اختار “الاتحاد الدولي لنقاد السينما” الفيلم الألماني “صِدام” لكي يفوز بجائزته الخاصة في مهرجان برلين عنوة عن باقي الأفلام التي عرضت في المسابقة. وكانت لجنتان أخريان تابعتان لذات الاتحاد اختارتا فيلما من قسم “البانوراما” وآخر من قسم “الفورام” ومنحتهما جائزتيهما. لكن أهمية فوز “صدام” بجائزة الاتحاد عن أفضل فيلم داخل المسابقة أن هذه النخبة من النقاد الدوليين (الذي لي حظوة الانضمام اليهم) مؤشر لما قد تنتهي اليه لجنة التحكيم الرسمية التابعة للمهرجان نفسه وهي تجتمع لانتخاب الفيلم الفائز بالدب الذهبي ثم الفائز بالدب الفضي وبعده الفيلم الفائز بالدب البرونزي. “صِدام” يبدو آيلا الآن للفوز بواحدة من هذه الجوائز الرئيسية الثلاث وذلك مع اقتراب اليوم الأخير من أعمال المهرجان الألماني العتيد. ويبدو الانقسام واضحا في الآراء بين فريق كبير من الحاضرين. وفي استفتاء أجرته مجلة “سكرين انترناشنال” السينمائية بين تسعة نقاد اوروبيين حظي فيلم ثيو أنجيلوبولوس “السهوب المنتحبة” (اليونان) بأعلى قدر من الأصوات، يليه بتساوي النقاط الفيلمين “وحش” لباتي جنكنز (الولايات المتحدة) و”قبل الغروب” لرتشارد لينكلاتر (الولايات المتحدة). أقل فيلم حظوة في الأصوات هو الفيلم الامريكي الذي قام بإخراجه اللبناني عمر نعيم بعنوان “فاينل كت”، يليه الفيلم الألماني “أغاني ليلية” لرامولد كارماكر. كبار سناً ومقاماً الدورة الرابعة والخمسون كانت جيدة، لكن هل كانت مميزة؟ اذا ما استثنينا فيلم ثيو أنجيلوبولوس وفيلم “ساماريا” للكوري كيم كي دوك وفيلم “صدام” للتركي فاتح أكين (الذي تم تمويله بالكامل من قبل شركات ألمانية) فإن الدورة لم تكن مميزة علما بأن رئيس المهرجان دييتر كوسليك سعى جهده لإنجاحها، بالمقارنة مع المهرجانين المنافسين كان وفانيسيا، تقع الدورة على خط متساو مع فانيسيا في المقدمة، بينما تقبع دورة “كان” الماضية على بعد في الخلفية. وبين الأفلام التي نالت انقساما واضحا بين النقاد فيلم المخرج كن لوتش “قبلة اعجاب” وهو عن قصة حب بين باكستاني مسلم ومدرسة كاثوليكية عالجها المخرج البريطاني بأسلوبه شبه التسجيلي القائم على تذليل الدراما وسرد الحياة بأقل قدر من التفاعل فيها. مشاهد لوتش تصعد وتهبط حسب موضوعه. في أفلامه التي سبرت غور المجتمع البريطاني والحياة الأسرية حقق نجاحا فنيا كبيرا في قيمة ما يرصده. هنا، الموضوع يبدو أقل قدرة على صيانة مثل هذا الأسلوب ما ينتج عنه فتور. هذا بالتأكيد ليس أفضل أفلام كن لوتش على الإطلاق. وهذا ما يمكن قوله في فيلم مخضرم آخر انما من فرنسا: اريك رومير واحد من آخر المعمّرين في السينما الفرنسية وقدّم هنا فيلمه الجديد “العميل الثلاثي”، رغم عنوانه فإنه فيلم عاطفي في الأساس وجده كثيرون شبيها بالدراميات والمسلسلات التلفزيونية ومثل فيلم كن لوتش انقسم النقاد حوله تماما. اما فيلم ثيو أنجيلوبولوس “السهوب المنتحبة” فهو الأول في ثلاثية ينوي المخرج الإقدام عليها تباعا. هذا الفيلم ينطلق من العام 1919 الى العام ،1949 وسيليه فيلم ثانٍ من المجموعة ينطلق من العام 1950 الى السبعينات ثم ثالث من السبعينات الى اليوم. أنجيلوبولوس صاحب اسم كبير بني على أسلوب عمل متأن و-من الخارج- رتيب. الكاميرا تتابع هنا قصة فتاة وصبي كبرا فوق سهوب المنطقة الشمالية من اليونان وتزوّجا وأنجبا وذلك في الساعة الأولى منه. الساعتان الباقيتان تلجان بالبطلين وولديهما في إطار التقلبات السياسية والحروب الأهلية والفيضانات التي طمرت البلدة التي تعيش العائلة فيها. في كل ذلك تتأمل الكاميرا بحركة بالغة البطء حياة هذه العائلة ورد فعل الأحداث عليها (من هذه الأحداث صعود الفاشية وسجن اليساريين اليونانيين). انه بدوره ليس أفضل أفلام أنجيلوبولوس وتستطيع أن تعرف ذلك عندما تبدأ بالانتباه الى الأخطاء او الى التركيبة العامة للمشاهد فترتاب في جودتها. مثلا لماذا يتكلم الجميع كل بدوره. وحين يتكلم أحد يصغي اليه الآخرون مثل إصغائهم الى آلة عزف؟ لماذا اذا تحرك ممثل (وعادة لا يتحرك الا ممثل واحد في كل مشهد) يكتفي الآخرون بمراقبته؟ لماذا لا ينشغل بعضهم بأشياء أخرى؟ الجواب هو أن المخرج اليوناني يفضل العمل السينمائي المصمم مسرحيا. وهذه الثغرات التي تحاشاها أندريه تاركوفسكي الروسي وبيلا تار المجري يتخذها المخرج اليوناني كجزء من أسلوبه العام. انجيلوبولوس يطمح للجائزة الكبرى، وهو قد لا يحصل عليها. يعني إما أن يحقق نصرا كاسحا على كل الأساليب الأخرى والمتباينة التي عرضت هنا، او يعود مكسور الخاطر وربما ناقماً على اختياره برلين وهو الذي اعتاد اختيار “كان”. في اي من الأحوال، وجوده كان نصرا كبيرا لمهرجان برلين الذي حرص على تقديم المجموعة الشهيرة من المخرجين في الأيام الأخيرة منه. حياة خاطئة “صِدام” مختلف من حيث انه فيلم شبابي كاملا. المخرج التركي الذي يعيش ويعمل في برلين في الثانية والثلاثين من العمر. موضوعه شبابي وبطلته التي لم تمثل من قبل ولا خلفية فنية لديها، لكنها تجيد كما لو ولدت ممثلة، دون الثانية والعشرين من العمر. الفيلم نال جائزة اتحاد النقاد الدوليين ليس لأنه فيلم جيد الإخراج والمعالجة فقط، بل لأنه يختار الصراعات التي تحتدم في تقاليد وعادات وطرق حياة الجالية التركية فيما بينها. هذا جديد الى حد بعيد، اذ جرت العادة أن يظهر المخرجون الأتراك في أفلامهم صراع الجالية الثقافي والاجتماعي مع المحيط الألماني. بطل الفيلم رجل تركي يعيش عبثا (او كما يصف نفسه “ميت طوال حياته”) موزع بين الشرب والمخدرات وفي مطلع الفيلم يفقد السيطرة على سيارته فيصطدم بالجدار ويخرج مكسور الرقبة والساق. هذا لا يردعه ونراه يعود الى رذائله. تدخل حياته فتاة تركية لا تقل عنه عبثا، تطلب منه أن يتزّوجها حتى من قبل أن تعرفه وحين يسألها السبب تصارحه بأنها تريد مشروعية لمغامراتها العاطفية. يتزوّج منها مرغما ثم يقع في حبها وهو يراها تقضي لياليها بين المرابع الراقصة والعلاقات الخاطئة. حينما يستفزه رجل ينال صيتها بسوء (بعدما تمنعت عليه) يضربه بزجاجة خمر فيقتله. هو يدخل السجن وهي -هربا من عائلتها وأخيها الذي يريد قتلها- تهرب الى اسطنبول. بعد سنوات يخرج من السجن ويلحق بها. ونهاية الفيلم سعيدة اذ يدرك كل منهما أنه يحب الآخر وأن حياته بعيدا عن الأذى والخطيئة تكمن في كنف الآخر. بدوره ليس الأمثل تقنيا، لكن المثير هو انتعاش الفيلم بمعالجة حيوية وبقراءة جديدة لواقع الشباب التركي في المانيا (او بكل تأكيد جانبا منه على الأقل). في اوروبا المتماوجة حاليا بين ثقافات عدّة يأتي هذا الفيلم ليطرح الموضوع على ركائز مختلفة عن الأفلام الأخرى بما فيها الحس الاجتماعي الواقف ضد الحب الذي يربط بين الشاب الباكستاني والمدرسة الكاثوليكية في فيلم كن لوتش “قبلة إعجاب”. حفلة غنائية في نهاية المطاف فيلم واحد حمل متعة لا تعرف الشفاء والتراجيديات وأعباء الحياة وهو “البلوز”، الجزء السادس من سلسلة أفلام انتجها مارتن سكورسيزي وأخرج كل جزء مخرج معروف مثل الألماني فيم فندرز والامريكي كلينت ايستوود وهذا الجزء السادس أخرجه انطوان فوكوا “يوم التدريب”. “البلوز” هو نوع من أغاني السود انطلقت أساسا من الشقاء، لكنها حملت بين أوتارها الحنين الى الحزن. تلك الأغاني العاطفية الموشحة بآلام تجربة السود من ايام الرقيق الى أيام التفرقة العنصرية ومن جروح الحب الى جروح الحياة بأسرها لها شعبية كبيرة بين البيض في شتى أنحاء العالم. انها تخلق عبر ايقاعاتها المختلفة والمتوحدة معا شعورا من الحبور كما لو أن الواحد يقول “أنا سعيد لأنني حزين”. الفيلم الذي عرض خارج المسابقة كان أشبه بحضور حفلة قوامها نحو خمسين مغني بلوز وعازفاً بينهم بادي جاي ونتالي كول ولايزي لستر ود. جون وهربرت جونسون وسولومون بيورك وبالطبع بي بي كينج. ساعتان اضطررت الانسحاب قبل النهاية بربع ساعة لاجتماع انتخاب الفيلم الفائز بجائزة أفضل فيلم من قبل اتحاد النقاد، لكن بعض الأغاني لا تزال تتردد على لساني . وأنا أتابع اليومين الأخيرين من أعمال المهرجان. جريدة الخليج في 15 فبراير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
في مهرجان برلين السينمائي: إنقسام بين النقاد حول الأفلام التي تستحق الجوائز محمد رضا |