الناقد عند أندريه بازان [1918-1958] كان عنصراً ملازماً
للفيلم كون دوره، أي الناقد، متّصل بعناصر الفيلم كافّة أكثر من إتصال
عناصر كثيرة تشكل صنعه. فالديكور لا علاقة له بالتمثيل والتصوير بعيدٌ عن
التأثير في الموسيقى، وهذه لا رابط لها بالكتابة (الا في حالات معيّنة كأن
يكون الفيلم موسيقياً- ولو أنه حتى هذه الحالة هناك عاملان في الكتابة واحد
درامي هو السيناريو، والثاني موسيقى هو ما سيُضاف لاحقاً في محطّات
معيّنة]. بازان، وهو أحد منشأي مجلة »الكاييه دو سينما« الشهيرة، لم يكن -
في ذات الوقت- يعتبر أن الناقد خارج العملية من ناحية او فوقها من ناحية
أخرى. أي محاولة لتمييزه على أساس أنه الأجدى والأهم من العمل السينمائي
كان مردوداً عليها بتحديداته هويّة الناقد وذلك من خلال الدراسات التي
وضعها في كتبه وأهمها ما نشر في كتاب عنوانه "ما هي السينما؟".
لكن هذا لم يمنع من أن دوره، ودور الناقد عموماً، يمكن أن
يتوقّف عند حد الحكم على المسائل التي يتكوّن منها الفيلم كما هو منتشر بين
معظم النقاد هنا وفي الخارج. لقد كتبت مرّة حول موضوع لفت نظري كان منتشراً
منذ بضع سنوات، لكنه ازداد إنتشاراً -في الغرب- بعدما استحدثت التكنولوجيا
وسيلة جديدة للتعبير عن وجهات النظر: لاحظت أن معظم الذين يكتبون في
الأفلام غرباً يسارعون للحكم لأن هذا كل ما لديهم ليقوموا به. بكلمات أخرى:
حين يُراد إبداء وجهة نظر في فيلم، لنقل "مايكل كلايتون" او "لا بلد
للمسنين" او في الحقيقة أي فيلم حديث كان، فإن ذلك هو الفعل السريع الذي
يمكن الإقدام عليه بالإعتماد على قبولك او رفضك المعتمد بدوره على كم تعرف
من السينما. معظم النقاد الغربيين الجدد يعرفون عنها وليس فيها، بالتالي
تستطيع أن تتأكد أن العديدين منهم يقيس الفيلم بما يعرفه وليس كما هو عليه
حقّاً.
الإسراع بالحكم وإبداء الرأي مرتبط، بالنتيجة، بالضحالة
المعلوماتية التي للبعض منهم. السهل هو أن تقول أن الفيلم جيد او رديء او
"يساوي سعر التذكرة" كما يكرر بعض النقاد دائماً، كما لو أن هذا من المفترض
به أن يخبرني، كقاريء، الكثير. لكن من الصعب البحث بالعملية السينمائية
وتأجيل الحكم الى أن يتم توفير القناعة المتأتيّة من العناصر الفنية كلها.
ولتوفير هذه القناعة على الناقد أن يعرف كل شيء عن صنع الأفلام. بازان كان
من المعرفة بحيث كان يستطيع الإقتراح بأن يعتمد المخرج على طريقة تصوير
معيّنة لتجنّب طريقة مونتاج معيّنة.
والحقيقة، كلنا كنقّاد (وأنا أتحدّث عمّن هو جدير بالوصف)
نمارس -عن معرفة او من دونها- ما توصّل إليه أندريه بازان حين عرّف الفيلم
الجيّد على أساس أنه الفيلم الذي يمنح المخرج الدور التأليفي. من هنا جاءت
كلمة المخرج- المؤلّف التي يستخدمها عديدون لوصف سينما يكون فيها المخرج
قادراً على امتلاك القرارات الفنية والتعبيرية كلّها وليس بعضها لأنه حال
إمتلاكه هذه القرارات، ينأى بنفسه جانباً عن تنفيذ فيلم غيره. وغيره هنا هو
الاستديو او المخرج او حتى المشاهد الذي يهدف الى الترفيه وحده ولذلك يطلب
فيلماً يغيب فيه دور المخرج ويحضر فيه دور الممثل والقصّة.
لندرس ذلك في مشهد.
رجل في حانة صغيرة يقف عند طاولة مرتفعة ووراءه يبدو جانباً من
رفوف الحانة ومنضدتها الطويلة ، أو "البار" وصاحب الحانة (او الموظّف)
يتحرّك في الخلفية. الكاميرا على موقع بعيد في مطلع ما هو أقرب الى "كوريدور"
يؤدّي الى الشخص. الألوان داكنة بفعل النور القليل المتسرّب الى داخل
الحانة. هذا المشهد هو من فيلم أندريه تاركوفسكي المبدع
Stalker
ويكفي منه إثبات الطريقة التي أسّس فيها المخرج لذلك المشهد. المتوقّع -
إرضاءاً للجمهور الشاسع ولبعض الكتّاب في السينما ربما- الإنتقال من لقطة
التأسيس هذه الى لقطات قريبة نتبيّن فيها من هو هذا الرجل. ربما لقطة لصاحب
الحانة وهو ينظر إلى الرجل ويسأله إذا ما كان يريد شيئاً آخر. لقطة قريبة
له. لقطة قريبة للرجل وهو يقول: "لا". كاميرا تنساب حول المكان لتصوّر ما
فيه. الجدران. إذا ما كانت هناك من صور او ملصقات او ما الذي تتألّف منه
الرفوف فعلاً. بعد لحظات يدخل رجل آخر ويتّجه بعيداً يطلب مشروباً.
بصرف النظر عن جودة تنفيذ الإقتراح الآخر (القائم على التقطيع)
الا أن بواعث ذلك التقطيع تكمن في محاولة إدماج المشاهد في التوقّعات.
بينما أسلوب تاركوفسكي التأمّلي هو الذي يصمّم المشهد والجزء من النهار
والاستلهامات كلّها وهو يتطلّب متابعة بصرف النظر عن الوقت الذي يتطلّبه كل
ذلك. المشهد المذكور يستمر نحو خمس دقائق على الشاشة- فليكن. هذه هي سينما
يؤلّفها المخرجون وليس المنتجون والمشاهدون والاستديوهات والموزّعون وأصحاب
القرارات المالية.
سينماتك
في 25 فبراير 2008