"إنّني أنظر الى الفيلم على أنَّه بيئتي الطبيعيَّة،
والمسألة تتعلّق بسعادة ما يمكنك القيام به عند
استعمال الة تصوير، عند استعمال وسيلة...ولكن حتى قبل
ذلك، هي بهجة بالناس والأماكن، مع رغبة في إمساك
الحياة بيدك وتشكيل شيء منها، أو صنعها بشكل ما، رغم
أنّها موجودة فعلاً، ورغم استمتاعي بالقلم وريشة
الرّسم، فالإثارة منهما ليست أبداً الإثارة نفسها
النابعة من صنع الأفلام، فتلك هي الإثارة المطلّقة"
(من كتاب "مايك لي يتحدث عن مايك لي" لإيمي رافائيّل،
ترجمة محمد منير الأصبحي، سلسلة الفن السابع، سوريا ـ
2012)
هناك قناعة يشترك بها الجميع في الوسط النّقدي
السينمائيّ البريطاني، تعتبر المخرجين مايك لي وكِن
لوتش كنزان وطنيان حقيقيّان. يزيح هذا الإجماع بحزم أي
شكوك تطال اشتغالاتهما الواقعيّة التي تخترق عوالم
متشظية، يعيشها أفراد طبقات وعرقيّات، يواجهون عصفاً
اقتصاديّاً لا يرحم. الغلاء علّة، ونقص فرص العمل
محنة. الشباب هدف سهل للعطالة، والشراكة الاجتماعيّة
تعاني من هزّات متكرِّرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
أمران مجيدان في هذه الجزيرة المرفّهة: إن القانون لا
يعلى عليه، والمعونة الحكوميّة حقّ للجميع. أنها أرض
ميعاد تحيط بها المياه، وتحصّنها من غزوات أغراب، سوى
من ينجحون في عبور أمواج القناة من الجانب الفرنسي،
الذين سرعان ما يُشحنون جواً الى أفريقاهم!.
هما صنوان سينمائيان يجتمعان على دفاعهما اللّامشروط
والراسخ للحقّ الإنسانيّ والإنصاف، سواء على صعيد
نشاطهما السياسي العام أو خطابهما الابداعيّ. المخرج
والكاتب لي عبرانيّ الطائفة، بيد أنَّه تخلّى عن
"المشهد اليهوديّ" (كما ينعته) وأصبح علمانيَّاً، كونه
"عالماً غريباً عني، ولا رغبة أنْ يكون لي أيْ دور
فيه"، لاحقاً أصبح أحد الموقعين على بيان اليهود
المطالبين بالعدالة للفلسطينيين. يعترف صاحب "بيترلو"
(2018) أن مذهبه ليس هاجساً عقائديّاً "لقد تعمدت في
الغالب الوقوف جانباً، لقد اختبأت بعيداً عن الموضوع"،
قبل أن يتجاوز العقدة ويؤلف مسرحيته الاشكالية
"ألفاعام" حول هموم يهود بريطانيا بشأن القضية
الفلسطينية وحروب الشرق الأوسط و...ياسر عرفات، والتي
عُرضت على خشبة المسرح القومي في عام 2005. بعد ذلك،
سرعان ما وضع نصب هواجسه السينمائيّة التّصدِّي بحزم
الى التّخريب الحزبيّ الخبيث والمنظم لبيئة الشراكات
المجتمعيّة التي تكرست بعيد الحرب العالمية الثانية،
وكان من نتائجه (التخريب) تعميم الفقر والتشرد
والتّفكّك الأسري الواسع النطاق الذي وصل في بعض المدن
الى حدود الوباء، وأعاد الاهتمام بـ"خرائط الفقر"
الفيكتورية التي صاغها الباحث تشارلز بوث (1840 ـ
1939)، وكان من الطبيعيّ والحاسم أن تجد ضحايا ذلك
التخريب وحكاياتهم سبيلها الى متنه السينمائيّ في وقت
مبكّر.
* * * * *
أنّها الشراكة ذاتها التي أهتمّ بها لوتش بقوّة منذ
باكورته "بقرة عجفاء" (1967)، حيث نرى عالم المراهقة
جوي يتّهاوي حتى إمتهانها الدّعارة. فيما يصبح الصّبيّ
بيلي في "كيس" (1969) ضحيّة عوز عائلته وعزلته
القسريّة ليجد ألفة سورياليّة مع عقاب يدربه على
الطيران!. طور لوتش خطابه السينمائيّ بسرعة، ووسع من
نهجه الأمميّ وألتزامه بتنوّعه، فمن الدّراما الطبقيّة
المحكمة مثل "حياة عائلية" (1971)، و"نظرات وابتسامات"
(1981)، شاكّس ببسالة وعناد حروباً امبرياليَّة ،
فاضحاً جرائمها في أيرلندا الشماليّة كما في "الريح
التي هزّت بيدر الشَّعير" (السّعفة الذهب في مهرجان
كانّ، 2006)، وقبله "أجندة سريَّة" (جائزة لجنة
التحكيم، كانّ 1990)، والحرب الأهليّة الأسبانيّة في
"وطن وحرية" (1995)، ونيكاراغوا في "أغنية كارلا"
(1996)، قبل أنْ يختمها بالحرب على العراق في "آيريش
روت" (2010) وهو الأسم الذي أطلقه مرتزقة ومقاولو
شركات الأمن الخاص على الشارع المؤدي الى مطار بغداد.
في العام 2016، تصبح تحفته "أنا، دانيال بليك"
(السَّعفة الذهب في مهرجان كانّ) الشّتيمة السينمائيّة
الكبرى لحقبة ما بعد حكم العمّالي توني بلير الذي عززت
سياساته الشّعبوية بمكر حالات الفصم الطبقيّ في مجتمع
تمّ خدّاعه بحرب كاذبة، واقتصاد مرتهن الى قطبية
أميركيّة بشكل فاضح. إنَّ صرخة الرجل السّتِّيني
وإحتجاجاته العلنيّة هي نذير شؤم متواصل، نجد بسهولة
أنَّ لها جذوراً درامية في سينما المخرج لي الذي لن
يذهب بعيداً عن فكرة المجتمعيّات المهددة بتخريبها بل
يزيد من عيار كآبة شخوصه كونهم عرضة للاتلاف بسهولة
(ماعدا الشابة بولين ذات الرّوح الدّيناميكية في
"السَّعيد محظوظ" (2008) التي تصاب بخيبة لأنّ الفرصة
لم تُمنح لها كي تقول وداعاً لدراجتها قبل أنْ
تُسرق!). من هنا نفهم صوابية قرار مخرج "مستر تيرنر"
(2014) في خياراته البريطانيّة البحتة التي تعكس قيمه
الشمالية (من مانتشستر) القائمة على ردّ التفاوت
المناطقيّ، ولاحقاً العنصريّ، معتبراً إياهما مرضين
اجتماعيين لا يجب أنْ يسودا. ففي باكورته الروائيّة
"لحظات كئيبة" (1971)، التي أنجزها وهو في سن الثامنة
والعشرين، تصبح الحياة المعزولة للشابة البيضاء سيلفيا
بسبب رعايتها لشقيقة معاقة، تورية على ضيق عمومي ينتمي
الى ضواحي ريفيّة واعتباراتها النابذة، ما يُعظم من
غُمَّتها وقنوطها وفشلها في "ترتيب" علاقات صحيّة مع
الأخرين. هذه الأخيرة (ترتيب) هي عصب جديد المخرج مايك
لي "حقائق قاسية" (97 د) حيث نقابل سيدة ضواحي أخرى
تنتمي الى عرق كاريبي تُدعى بانسي (إداء قويّ من
ماريان جون بابتيست في تعاون متجدد منذ "أسرار
وأكاذيب" الحائز على السَّعفة الذهب في كانّ 1996).
زوجة وأم خمسينيّة معتدّة بنفسها. مشكلتها أنَّها لا
تكفّ عن الخصومة والنفّاج والزّجر والجَلْجَلَة. امرأة
نعّارة لن يفلت أحد من تنمرها ولَدَدها وجزعها.
* * * * *
لا أحد، حتى المخرج لي نفسه، يعرف ما الذي يدفع، أو
يجعل، سيدة على قدر من البطر الطبقيّ الى التّفنَّن
بطغيان كينونتها وجحودها وتجاوزاتها ضد الأخرين، بما
فيهم زوجها السّباك كورتلي (ديفيد ويبر) وابنهما
الوحيد الصموت والمعزول والمكتئب موسيز (توين باريت).
حين تناشدها شقيقتها شانتيل (ميشيل أوستن): "لماذا أنت
غاضبة على الدّوام؟ لماذا لا تستمتعّين بالحياة؟"،
تجيبها بجزع: "لا أعرف!"، وهو إعتراف صادم من شخصيّة
نادرة وغير مألوفة و غريبة الأطوار. تعترف بأنّها لا
تستطيع تحمل "الناس المبتهجين والمبتسمين"، تعبيراً عن
فناء الألفة في كيانها الذي يتفجّر لاحقاً بفيض من
تكاره شخصيّ لكُلّ شيء ومن دون سبب واضح ومقنّع، ضمن
مشهد داخليّ طويل ومعقد في بنائه العاطفيّ، نفذه مدير
التصوير الراحل دِك بوب بوافر من ضياء متألق لظهيرة
صيف بريطانيّة، مع اجتماع الجميع في شقة الأخت بعد
الزيارة السنويَّة لقبر والدتهما الذي يشهد مواجهة
تمهيدية وغير عادلة بين الشّقيقتين، توضّح جانباً
صغيراً من بُغْض بانسي القديم حين عاملتها الراحلة
بنفور وهي صغيرة: "لم تدعّم موهبتي في الرياضيَّات.
كنت متّفوقة في الأرقام. حتى في الموت، اختارتك أنت.
كنت أنا من اضطرّ إلى الذهاب إلى هناك حيث وجدتها
مستلقية متيبسة على السرير، وعيناها الميتتان تحدقان
بي باتّهام وخيبة أمال".
هذه اللّاعدالة العائليّة، يصوغ المخرج لي منها أحد
أفضل المشاهد في تاريخ سينماه، وهو امتداد احترافي
الصنعة لذلك اللقاء الشهير بين شخصيتي السيدة البيضاء
سينثيا (بريندا بليثين) والشابة السمراء هورتنسي
(بابتيست) عند طاولة مقهى لندني في "أسرار وأكاذيب".
هذه المرَّة، تتمّ الجلسة عند طاولة طعام مع أسرتين
شديدتي الاختلاف والدّيناميكية. تشع بنتا الخالة
الشابتان بالحبور والتَّطامن والائتلاف، ذلك أنَّهما
تنتمّيان الى نسوّية جماعيّة صافية (الأمَّ مطلقة)،
تصبح قوّة باطنيَّة لعزّة فرديَّة، نلمحها في شخصية
كَيلا (آني نيلسون) وإصرارها على رؤيتها التسويقيّة
لمرهم تجميل نسائي أمام مديرة شركة بيضاء متشاوفة،
فيما لا تتوان أختها أليشا (صوفي براون) العاملة في
مكتب محاماة من الاعتراف بزلّة مكتبية "لانّها طبّقت
نظاماً خاطئاً تابعاً لشركة "أورنج" في إرسال وثائق
قانونيّة". بمعنى أنَّ هذا الجيل العرقيّ "المتأمّرك
في سلوكه اليوميّ" قادر في مجتمع بريطاني متزمت
بأمبرياليته على المزاحمة، وهي صفة لا يملكها الشاب
موسيز المكتفي بالأكل دون أيّ مشاعر أو عزم على
التّشارك. هذا الثلاثي ّالشبابي يقابل مثيله من
البالغين الذين يخترقهم أسى جازع. شانتيل بلوعتها في
مصير شقيقة لا تكفّ عن المناحة والعصابية، وزوج مغلوب
على أمره، يبدو أنَّه فقد السّيطرة تماماً على ترويضها
أو التحكم بها، قبل أنّ يتعرض الى حادث عمل "يقصم"
ظهره، تورية على هزيمته.
لن يتخلّى لي، الذي يحرص كثيراً على استقلاليَّته
الابداعية، عن تهكّمه المرير. أنَّه سلاحه في التّحامل
على الوزر الاجتماعيّ الذي يجعل من ابطاله ضحايا تواصل
سواء على صعيد فردي، كما بين الأختين وابن خالتهما، أو
بشكل جماعي كما في المشهد المميّز ذي التّورية
العنصرية بين البطلة وسائق أسود السّحنة، يبحث عن مكان
لركن سيّارته، وفيه يصبح السّباب بلهجة "مكسورة" وسيلة
إضحاك مرير، انطلاقاً من تعابير خاصة متداخلة للتّعيير
والانتقاص، تحتاج من مشاهدها دراية لازمة بمرجعيّتها
الشعبيّة التّداولية بين أفراد مجتمع وافد يتفاخر
بـ"إعوجاجه" المقصود للغة انكليزية دارجة.
* * * * * |