مرّت خمس سنوات على رحيل المعلم الأكبر... وكان ولد عام 1910، متأففاً وغاضباً وذاهلاً - كما يروي لاحقاً - ومنذ فيلمه "راشومون" عام 1951 الذي اطلق السينما اليابانية في فضاءات العالم، دأب اكيرا كوروساوا على الاحتفاظ بأسرار كتاباته وأفلامه على الطريقة اليابانية، الملغّزة، والعصية على الفهم. في كتابته عن حياته، لم يرد ان يكتب سيرة ذاتية كاملة، فكتب "ما يشبه السيرة الذاتية"، وظلت كتابته غير مكتملة ومكتملة في آن، وهي ظلت غير مكتملة وناقصة لأنها تقف في السرد عند الطريق الى "راشومون". اي تقف عند الفيلم الذي جلب الشهرة لكوروساوا، فمن قبله لم تكن السينما اليابانية معروفة في الخارج، على رغم وجود مخرجين كبار من امثال ياماسان وميزوغوتشي وتانيغوتشي، لكن شاءت الأقدار العاصفة، كما في افلام كوروساوا نفسه، ان يكون تلميذ هؤلاء الكبار حاملاً مجد السينما اليابانية في مختلف الأصقاع. وقصة "الامبراطور" كما وردت في "عرق الضفدع" الشحيح في بذله، كما يخيل إلينا للوهلة الأولى، تظل كما وردت في الوصفة. تحتفظ بأسراره دونما عناء في الإشارة او التوصيف، لكنها لا تبذل ما هو مخفي ومحجوب إلا بجهود مضنية، كيما نعرف سبباً واحداً لوقوف كوروساوا امام بوابة راشومون، فما من شك في ان اختياره بوابة هييان القديمة ليطل منها على العالم بتناقضاته المذهلة سيظل عصياً وغامضاً، ذلك ان الأفلام اللاحقة، أنارت بدورانها كل كهف ناقص، مع ان لغز البوابة القديمة يظل هو من يخطف لب المؤلف الكبير، ففي اعتقاده ان حبل الكذب لن ينقطع يوماً، حتى وإن احتفظ الإنسان لنفسه بحق جلاء الفضاء، فإنه سيظل ينكّش بين ساقيه مثل "كلب سلوقي"، بحثاً عن القماءة الممتعة التي تشبه الحروب والأوبئة والرعب النووي والمجاعات... الخ. سليل الساموراي كوروساوا لا يجيء على ذكر الرعب إلا في عقده الأخير، ذلك ان سلسل اسرة الساموراي العريقة لم يصل الى تلك النقطة السوداء التي ألهمته الألغاز إلا في خاتمة العمر، فتطل في "احلام" وفي "رابسوديا في آب"، على شاكلة كابوس منظم، ذلك ان سليل هذه "القدرات الجارحة" لا يكشف في تعرّق ضفدعه من الأسرار شيئاً، بل يتركها على الملأ تعبر بوابة هييان من دون ذكر القنبلة الذرية، في الوقت الذي يفصّص فيه زلزال طوكيو المدمر عام 1923، لا بل انه يذكر تفاصيله، ويجيء على ذكر فقه الظلام الذي ولّدته الكارثة، فألهمت كل تلك الوحوش القابعة في نفوس اليابانيين (القومجيين)، فقاموا بتنظيم مذابح بحق مئات آلاف الكوريين، حتى كاد يقضي كوروساوا وأبوه في تلك المجازر، لولا تلك الألغاز التي لا يعرفها إلا اليابانيون انفسهم، فما يكتبه (الوحوش) على الجدران مقروء "من قبلهما...!! في "عرق الضفدع" ليست ثمة اشارة واحدة الى هيروشيما وناغازاكي، ففي سيرته الذاتية (الناقصة) تفاصيل مثيرة، لكن كوروساوا لا يوضح لنا كيف يستولد هذه الإثارة ومن اين؟ فهي مفتوحة على بوابة هييان، وعلى تضرعات السوما، ليس بصفتها تدفقاً لقضايا شخصية، ذلك ان الإشارات المغلقة التي يبثها هذا المخرج الكبير من حوله اصبحت مشهورة في العالم كله بفضل قطعة ديكور واحدة اسمها راجومون - ومنها اشتق راشومون. وفي "عرق الضفدع" - سيرة كوروساوا الناقصة - يتجمد الرعب النووي على حافة العالم مثل قطة يابسة، في فناء البوابة الضخمة، او مثل كلب مسعور مدمن على الكحول، او مثل فضيحة في جريدة محلية، لكن ما هو مؤكد ان إحدى الأحلام الثمانية، وتلك الرابسوديا الجنائزية، كانت دفقاً لهذا الرعب وضفدعاً كونياً موضوعاً على حواف كرة ارضية مربعة وفيها مرايا عملاقة لإخافته وبذل عرق من جسده لا تجود به الأوقات دائماً، فهو اصبح سليلاً لليورانيوم المهذب... حتى ان الرقيب الأميركي الذي يجيء كوروساوا على ذكره لحظة الاحتلال الأميركي لليابان يظل رشيقاً في تعامله مع... السينمائيين اليابانيين، فقد شعّت "ملامح الديموقراطية" في إطار الإدارة العسكرية للجنرال ماكآرثر، وولدت السينما من جديد... "احلام ضفدع" لا تشبه احلام البشر في شيء...!! هكذا يريد المخرج الكبير لسيرته الناقصة ان تظل ناقصة بلا افلام. حريدة الحياة في 19 سبتمبر 2003
|
خمس سنوات على رحيل أكيرا كيروساوا هيروشيما معذبة في عرق الضفدع دمشق ـ فجر يعقوب |