من لا يقرأ الأنجيل كثيرا، فهو قطعا سوف يشاهد السينما في عرضها لفيلم الآم المسيح وهي تجتزئ بالتفصيل تركيزها الفني على أكثر المواجع ايلاما في الساعات الأخيرة التي عاشها سيدنا المسيح. وللواقع فتلك المشاهد التي يركز عليها جبسون ويبرزها باستخدامه آخر ما وصلت اليه السينما من تقنيات مهنية وحرفية تثير السؤال الأكثر تعقيدا في على علاقة اليهود بالمسيحيين. لقد حاول المجمع الكنسي الأعلى للفاتيكان في دروته الثانية ما بين عامي 1962 - 1965 تلافي خطورة الصدام باعلانه تبرئة اليهود من دم المسيح، واضعا بذلك فاصلة كنسية أمام كثير من الافكار والممارسات المسيحية التي تزعج الوجود اليهودي في عموم الغرب المسيحي. لكن جبسون الذي يشاع عنه وحوله عدم تقديره لتبرئة اليهود من جانب الاجماع الكنسي في الفاتيكان، فهو بسبب كونه محافظا متزمتا يطعن في اجماع على هكذا نحو، وهو بسبب كونه مخرجا فهو يستخدم السينما بابراز واعادة صياغة مسألة قتل المسيح من باب التشفي بالضرب على أكثر الأوتار حساسية في العاطفة المسيحية حيال علاقة هذه العاطفة باليهود الذين بقوا في خانة الاتهام بقتلهم المسيح عيسى بن مريم على مدى الفي عام. ولبعض من ذلك كله فاليهود يدجنون رأيا آخر في الميديا الغربية من خلال استخدام ادوات المرافعة النقدية للتاريخ وعلم الدين أيضا وهم فعلا ربما يتجاوزون الموقف بايجاد مخرج من ازمة الطرح المسيحي لاعادة تداعيات القصة؟ المثقف اليهودي مثلا يرفض الحديث عن الصلب في اطاره الديني، فهو مثلا يرى باعتماده على مصادر التشريع الروماني بان الدولة الرومانية كانت تستخدم الصلب عقوبة ضد سياسيين ومتمردين وخارجين عن ارادة الدولة، والرومان بابقائهم على الضحايا معلقين فوق الصليب، انما يمارسون طقسا اعلانيا جرت عليه ثقافة العقوبات بمنطق سياسة الدولة الرومانية لحث الناس على الاتعاظ بمن هو يبقى معلقا فوق الصليب جزاءا له على خروجه ضد ارادة الدولة. ومن هنا فهم يقدمون طرحا سياسيا آخر لحكاية يعتبرها المسيحيون من بين أساسيات العقيدة المسيحية ممثله في حكاية الصلب لخلاص العالم. وحتى قصة الرجلين الذين بقيا معلقين عن يمين وشمال المسيح اذ هو مصلوب في نصوص انجيلية، يطعن اليهود وبعض النقاد المسيحيين أيضا الى جابنهم في كون الرجلان لصين وقد جرى صلبهما لاعتبارات جزائية ينص عليها قانون العقوبات في الدولة الرومانية. انهم يقدمون طرحا مختلفا للغايه، فهم يعتبرون الرجلين انما صلبا الا من اجل خروجهما ضد الدولة الرمانية، وقد رأى بيلاطس البنطي الذي هو شرير جدا ومتجهم دوما بموجب روايات ومصادر من خارج الذاكرة الانجيلية أن صلبهما وقتئذ يأتي تنفيذا لتوجيه العقوبة في حقيهما بموجب ما هو منصوص عليه في دستور الدولة الرومانية، والا فلو كان الرجلان لصين فعلا لسرت عليهما بعيدا عن الصليب عقوبة أخرى. ومن هنا فهم يرون بتداعيات المنطق نفسه أن المسيح انما صلب لأسباب سياسية تتصل بتحريضه العامة للخروج ضد ارادة الدولة.. وهكذا فاليهود بحسب طرح على هكذا نحو أبرياء من دم المسيح في الماضي، ويفترض ان يكونوا بموجب الاجماع الكنسي للفاتيكان في دورته الثانية أبرياء أيضا في الحاضر، وعلى هذا الأساس يفترض أن يعيشوا مستقبلهم أيضا ابرياء من عقدة الاضطهاد المسيحي ومن عقدة وراثة الاثم الجماعي الذي يحاول مسيحيون تأكيدها عليهم لكي تبقى في جبينهم وصمة عار. ولكن هناك أيضا مصدر آخر لا يبرأ اليهود من قتل الأنبياء بغير حق، وانما هو ينفي عنهم فيما يتصل بالقصة قتل سيدنا المسيح، وهذا المصدر هو القرآن الكريم بتبيان اضافي الى ما سوف يطال العالم من وراء هذه القصة، فالقرآن الكريم مثلا يذكر ان اليهود لم يقتلوا المسيح عيسى ابن مريم الذين أعتقدوا بموجب القصص القرآني أنهم قتلوه فعلا. وهكذا يطل الخلاف بمواكبة الشكوك والتراشق بالاتهامات على العالم مرة أخرى. وهذا هو الشيئ الوارد ذكره في القرآن في سورة النساء اذ يخبرنا الله أن اليهود لم يقتلوا المسيح ولم يصلبوه وان الذين أختلفوا فيه لفي شك منه، وهكذا اذ نحن نلمس احد صيغ هذه الشكوك ونحن نبتعد عن الوحي القرآني بحوالي اربعة عشر قرنا أنه ما من يقين لدى اليهود بقصة قتلهم المسيح اذ كانوا يقولون ذلك فعلا منذ موت المسيح، وكذلك المسيحيون أيضا ما من يقين لديهم بصحة ادعاء اليهود بقتلهم المسيح، ولا يقين يكون أيضا باتهام المسيحيين لليهود وان أنكر الآخرون في سياسة العولمة ما يقرون به بين أنفسهم لتفادي الاضطهاد. ومع ذلك تكرس السينما قصة مضى عليها عشرين قرنا في محاولة فنية جريئة لاعادة السؤال مرة تلو أخرى الى الواجهة، فلعل السؤال بارتياب يأخذهم جميعا الى نفس الخلاف الذي كان سائدا منذ آخر يوم في حياة المسيح على الأرض أو أنه يأخذهم الى طريق جديد يتعلمون منه الحكمة. موقع "إيلاف" في 17 فبراير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
السينما تعيد قتل المسيح إلى الواجهة مرة أخرى!! عبد الله الحكيم * (2) |
* كاتب صحافي سعودي __________________ صور أخرى من الفيلم
مقالات ذات صلة: السؤال الأكثر جدلاً منذ سلطة الرومان إلى عهد الأمريكان؟؟ "آلام المسيح" يثير (هولوكوستا) فنياً باقتباسات من الإنجيل
|