بات من المتفق عليه ان افلام دورة مهرجان "كان" لهذا العام كانت، من ناحية الجودة، اضعف افلام عرضت في المهرجان نفسه، منذ ما لا يقل عن عقد ونصف عقد من الزمن. وهو امر تحدث عنه كثر ويشكل الآن واحداً من هموم مسؤولي المهرجان الذين باتوا يخشون انعكاس دورة هذا العام سوءاً على دورة العام المقبل، خصوصاً انه عرف منذ الآن ان الضعف ليس ناتجاً من الوهن العام الذي يصيب الإنتاج السينمائي في العالم اجمع، طالما ان مهرجان البندقية اعلن منذ الآن عن افلام يسيل لها اللعاب، بينها جديد برغمان وجديد ألتمان وجديد برتولوتشي وجديد كامييون وكوستوريتزا وأولمي بين آخرين. غير ان الحديث عن الضعف العام لأفلام دورة المهرجان الفرنسي العريق، يجب ألا يمنع الحديث عن ثورة في الشكل السينمائي، ميزت ثلاثة اساسية من افلام المهرجان وجعلت هذه الأفلام تبدو كأنها تعيد خلق الفن السينمائي، او تعيده الى طفولته وبراءته الأولى. وهذه الأفلام هي "الفيل" لغاس فان سانت و"دوغفيل" للارس فون تراير (راجع عنه مكاناً آخر في هذه الصفحة)، وأخيراً "حقائب تالس لابر" لبيتر غريناواي. ولئن كان "الفيل" أقنع لجنة التحكيم وأغراها بمنحه جائزتين اساسيتين (بينهما السعفة الذهبية)، فإن فيلمي فون تراير وغريناواي خرجا خاليي الوفاض، ربما لأسباب سياسية... ولكن ربما ايضاً لأسباب فنية، إذ ان، من البداية، كان معروفاً ان تركيبة لجنة التحكيم يصعب عليها استيعاب قدر مغال من التجديد في اللغة السينمائية. والحال ان التجديد في الأفلام الثلاثة لم يكن فعالياً، بل كان ثورياً وعلى اكثر من صعيد. وإذا كان كاتبنا التراثي العربي الجاحظ اعتاد ان يقول ان المعاني مرمية في الطريق، فإن هذه الأفلام الثلاثة تأتي لتؤكد هذه المقولة وتستطردها: لأن المعاني والمواضيع محصورة - ووصل ناقد انكليزي مرة الى الزعم بأن ليس للأدب سوى 63 موضوعاً ترسم وتكرر وكل مرة في شكل مختلف -، بات على الفن، لكي يستمر ويبرر وجوده في شكل دائم، ان يحدث ثورته في الأشكال... وهنا في اللغة السينمائية. ذلك اننا إذا اخذنا مواضيع هذه الأفلام، لن نجد جديداً... فحادثة اطلاق النار في كلية كولومباين، في "الفيل"، وفكرة الملاك المنتقم بعد معاناة، في "دوغفيل" والتاريخ العام من خلال التاريخ الشخصي في فيلم "حقائب تالس لابر" ليس فيها اي شيء جديد، طرقت مرات عدة من قبل، وعولجت رومنطيقياً وواقعياً وهيبرواقعياً، وتشويقياً وسياسياً وكل ما تشاؤون. اما الجديد فهو طريقة المعالجة التي اذ تعيد خلق الحدث من جديد، تعيد في طريقها ومن جديد خلق الفن الذي تستخدمه لتقديم موضوعها. وهو هنا فن السينما. والواقع ان ما نقوله هنا، ايضاً، لا يمكن ان يكون جديداً. الجديد في الأمر هو نسيان هذا، والاكتفاء بالبحث، عبر كل شكل ولغة عن صوابية المضمون، وتطابقه مع ما يعرفه، من يبحث، سلفاً، إذ يطلب من الفن ان يعيد له انتاج ما سبق ان أنتجه ألف مرة من قبل. ومن يبحث عن هذا، هو الذي يحس فوراً بأنه صُدم ما ان يكتشف - وهو يحاول ان يفهم - ان ما يراه "سبق" له ان رآه من قبل. وهو في هذه الحال يخلط بين فعلين، هما في حقيقة امرهما، متمايزان عن بعضهما بعضاً تماماً: الرؤية والفهم. وهنا نفتح هلالين لنتذكر حواراً قصيراً دار بين ناقدين حينما كانا يشاهدان معاً قبل سنوات فيلما تجريبياً لمخرج فلسطيني شاب. في غمرة عرض الفيلم التفت احدهما الى الآخر وسأله: قل لي بربك هل فهمت شيئاً؟ فأجابه الآخر على عجل: ليس بعد... انني الآن انظر وسأترك مسألة الفهم الى وقت لاحق. والحقيقة ان جملتي الحوار هاتين تقولان الفارق بين من ينظر الى الفن على انه مجرد وسيلة لقول شيء ما، وإيصال رسالة، ومن ينظر إليه على انه نشاط انساني عقلي وعاطفي وشعوري مهمته ان يخلق حياة توازي الحياة، وأن يضيف الى الحياة، منطلقاً منها، ما يجعل الحياة اكثر غنى وتألقاً وجديرة بأن تعاش. والسجال بين النظرتين ليس جديداً. لكنه هنا، بالنسبة الى الأفلام الثلاثة التي نتحدث عنها اصبح اكثر حدة، لأن اصحابها، إذ يعتبرون من كبار مبدعي الفن السابع في زمننا الراهن، يواصلون لعبة التجريب، المملوءة بالجمال ولكن بالمجازفة ايضاً. يخلقون مواضيعهم وهم يخلقون فناً يعيدونه الى طفولته مع ان عمره تجاوز المئة عام. فحينما يحرك غاس فان سانت كاميراه "مطارداً" شخصياته في لقطات رائعة لا تنتهي، ثم يجعل الشخصية تسلم الكاميرا الى الأخرى وهكذا حتى نهاية الفيلم، رابطاً هذا الشكل المدوخ، بموضوع الفيلم وعنوانه ("الفيل" في حكاية العميان الشهيرة)، يبدو كمن يستخدم الكاميرا والصورة، لاختراع فن جديد، السينما جوهره، لكنه يتجاوزها ومن بعيد في لعبة حركية تعيد هندسة الزمن، تحاصر الزمن، تفتته ثم تجمعه من جديد. وعندما يحوّل لارس فون تراير موضوعاً هو اقرب الى العادي، الى مبرر لتجريب سينمائي يعيد استخدام لغة المسرح ولغة الإيماء ممتزجة مع الصورة الفوتوغرافية وتراث السينما الأميركية (افلام الغانغستر وواقعية الثلاثينات الاجتماعية) وما الى ذلك، فإنه إنما يعيد خلق السينما من جديد رابطاً اياها بحكايات الجن والحلم الأميركي وميتافيزيقا الأخلاق... ولم لا نقول أكثر من هذا بكثير، على ضوء المشهد الأخير الذي قد يقربنا كثيراً من مفاهيم مسيحية معينة؟ إن السينما هنا، في لغتها وشكلها، اذ تبدو ضرورية كل الضرورة لموضوعها، تعود من جديد الى طفولتها... الى براءتها الأولى لكي تقول ما يتجاوز البراءة بكثير. إذا كان فان سانت هشم هندسة الزمن مشتغلاً عليه، فإن فون تراير يشتغل على المكان مهشماً إياه بدوره جاعلاً منه جوهر موضوعه. وفي مقابل هذين يشتغل غريناواي، في تجريبية مثيرة ومذهلة ايضاً، هو الآخر، على الزمان والمكان معاً، لكنه - انطلاقاً من كونه في الأصل فناناً تشكيلياً - يعمد كما كانت حاله في افلام سابقة له مثل "كتاب الوسادة" و"طفل ماكون" يعمد الى الاشتغال على الشاشة نفسها مشتغلاً على كل لقطة وكأنها لوحة تشكيلية تستوعب كولاج ما بعد الحداثة الذي لا يزال يعيش طفولته هو الآخر. فان سانت وفون تراير وغريناواي، لم يجابهوا بالمستوى نفسه من القبول والرضا. كان هناك من مدح هذا، وشتم ذاك، من صفق لهذا او صفّر لذاك... الى آخر ما هنالك. ولكن أليس هذا هو، في نهاية الأمر، مآل كل فن كبير... طالما ان كل فن كبير هو الفن الذي يحاول ان يعيد اختراع الفن من جديد؟ وألا يذكرنا هذا بستانلي كوبريك - وغيره من كبار الأساتذة - الذين كانوا اعتادوا، ان تصفر "الجماهير" وحتى "النخب" لأفلامهم اول ظهورها... ثم يخفت التصفير ليعلو التصفيق، وكل هذا في انتظار اللحظة التي تدخل فيها اعمالهم هذه سجل الخلود بصفتها من اعظم كلاسيكيات السينما؟ إذن، عطفاً على هذا، موعدنا بعد سنوات مع كل الذين فاتهم ان يدركوا، منذ الآن، اهمية "دوغفيل" و"حقائب تالس لاير" وربما ايضاً "الفيل"، من اولئك الذين اذ طفقوا دائماً يبحثون في الفن عن الرسائل المباشرة ناسين جواب الفرد هتشكوك الشهير: "اما الرسائل فإنني ارسلها بالبريد". حريدة الحياة في 6 يونيو 2003 |
فن السينما وطفولتها في المئوية الثانية ابراهيم العريس * |
* ناقد وصحافي لبناني ولد في العام 1946م في بيروت، ألف وترجم عدداً من الكتب الفنية والسياسية والإقتصادية. من مؤلفاته السينمائيية: (الصورة والواقع)، و(الكتابة في الزمن المتغير)، و(رحلة في السينما العربية). كما أصدر كتاباً عن (شابلن)، وآخر عن (هيتشكوك)... يشرف حالياً على ملحق "سينما وفضائيات" الأسبوعي، والذي تصدره جريدة الحياة اليومية. |