتيش لا يمكن تخيلها ولكي تعبر بالسيارة من القدس الي رام الله تحتاج الي ثلاث ساعات تقريباً.. كم هو مأساوي ومرعب ومحبط هذا الوضع). الفيلم لا يدعي توثيق الواقع، انه يظهر فحسب ضغوطات الحياة اليومية في لا معقوليتها وعبثيتها الدراماتيكية، من خلال ردود فعل لا إرادية الي دعابات بصرية الي السلوك المبالغ فيه لحراس جاجز التفتيش، الي التصرفات اللاعقلانية لأفراد يعيشون تحت ضغط يصعب التعامل به. يقول سليمان: (الفيلم ليس بحثاً تاريخياً أو أنثروبولوجياً.. إنك لا تخرج بمعرفة جغرافية أو سياسية لذلك المكان بل بإحساس بالمحيط أو الجو). حريدة الأيام في 27 أبريل 2003 |
يد إلهية اللاعقلاني تحت وطأة الواقع بقلم: جاري إنديانا ترجمة: أمين صالح * |
* من مواليد البحرين عام 1949. يكتب القصة القصيرة والرواية والسيناريو. مترجم وناقد، ومهتم بالسينما بشكل خاص. كتب قصة وسيناريو أول فيلم روائي في البحرين (الحاجز). له العديد من الأعمال التلفزيونية في مجال الدراما والمنوعات. وله العديد من الدراسات والمقالات السينمائية. عضو أسرة الأدباء والكتاب في البحرين. عضو مسرح أوال–البحرين. وعضو نادي البحرين للسينما. ترجمت قصصه لبعض اللغات الأجنبية. مؤلفاته: هنا الوردة ..هنا نرقص ـ 1973. الفراشات قصص ـ دار الغد البحرين ـ 1977. أغنية ألف صاد الأولى ـ رواية ـ دار الفارابي ـ بيروت ـ 1982. الصيد الملكي ـ 1982. الطرائد ـ ق11 ـ دار الفارابي ـ بيروت ـ 1983. ندماء المرفأ، ندماء الريح ـ نصوص ـ البحرين ـ 1987. العناصر ـ نصوص ـ البحرين ـ 1989. الجواشن ـ نص ـ الاشتراك مع قاسم حداد ـ توبقال للنشر ـ المغرب ـ 1989. ترنمية الغرفة الكونية. مدائح ـ نصوص ـ الكلمة للنشر و التوزيع ـ البحرين ـ 1997. السينما التدميرية ـ (ترجمة) ـ دار الكنوز الأدبية ـ بيروت. هندسة أقل.. خرائط أقل (تأملات) ـ دار الأيام للنشر ـ البحرين 2003. موت طفيف (نصوص) ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 2003. الوجه والظل في التمثيل السينمائي (ترجمة وإعداد) ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت. |