ثمة اتجاه سياسي عميق الجذور، يتعاظم ويتسع الآن علي ساحة السينما العالمية، اتجاه يتعرض بكل جدية، للقضايا المعاصرة الإنسان.. صراع الحضارات، وخاصة بين العالم الإسلامي والحضارة الغربية، والتفرقة العنصرية بين البيض والسود، والتصفيات العرقية التي ترتكب جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، والوقوف في ظل هيمة الأغنياء لكي يزدادوا غني، وبؤس الفقراء ليطحنهم الفقر.. وفي أول مهرجانات هذا العام، مهرجان برلين السينمائي الدولي «5 ـ 15 فبراير» في دورته الرابعة والخمسين وجدتني رهين هذا الاتجاه السياسي الذي أحدثك عنه.. وتابعت بشغف، فيلم المخرج الإنجليزي كين لوش «قبلة متعطشة» الذي يتناول موقف المجتمع الإنجليزي من الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين، وفيلم المخرج الألماني التركي الأصل فاتح أكين «المضي إلي الأمام» الذي تجري أحداثه أيضاً بين الجيل الثاني من مهاجري المسلمين الأتراك بين ألمانيا وتركيا.. ولم أفاجأ بحصوله علي الجائزة الذهبية «الدب الذهبي» كأحسن فيلم، ثم فيلم المخرج الكبير جون بورمان «وطني فروة رأس» الذي يحلل نفسية مثقف أسود من جنوب أفريقيا، بعد عشر سنوات من الانحسار لتفرقة البيض العنصرية، واعترافه بالحب لفتاة من مجتمع البيض.. وأخيراً ذلك الحديث المثير بيني وبين المخرج البوسني الشهير أميركو ستاريكا وفيلمه الذي يصوره الآن «الحياة معجزة» الذي تتركز أحداثه علي قصة حب بين فتاة بوسنية مسلمة وشاب صربي من المحاربين.. ولأن السينما، أشمل وأكبر من كل ما يسمونه «حوار الحضارات» ولأن عالمنا الإسلامي يحاول الدفاع عن سماحته ونبله أمام هجمات شرسة، اخترت أن أبدأ لعرض تحليلي ناقد لفيلمي كين لوش وفاتح أكين. أهمية المغزي السياسي لفيلم المخرج الإنجليزي الشهير كين لوش «قبلة متعطشة» هو أنه يتعامل بحميمية شديدة مع المجتمع المسلم في بريطانيا، ويتعرض في جرأة، لجوانب انغلاق متطرف في جانبي المجتمعين، المسلم من الجيل الأول من المهاجرين، والمجتمع الكاثوليكي الأكثر تعصباً في بريطانيا. الفيلم يبدأ، بقاعة في مدرسة ثانوية، في مدينة جلاسجو، حيث تقف فتاة شابة من الجيل الباكستاني المسلم من المهاجرين، تتحدث في حماس عن حقوقها في هذا المجتمع الذي ولدت وتربت بين جنباته، ويفاجئها بعض زملائها الأصغر سناً باختطاف حقيبتها، والجري في أروقة المدرسة وتطاردهما هي وأخوها الذي يكبرها سناً واسمه قاسم وقد جاء ليصطحبها بسيارته إلي البيت، وتنتهي المطاردة في قاعة درس الموسيقي، وتدخل حاسم من مدرسة الموسيقي الجميلة الشقراء رواسين، حيث تعيد إلي الفتاة حقيبتها، ويبدأ أخوها قاسم حواراً مع رواسين عما تدرسه لطلبتها، فقد كان هو أيضاً يمارس مهنة موسيقية في أحد نوادي جلاسجو الليلية ويحلم بأن يمتلك نادياً للموسيقي والرقص، ويعرض عليها أن يوصلها بسيارته إلي بيتها علي أطراف المدينة، وينصرف وكلاهما يدرك أن تعاطفاً متبادلاً ينمو في نفسيهما. وتقود الصدفة قاسم إلي بيت رواسين مرة أخري، عندما شارك في توصيل آلة بيانو قد اشترتها لتدريب تلاميذها في مدرسة الكنيسة الكاثوليكية التي تتولي التدريس فيها، وتزداد كمية التعاطف والتقارب، بين الفتي الباكستاني المسلم وبين الفتاة الكاثوليكية. ومع قاسم ينقلنا كين لوش مباشرة إلي بيت الأسرة، التي هاجرت من الهند إلي جلاسجو بعد الانقسام الذي حدث في الهند وقيام دولة باكستان ورحيل مسلمي الهند إليها في أواخر الأربعينيات بعد الجلاء البريطاني عن القارة الهندية.. كان الأب طارق قد جاء ببعض مهندسي البناء، ووقف يشرح كيف يتم بناء جناح منفصل في حديقة البيت لكي يكون عش الزوجية لابنه البكر قاسم الذي يخطط الأب مع أمه سيدة لزفافه إلي بنت العم الجميلة ياسمين التي ستصل قريباً من باكستان، وفي نفس الوقت كانت أخت قاسم الكبري، تستقبل مع الأسرة شاباً باكستانياً، ينتمي إلي نفس المجتمع في جلاسجو تخصص في الإلكترونيات، جاء يخطب الابنة، ولا يغفل الفيلم شيئاً من التقاليد والأعراف المتبعة في طلب أسرة الشاب ليد الابنة. ويقترب قاسم بسيارته من بيت رواسين، وتصل أذنيه نغمات البيانو، ويجد نفسه يصعد ليدق بابها، وتستقبله بابتسامة واسعة، وتبدأ قصة الحب بينهما تنسج خيوطها، ويرتبطان أكثر، ويرتادان النادي الذي يعمل فيه قاسم ويرقصان معاً، ويتكرر اللقاء ويتكرر ظهور رواسين في سيارة قاسم وهي تجلس بجواره ويعود بها إلي بيتها لأول مرة، وتجمعهما «قبلة متعطشة» ملهوفة تقودها بالضرورة إلي لقاء جنسي ملهوف، ويتغيب قاسم عن بيت الأسرة فقد أصبح يقضي لياليه في أحضان رواسين، وعندما يعود إلي البيت، يجد بناء الجناح الذي سيزف فيه إلي ياسمين يجري علي قدم وساق.. وتفاجئه رواسين بأنها قد خططت لقضائهما عطلة نهاية الأسبوع في إحدي الجزر الإسبانية، ويسافران معاً بعد أن أخبر أمه أنه سيذهب في رحلة لعدة أيام.. ويزداد الحب اشتعالاً، وتزداد اللقاءات حرارة علي الشاطئ الإسباني. لكنه يضطر إلي التوقف لكي يفكر فيما يمكن أن تنتهي إليه هذه العلاقة! يخطط قاسم للتباعد عند العودة ويضطر إلي مصارحة رواسين بأنه «مخطوب» لابنة عمه الشابة ياسمين التي توشك أن تصل من الوطن لتزف إليه.. وتثور غاضبة، وتطرده، لكنها تكتشف أنها لا تستطيع الاستغناء عنه، وتكبر الأزمة.. جاءت العروس ياسمين، واكفهر جو الأسرة، فقد بدا قاسم عازفاً عن إتمام الزواج، وتزداد حدة الأزمة عندما تكتشف الأسرة أنه غارق في علاقته مع مدرسة الموسيقي، ترفض ياسمين أن تتزوجه وتقسو في حديثها إليه، وتتأثر خطبة أخته وتشعر هي الأخري بالخطر، بينما الأخت الصغري تعارض رغبة الأب في أن تدرس الطب في جامعة جلاسجو وتريد الالتحاق بإكسفورد لدراسة الآداب. وعلي الجانب الآخر تتعرض رواسين أيضاً لغضب الأب راعي الكنيسة، يواجهها في عنف منكراً عليها أن تقيم مثل هذه العلاقة، ويهددها كامرأة انفصلت عن زوجها بفصلها من المدرسة ما لم تعد إلي حظيرة الكاثوليكية وتعيش حياة طاهرة ويتربي أولادها تحت ظل الكنيسة، وتزداد أزمتها عمقاً عندما تصطحبها أخت قاسم إلي مقربة من البيت وتطلب منها أن تراقب أحوال الأسرة التي توشك أن تنهار بسببها.. وفي ثورة حب يعلن قاسم أنه لن يتزوج ياسمين، ويثور الأب طارق، ويتناول معولاً ضخماً يروح يحطم به البيت الصغير الذي بني في حديقة بيت الأسرة، وتحاول الأم تهدئته، بينما ينطلق قاسم في رحلة بحث في أحياء المدينة عن رواسين التي كانت قد عادت إلي المدرسة لكي يطلب منها مديرها أن تستعد للذهاب في نهاية الأسبوع بلا عودة بعد أن اضطر لقبول قرار الكنيسة بفصلها. ويجد قاسم رواسين.. الدموع في عينيها.. فيسألها في رقة: هل تقبلينني زوجاً؟! هل ترعينني في السراء والضراء وحتي الموت.. وتهز رأسها وهي تلقي نفسها في أحضانه. *** واضح أن كين لوش، عالج مشاكل، هذين العالمين المتناقضين في المجتمع الإنجليزي، الإسلام والمسيحية بفكر متفتح، وعالج باتساع ما يتعرض له مجتمع المهاجرين المسلمين في بريطانيا، وتوقف بحميمية متناهية أمام الجيل الثاني الذي ولد وتربي في بريطانيا، وما يعانيه هذا الجيل، من التطرف في أفكار الجيل الأول، وقدامي الأجيال بين المجتمع الإنجليزي. ولكي يقترب كين لوش، من فرض رؤيته، اختار وجهاً باكستانياً لم يسبق له الوقوف أمام الكاميرا من قبل اسمه عطا يعقوب، لتمثيل دور قاسم، الابن المثالي الذي يحطم كل القيود والمتوارثات الثقافية من أجل الحب، كان عطا قد عمل موديلاً في بعض الأحيان، وتخرج مؤخراً كخبير إعلامي.. وقد فاجأنا لوش، في ليلة العرض بتقديم عطا يعقوب وهو يرتدي الزي الاسكتلندي الشهير وقدمه علي أنه باكستاني مسلم من جلاسجو. أما بطلة لوش أيضاً بيرثتستل فقد قدمت عرضاً كامرأة اسكتلندية تستولي علي قلب شاب مسلم، وجعلته رواسين تدب فيه الحياة. في تصوري أن فيلم كين لوش، بواقعيته وجرأته أقوي من كل حوار حضاري يمكن أن يأخذ مكانه. *** وأتوقف طويلاً أمام فيلم «المضي إلي الأمام» للمخرج الألماني التركي الأصل فاتح أكين الذي فاز بجائزة الدب الذهبي كأحسن فيلم في دورة المهرجان.. هل يكفيه أنه أعطي السينما الألمانية بعد غياب طويل الجائزة الكبري في مهرجان برلين.. إلا أن أهميته تجيء من أنه استعراض واقعي متفتح لمجتمع الأتراك المسلم الذي هاجر واستقر في ألمانيا، بجيليه، الأول الذي مازالت تحكمه تقاليده وعاداته وتصرفاته التي جاء بها معه من تركيا، والجيل الثاني الذي ولد وتربي في ألمانيا، وبدأ يتمرد علي تقاليد الآباء وعاداتهم رغم حياة البؤس واليأس التي تفرض عليه فرضاً في وطنه الجديد. يبدأ فاتح أكين فيلمه في مستشفي، وبطله كاحيت البالغ من العمر 40 عاماً، علي فراش المرض ينصت لطبيب نفسي يقول له: «تستطيع أن تنهي حياتك دون أن تقتل نفسك».. لقد جاءت به محاولته للانتحار إلي المستشفي، وهو يدرك تماماً مغزي قول الطبيب. إنه يمكنه أن يبدأ حياة جديدة، حتي رغم أنه يعاني ـ آلاماً هائلة، من صراخ جسده جوعاً للحبوب المخدرة والكحول.. وسايبل، الفتاة الشابة الجميلة، الألمانية التركية الأصل مثل كاحيت، تحب الحياة بعمق أكثر مما يفترض في فتاة مسلمة عادية، ولكي تهرب من سجن الأسرة المتزمتة وقيودها المحكمة تحاول الانتحار أيضاً.. لكن المحاولة تجلب لها العار لا الحرية.. ولا يمكن أن ينقذها إلا الزواج، ولهذا تترجي كاحيت أن يتزوجها، ويوافق بعد لأي، ربما لكي ينقذها، وربما لرغبته في أن يصنع شيئاً ذا معني في حياته لأول مرة.. وينتقلان إلي شقة يعيشان فيها معاً ولا شيء أكثر.. إن سايبل تنطلق شرهة إلي ممارسة حريتها، بينما كاحيت يكتفي في كثير من الأحيان بلقاء فتيات صديقات له، وإلي أن يدخل الحب حياته علي أطراف الأصابع، ويدرك أنه قد غرق في حب سايبل ليجد متعاً جديدة في الحياة ويجد القوة علي المضي فيها. وتظل سايبل تلتقي برجال آخرين، إلي أن تدرك هي الأخري أنها تحب كاحيت، لكن بعد فوات الأوان.. لقد تفجرت في قلبه غيرة عاصفة، جعلته يقتل واحداً من الرجال الذين ترافقهم سايبل، ويرسل به إلي السجن بينما تفر هي إلي إستانبول في وطنها الأول تركيا.. وقلبها وعقلها وروحها، كلها مع كاحيت.. لكن إلي متي؟! وقد قال لي فاتح أكين إنه كان يعاشر بالفعل فتاة جميلة فاتنة الجسد مثل بطلته سايبل، وعرضت عليه أن يتزوجها، زواجاً صورياً حتي يمكنها أن تتحرر كألمانية تركية من القيود، لكنه رفض فهو لا يؤمن بمثل هذا اللون من الارتباط، لكن كانت هذه العلاقة هي الأصل في الدراما الفيلمية التي أثارت الانتباه إلي ما يجري في المجتمع التركي المسلم ممن هاجروا وعاشوا في ألمانيا. والحق أن أكين، قد صور هذا المجتمع المسلم والضياع والبؤس الذي يتعرض له، والقيود التي يتعرض لها سواء من تقاليد الآباء، أو من ريبة الوطن الجديد الذي ولدوا فيه بواقعية وصدق أهلت فيلمه إلي أن يفوز بالجائزة الكبري.. الدب الذهبي.. منذ أيام. جريدة القاهرة في 24 فبراير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
عن السياسة والدين في برلين: قصة حب بين شاب مسلم وفتاة إنجليزية تثير غضب الكنسية عبد النور خليل |
|