"فكّرت: هذا لا يمكن أن يُكتب، هذا لا يمكن إلاّ أن يُصوَّر" جان روش غير مستغرب وغير داعٍ الى العجب ألاّ يستوقف عالمنا المحلي والعربي المزنّر بالأمية والجهل نبأ غياب سينمائي وإنتولوجيّ [عالم سلالات] رائد يدعى جان روش. ولم أقرأ سطراً أو خبراً يشير الى هذا الغياب(!) ولجان روش ما له من موقع ومنزلة وأهمية في تاريخ السينما، الفرنسية أولاً ثم العالمية، ويكفيه أنّه ملهم "الموجة الجديدة" Nouvelle Vague الفرنسية، ومؤسّس ما يعرف بـ"السينما الإنتولوجية" التي تعرّف بالإتنيات على نحوٍ بين التسجيلي والرائي، والمحدّد الأول لـ"سينما الحقيقة" Cinema Verite، والسباّق الى اطلاق مفهوم "سينما الذعر" Cine transe أي تلك التي تقتحم آنية الحدث لتسجيله في أسلوب الريبورتاج أو الوثائقي، وقبل أن تشيع مفاهيم هذه السينمات وتحديداتها، بلوغاً الى الـ"دوغم" وأحدث الأشكال التعبيرية المجدِّدة في الفن السابع. جان روش أبو "الموجة الجديدة" وسائر الموجات المعاصرة، في معنى تاريخي وأسلوبيّ ما، ينتمي الى سلالة الروّاد في السينما التسجيلية ذات الملمح الروائي، أمثال فلاهرتي ودزيغا فرتوف. ولعلّه أكثر من حدّد بين اولئك الروّاد مفهوم السينما كنظرة ذاتية Subjective فورية، آنية، غير محدّدة الأطر الجمالية والتعبيرية سلفاً. سينما شديدة الالتصاق بالحقيقة والواقع، فائقة الإنسانية، هادفة، ملتزمة، حنونة، مداعبة، مؤثرة... أي في اختصار، سينما تنقل الواقع ليس بالضرورة كما هو، بل تعيد انتاج هذا الواقع بواسطة تلك النظرة الذاتية تحديداً، فلا تبقى تسجيلية باردة، ولا تقفز الى الروائيّ "المفبرك" والسابق التصوّر والإعداد. ومما لا ريب فيه أن مجيء جان روش من "متحف الانسان" حيث كان مولجاً بقسم الأبحاث فيه، ومن دراسته علم السلالات أو الإنتولوجيا، فضلاً عن حسّه الجمالي المكتسب من دراسته الهندسة في أحد أشهر معاهدها الباريسية "بون إيه شوسّيه"، زوّده تلك النظرة الانتربولوجية الذاتية التي قادته الى الشغف بأفريقيا، مهد البشرية وحضارتها، فتولّع أشدّ الولع بناسها الفقراء والبسطاء والمملوئين دعابة والأثرياء حضارة وتقاليد، فجالت عينه السينمائية في أنحاء عديدة من تلك القارة المعذّبة [ولا تزال]، المنسية، المهملة، المضطهدة، المستعمرة والمنهوبة الثروات، ليمضي معظم حياته فيها، وليموت - يا للمفارقة المأسوية المعبّرة - على دروبها مساء الخميس 19 شباط الفائت [في حادث سيارة عبثي شمال نيجيريا] عن ستة وثمانين عاماً، وعن مئة وعشرين فيلماً - وثيقة هي ملك الأجيال الراهنة والآتية تدلّ على عبقرية سينمائية تصنّف على حدة في تاريخ السينما. لم ينشغل جان روش بجماليات السينما، وإن تكن سينماه من الأجمل مضموناً وتشكيلاً وتأثيراً بقدر انشغاله بالإنسان، وهو ذو نزعة انسانية غاية في الرقّة والحنان، مع روح دعابة ميّزته وتركت تأثيرها في سينمائيين كبار أمثال جان لوك غودار وإريك رومر وكريس ماركر. والى اللحظة الأخيرة من حياته بقي روش شغوفاً بالسينما، حيوياً، مملوءاً عشقاً لأفريقيا وانسانها، مورثاً الأجيال السينمائية تحفاً وكلاسيكيات في النوع، مثبتاً مقولته المشهورة "الحلم أقوى من الموت". جورج كعدي
كان جان روش رجلاً مستعجلاً، نعلاه من ريح، مثل رامبو الذي سبقه الى أفريقيا [الحبشة] وحمل روش قصائده معه الى القارة السوداء. وصفوه أيضاً بالساحر الأبيض الضاحك. سائر الذين عرفوه يشهدون. هذا الرجل المستعجل دائماً بين رحلتين، بين قارتين، بين مشروعين، بدا مكتشفاً سر الحيوية الخالدة. الزمن يعبر سريعاً معه وبطيئاً من دونه. عبر جان روش القرن العشرين "مسّاحاً" للتاريخ: الحرب الاسبانية، الحرب العالمية الثانية، نهاية الاستعمار... وللفن: السوريالية، الموجة الجديدة. والعلوم الانسانية: الإتنولوجيا او علم السلالات. وتجلّت تلك التجربة الغزيرة في السينما التي تدين له بريادات كبرى كمؤسس للسينما الإتنولوجية وللسينما المباشرة وكممهّد للموجة الجديدة، في آن واحد.ولد جان روش في باريس عام 1917 ابناً لمدير متحف الأوقيانوسات في موناكو، واكتشف السينما في السادسة من عمره فاغراً الفم أمام فيلم "نانوك الشمال" [1922] لفلاهرتي، وسرعان ما التحق شاباً بـ"حلقة السينما" التي أنشأها هنري لانغلوا مؤسّس السينماتيك الفرنسية. وفي 1937 حاز ديبلوماً في الهندسة من معهد "بون إيه شوسّيه" المشهور، لكن المفارقة العبثية شاءت ان يشرع في تهديم الجسور، اختصاصه الهندسي، عوض بنائها لدى التحاقه بالجيش الفرنسي في الحرب الثانية، إذ كان موكلاً الى فرقته وقف تقدّم الجيش الألماني عبر قطع طرق إمداداته وزحفه نحو المناطق التي تفصلها تلك الجسور. ولدى عودته من الجبهة التقى في "متحف الانسان" في باريس، المحتلة آنذاك، الإتنولوجيّ مارسيل غريول الذي سيغدو أحد معلّميه ناقلاً اليه شغفه بأفريقيا. وعام 1941 ذهب روش الى نيجيريا في مهمته الأولى لبناء شبكة طرقات، إلا أن شغفه تحوّل هناك الى الإتنولوجيا والسينما إثر حضوره مأتماً "رائعاً ورهيباً"، في تعبيره، وآنئذ كان قوله الأثير والمعبّر: "فكرت: هذا لا يمكن ان يُكتب، هذا لا يمكن إلا أن يصوّر"، مفسّراً بداية "دعوته" السينمائية. وتوالت رحلاته الى السنغال ونيجيريا ومالي وغانا، وصوّر فيلمه الأول "في بلاد المجوس السود" [1947] بواسطة كاميرا زهيدة الثمن. وكلّ روش كان في هذه التجربة الأولى: العين السينمائية الأكيدة، الحيوية، روح الدعابة، كاميرا الـ16 ملم الخفيفة والمحمولة على الكتف... هذا النوع الجديد من السينما يميّزه التقشّف والخفة والسرعة والصدق. كان ذلك تقريباً التحديد اللاحق للموجة الجديدة التي أثّر جان روش في سينمائييها، وفي مقدمهم كان لوك غودار الذي قال عنه بظرفه ومواربته الغريبة المعهودة: "جان روش لم يسرق لقبه: مسؤول عن قسم الأبحاث في متحف الإنسان. وهل ثمة تعريف أجمل للسينمائي؟". أما إريك رومر أحد أركان الموجة الجديدة فقال عنه إثر غيابه: "لم يكن [جان روش] إتنولوجياً وتوثيقياً فحسب، بل سينمائي كبير على حدة. سينمائي روائي. هو من أعطى الموجة الجديدة دفعاً. كنّا نستلهمه. لا أدري إن كنت أنجزت فيلمي [الشعاع الأخضر] لو لم أشاهد أفلامه. كان كوميدياً عبقرياً استثنائياً. جدّد تماماً هذا النوع. الكوميديا في السينما كانت حتى روش فناً مشغولاً جداً، مهيّأ. روش وفّق بين ما لا يمكن التوفيق بينه مبتكراً كوميديا الارتجال". "العقاب" [1962]، "أرامل الخمسة عشر عاماً" [1964]، "محطة الشمال" [1964]، أفلام قصيرة تصلح اليوم نموذجاً لمخرجي الأفلام القصيرة الشباب وتشهد لتلك القربى بين جان روش والموجة الجديدة. هو القائل: "السينما نفسها يمكن أن تُدعى سينما الحقيقة Cinema-Verite، رغم تدميرها كل مثال للحقيقة كي تمسي خلاّقة، منتجة للحقيقة. لن يكون ذلك سينما الحقيقة، بل حقيقة السينما". بل أطلق على سينماه اسم "سينما الذعر" Cine-Transe، أي السينما التي تنخرط توّاً في الواقع، تقتحمه، تسجّله في آنيته وواقعه، بكاميرا خفيفة محمولة على الكتف، مما يعني بالنسبة الى جان روش ان السينما هي قبل كل شيء وجهة نظر ذاتية والتزام. لذا كان يصوّر اللقطات الطويلة الموصولة [بلان سيكانس] بلا قطع. إنه تصوير الحدث في تتابعه، وغير مهمّ له لو أكتشف لاحقاً على طاولة المونتاج ان ثمة العديد من الوصلات الخاطئة [فو راكّور]، فالسينما، سينما الواقع والالتزام والحقيقة، ليست سينما جمالية مهيّأة الكادرات والزوايا، بل تلك المصنوعة على عجل لاستلحاق الحدث الآني وتسجيله. يقول جان روش: "لم أكن أملك أياً من مبادئ الراكّورات [وصل اللقطات]. كنت أصوّر ما يهمّني كأجزاء منفصلة، من غير أن آبه للمونتاج الذي سيأتي لاحقاً". سافر روش لفترة طويلة مع زوجته الأولى جين مارغريت جورج التي توفت عام ،1987 ومثله لم تكن تحلم إلاّ بالآفاق البعيدة وبالدنوّ من الموضوع الإنساني. معاً في أفريقيا تعلّما الضحك وفرح الحياة وحسن الإصغاء. كلاهما كان نعلاه من ريح. مثل رامبو الذي عشقاه وحمـلا معهما كتبه الى القارة السوداء المعشوقة. النهار اللبنانية في 1 مارس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
"جان روش" السينمائي والإتنولوجي الفرنسي الغائب: ملهم الموجة الجديدة الشغوف بسينما الواقع جورج كعدي |
|