بكوميديا سوداء، يتناول المخرج الفلسطيني ايليا سليمان في فيلمه "يد إلهية"، واقع الاحتلال الإسرائيلي ووطأة صراع تاريخي بكامله على الحياة اليومية للفلسطينيين محفزا خيال المشاهد وذهنه لكي ينشط ويتصور المدى المدمر لصراع تجاوز كل الحدود. قليلة هي الأفلام التي لا تعرض كل التفاصيل لكنها تقدم كل شيء. وسليمان لا يعرض لنا سوى صور منتقاة من الحياة اليومية للفلسطينيين سواء في مدينة الناصرة أو في الحواجز العسكرية الإسرائيلية قرب مدينة القدس المحتلة أو رام الله. لكن هذه الصور وهي تغوص في عمق العلاقة بين الإسرائيليين كمحتلين والفلسطينيين كشعب خاضع للاحتلال توضح بجلاء استحالة بناء علاقة سوية بين المحتلين والشعب. إنها علاقة تختزل نفسها في سيارات الشرطة، العنف اليومي، الحواجز والإهانات بل ووقاحة لافتة أيضا عندما يستعين شرطي الاحتلال بمعتقل فلسطيني معصوب العين لكي يرشد سائحة أجنبية إلى مكان تقصده. "يد إلهية" فيلم مؤسلب، لا لقطات مجانية فيه ولا أداء مجاني ولا يبدو الممثلون فيه على سجيتهم، لكنه على رغم هذا كله بعيد الافتعال، بل انه في بعض المشاهد يبدو اقرب للشريط الوثائقي. ومع خلو معظم مشاهده من الحوارات، فان ايليا سليمان بإعادته الاعتبار للصورة والعين إنما يقدم السينما في افضل صورها وأكثرها نقاء. الفيلم الذي عرضه نادي البحرين للسينما الأربعاء الماضي، يبدأ من العالم الصغير لمدينة الناصرة مع الأب المريض صاحب ورشة اللحام، إذ نراه يخرج من البيت بسيارته يحيي المارة من جيرانه ومعارفه لكن بالسباب والشتائم المقذعة فيما هم يظنون انه يرد على تحياتهم. تتوالى مشاهد الحياة اليومية لنشاهد شابا يقف عند محطة باص فيما يخرج شاب آخر من بيت مجاور ليعلن له بشيء من التوتر: "ما في باص" قبل أن يعود أدراجه إلى البيت. رجل يلقي بأكياس القمامة في منزل جيرانه. عجوزان يجلسان على سطح منزل يراقبان ما يجري في الشارع من دون أي رد فعل. صبي صغير يلهو بالكرة في زقاق ضيق أمام العجوزين. رجل آخر يصف زجاجات فارغة على سطح منزله. الرجل نفسه نراه يقوم بتكسير جزء من شارع اسمنتي قام ببنائه عمال بلدية. سيدة تقوم بتنظيف حديقة منزلها. كل هذه المشاهد تتكرر بالحركة نفسها لتعطينا صورة عن حياة يومية عادية لكنها لا تخلو من التوتر. كرة الصبي تقع في منزل الجار صاحب الزجاجات فنراه يقوم بتمزيقها بسكين فيما العجوزان يتفرجان على المشهد دونما أي رد فعل. الشرطة تأتي لتعتقل هذا الجار نفسه وتدور معركة بينه وبين رجال الشرطة إذ يقذفهم بالزجاجات على مرأى من العجوزين الصامتين. لكن سليمان يضع مشاهد الحياة اليومية هذه في إطارها الأكبر عندما لا نسمع طيلة مشهد الاعتقال هذا سوى مكالمات اللاسلكي عبر سيارة الشرطة الإسرائيلية. إن خلو المشاهد من الحوار ربما كان امتيازها الأول، فالصورة تدفع الذهن والخيال لكي ينشط، ومع مشاهد غير مركبة مثل هذه فإنها تنطوي على جرعة غير قليلة من الكوميديا بفعل التكرار. لكن الكوميديا تتراجع سريعا. مشهد انتظار الباص ربما كان اكثر المشاهد إثارة للمشاعر المتضادة. فتكرار حركة الجار وعبارته المتكررة "ما في باص" تدفع إلى الضحك على رغم التوتر في ملامح الوجه وحركة الجسم، تزيدها اللامبالاة البادية في ملامح وجه الشاب جرعة أخرى. لكن تكرار المشهد على رغم سخريته يحيلنا في النهاية إلى مجاز الانتظار بأكثر معانيه شمولا: شعب بكامله ينتظر حريته. العلاقات غير السوية في الحياة اليومية يمكن ملاحظتها في اكثر من مشهد. تحيات الأب وشتائمه لأهل الحي على رغم تظاهره بالتحية، الجار الذي يطلب من جاره ازاحه سيارته ويتلكأ الآخر قبل أن يقوم الأول بنزع لوحة السيارة. الجارة عندما تعيد قمامة جارها إلى باحة منزله فيعاتبها مذكرا إياها بأصول الجيرة وضرورة الحوار. هذه المشاهد البارعة تؤشر بلا شك إلى تأصل التوتر والعنف سواء اللفظي أو الجسدي في الحياة اليومية للفلسطينيين. وهو عنف يقدم إلينا الفيلم ذروة أخرى منه في مشهد إلقاء قنبلة واطلاق رصاص على منزل بل وحتى في المشهد الذي يبدو فيه مجموعة من الشبان يضربون بعصي خشبية جسما على ارض الحديقة من دون أن نراه قبل أن يحضر أحدهم مسدسا ويطلق النار على هذا الجسم. هذا المشهد ينقل إلى المشاهدين جرعة عالية من التوتر لانهم لا يرون الجسم الذي يضربه الشبان ولان حركتهم تبدو مبالغا في عنفها وصولا إلى استخدام المسدس. ربما يتراجع التوتر لدى المشاهد مع نهاية هذا المشهد عندما نكتشف أن الجسم ليس سوى ثعبان، لكن تأثير جرعات التوتر هنا يبقى قائما إلى الحد الذي يدفع صحيفة "لوس انجليس تايمز" الأميركية للتساؤل عما إذا كان هذا المشهد "يرمز لمبالغة الفلسطينيين في ردود فعلهم أم أن ايليا سليمان يعذبنا" قبل أن تجيب "انه ليس المشهد بل كيف تنظر إليه". "مانوهلا دارغيس - لوس انجليس تايمز، 14 ابريل/ نيسان 2003". أن انطباعا كهذا لا يمكن تلافيه، لكن جرعة العنف والتوتر التي ينقلها مشهد قتل الثعبان إلى المشاهد تبقى قوية لأنها ببساطة ذروة من عنف يطبع الحياة اليومية للفلسطينيين وهو بالضبط ما يفعله البناء الدرامي للفيلم أيضا. فالعنف في الفيلم يبدو متصاعدا، من العنف اللفظي "شتائم الأب لجيرانه في بداية الفيلم" إلى نزاعات الجيران "القمامة، العجوز والكرة، تكسير الحاجز الاسمنتي، اعتقال العجوز" وصولا إلى مشهد تفجير المنزل واطلاق الرصاص وقتل الثعبان. حتى اللحظات التي يغيب فيها العنف كتعبير عن غياب الافتعال مثل مرض الأب يبدو خارج التصور الطبيعي عندما يربطه الفيلم بضغوط الدائنين والسلطات وهو الانطباع الذي يؤكده إغلاق الورشة في النهاية. من هذا العالم الصغير المتسربل بالعنف، ينقلنا الفيلم إلى الإطار الأكبر والأصلي للعنف عندما ينقل سليمان كاميرته إلى حاجز الرام بين القدس ورام الله إذ اللقاء المستحيل بينه وبين حبيبته "لعبت الدور منال خضر". على نحو ما تذكرني مشاهد الحاجز بفيلم "بيروت اللقاء" للبناني برهان علوية إذ اللقاء المستحيل بين حبيبين يعيشان في بيروت المقسمة، لكن سليمان هنا لا يكتفي بتقديم صور عن وطأة الاحتلال، بل يستخدم الكوميديا أيضا لكي يظهر هذه الوطأة خصوصا في مشهد الجندي الإسرائيلي الثمل الذي لا يكتفي بتأخير العابرين بل باستبدالهم من سيارة إلى أخرى. يبقى المخرج على الأمل عندما يرد عبر المجاز والخيال على هذا الواقع المرير. فالفيلم يخلو من السببية البسيطة في بناء مشاهده، بل يمعن في الكوميديا والخيال من دون الحوار. فالمشهد المتكرر للقاء الصامت مع حبيبته على الحاجز الإسرائيلي يختمه سليمان ببالون يحمل صورة ياسر عرفات ينطلق من السيارة ويطير عاليا في السماء متجاوزا الجنود المستنفرين مارا بالقرى والبلدات والكنائس والمساجد قبل أن يحط على قبة الصخرة. وفي مشهد آخر، يرد سليمان على قسوة الآلة العسكرية للاحتلال وهمجيتها في مشهد جميل تخطو فيه منال خضر خطوات واثقة عابرة الحاجز العسكري الإسرائيلي غير مكترثة بالجنود وبنادقهم قبل أن ينهار برج المراقبة من نظرة خاطفة من عينيها. وفي مشهد آخر، نراه يقود سيارته ويأكل ثمرة مشمش ويلقي بالنواة من نافذة السيارة لتفجر دبابة إسرائيلية. وفي تأكيد لروح المقاومة، يرسم سليمان لوحة مؤثرات جميلة ومتقنة عندما يبعث الحياة في حبيبته المرسومة كفدائية على لوحة رماية للجنود الإسرائيليين لتقارع الجنود بحركات "الننيجا" مستعينة بخريطة فلسطين لصد الرصاص. هذه المشاهد التي جاءت على النقيض من المشاهد الأخرى تأكيد آخر للسخرية يوجهها المخرج إلى الإسرائيليين إذ يبدو الخيال هنا أداة للأمل وتأكيدا له. يذكرنا منظر الفدائية معلقة في الهواء فيما الرصاصات قد توقفت حول رأسها بمشهد إكليل الشوك يدمي رأس المسيح، أما تلون الأرض بألوان العلم الفلسطيني تحت أقدام الضابط الإسرائيلي فهو تأكيد آخر على هوية الأرض وصاحب الأرض. هذه المشاهد المعدة بالكمبيوتر ربما تكون ابلغ رسائل الفيلم ان لم تكن رسالته الأهم. وبدلا من التحدي المستتر بين الإسرائيليين والفلسطينيين طيلة مشاهد الفيلم التي سبقت هذا المشهد، فانه هنا يستحضر الصراع بين الاحتلال والشعب في رموزه الدالة: الحجارة بمواجهة المسدسات والرشاشات، خريطة فلسطين النحاسية كدرع واق من الرصاص، الكوفية مقابل المدفع الرشاش فيما لا يفعل تحليق الفدائية في السماء وحركاتها الرشيقة سوى التأكيد على استحالة القضاء على مقاومة شعب تحت الاحتلال. لكن الخيال لا ينهض بالأمل ولا بالفيلم وحده، ففي مشهد بارع آخر يدلل سليمان على الفارق الكبير بين صاحب الأرض والمغتصب في مشهد السائحة الأجنبية التي تسأل الجندي الإسرائيلي عن الطريق إلى كنيسة في القدس فلا يعرف الطريق. لكنه يسحب شابا فلسطينيا معتقلا في الجيب يدلها وهو معصوب العينين بكل بساطة على اكثر من طريق للوصول إلى حيث تريد. ينهي سليمان فيلمه بمشهد رائع وافر الدلالات: قدر الطبخ المغطى يصدر صفيرا فيما هو جالس مع والدته التي تهمس: "بيكفي" لكن الكاميرا عندما تقطع ثانية على القدر الذي يتصاعد منه الدخان لن يخامره الشك لحظة واحدة في أن المشهد والعبارة لا تتعلق بالطبخ... بل حتما بانفجار شعب بكامله. حريدة الوسط في 21 سبتمبر 2003
|
يد إلهية السخرية كأداة للأمل بقلم: محمد فاضل |