زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

Hard Truths

"حقائق قاسية" للبريطاني مايك لي..

النَّعار العرقيّ

بقلم: زياد الخزاعي

 
 

"إنّني أنظر الى الفيلم على أنَّه بيئتي الطبيعيَّة، والمسألة تتعلّق بسعادة ما يمكنك القيام به عند استعمال الة تصوير، عند استعمال وسيلة...ولكن حتى قبل ذلك، هي بهجة بالناس والأماكن، مع رغبة في إمساك الحياة بيدك وتشكيل شيء منها، أو صنعها بشكل ما، رغم أنّها موجودة فعلاً، ورغم استمتاعي بالقلم وريشة الرّسم، فالإثارة منهما ليست أبداً الإثارة نفسها النابعة من صنع الأفلام، فتلك هي الإثارة المطلّقة" (من كتاب "مايك لي يتحدث عن مايك لي" لإيمي رافائيّل، ترجمة محمد منير الأصبحي، سلسلة الفن السابع، سوريا ـ 2012)

هناك قناعة يشترك بها الجميع في الوسط النّقدي السينمائيّ البريطاني، تعتبر المخرجين مايك لي وكِن لوتش كنزان وطنيان حقيقيّان. يزيح هذا الإجماع بحزم أي شكوك تطال اشتغالاتهما الواقعيّة التي تخترق عوالم متشظية، يعيشها أفراد طبقات وعرقيّات، يواجهون عصفاً اقتصاديّاً لا يرحم. الغلاء علّة، ونقص فرص العمل محنة. الشباب هدف سهل للعطالة، والشراكة الاجتماعيّة تعاني من هزّات متكرِّرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. أمران مجيدان في هذه الجزيرة المرفّهة: إن القانون لا يعلى عليه، والمعونة الحكوميّة حقّ للجميع. أنها أرض ميعاد تحيط بها المياه، وتحصّنها من غزوات أغراب، سوى من ينجحون في عبور أمواج القناة من الجانب الفرنسي، الذين سرعان ما يُشحنون جواً الى أفريقاهم!.

هما صنوان سينمائيان يجتمعان على دفاعهما اللّامشروط والراسخ للحقّ الإنسانيّ والإنصاف، سواء على صعيد نشاطهما السياسي العام أو خطابهما الابداعيّ. المخرج والكاتب لي عبرانيّ الطائفة، بيد أنَّه تخلّى عن "المشهد اليهوديّ" (كما ينعته) وأصبح علمانيَّاً، كونه "عالماً غريباً عني، ولا رغبة أنْ يكون لي أيْ دور فيه"، لاحقاً أصبح أحد الموقعين على بيان اليهود المطالبين بالعدالة للفلسطينيين. يعترف صاحب "بيترلو" (2018) أن مذهبه ليس هاجساً عقائديّاً "لقد تعمدت في الغالب الوقوف جانباً، لقد اختبأت بعيداً عن الموضوع"، قبل أن يتجاوز العقدة ويؤلف مسرحيته الاشكالية "ألفاعام" حول هموم يهود بريطانيا بشأن القضية الفلسطينية وحروب الشرق الأوسط و...ياسر عرفات، والتي عُرضت على خشبة المسرح القومي في عام 2005. بعد ذلك، سرعان ما وضع نصب هواجسه السينمائيّة التّصدِّي بحزم الى التّخريب الحزبيّ الخبيث والمنظم  لبيئة الشراكات المجتمعيّة التي تكرست بعيد الحرب العالمية الثانية، وكان من نتائجه (التخريب) تعميم الفقر والتشرد والتّفكّك الأسري الواسع النطاق الذي وصل في بعض المدن الى حدود الوباء، وأعاد الاهتمام بـ"خرائط الفقر" الفيكتورية التي صاغها الباحث تشارلز بوث (1840 ـ 1939)، وكان من الطبيعيّ والحاسم أن تجد ضحايا ذلك التخريب وحكاياتهم سبيلها الى متنه السينمائيّ في وقت مبكّر.

* * * * *

أنّها الشراكة ذاتها التي أهتمّ بها لوتش بقوّة منذ باكورته "بقرة عجفاء" (1967)، حيث نرى عالم المراهقة جوي يتّهاوي حتى إمتهانها الدّعارة. فيما يصبح الصّبيّ بيلي في "كيس" (1969) ضحيّة عوز عائلته وعزلته القسريّة ليجد ألفة سورياليّة مع عقاب يدربه على الطيران!. طور لوتش خطابه السينمائيّ بسرعة، ووسع من نهجه الأمميّ وألتزامه بتنوّعه، فمن الدّراما الطبقيّة المحكمة مثل "حياة عائلية" (1971)، و"نظرات وابتسامات" (1981)، شاكّس ببسالة وعناد حروباً امبرياليَّة ، فاضحاً جرائمها في أيرلندا الشماليّة كما في "الريح التي هزّت بيدر الشَّعير" (السّعفة الذهب في مهرجان كانّ، 2006)، وقبله "أجندة سريَّة" (جائزة لجنة التحكيم، كانّ 1990)، والحرب الأهليّة الأسبانيّة في "وطن وحرية" (1995)، ونيكاراغوا في "أغنية كارلا" (1996)، قبل أنْ يختمها بالحرب على العراق في "آيريش روت" (2010) وهو الأسم الذي أطلقه مرتزقة ومقاولو شركات الأمن الخاص على الشارع المؤدي الى مطار بغداد.

في العام 2016، تصبح تحفته "أنا، دانيال بليك" (السَّعفة الذهب في مهرجان كانّ) الشّتيمة السينمائيّة الكبرى لحقبة ما بعد حكم العمّالي توني بلير الذي عززت سياساته الشّعبوية بمكر حالات الفصم الطبقيّ في مجتمع تمّ خدّاعه بحرب كاذبة، واقتصاد مرتهن الى قطبية أميركيّة بشكل فاضح. إنَّ صرخة الرجل السّتِّيني وإحتجاجاته العلنيّة هي نذير شؤم متواصل، نجد بسهولة أنَّ لها جذوراً درامية في سينما المخرج لي الذي لن يذهب بعيداً عن فكرة المجتمعيّات المهددة بتخريبها بل يزيد من عيار كآبة شخوصه كونهم عرضة للاتلاف بسهولة (ماعدا الشابة بولين ذات الرّوح الدّيناميكية في "السَّعيد محظوظ" (2008) التي تصاب بخيبة لأنّ الفرصة لم تُمنح لها كي تقول وداعاً لدراجتها قبل أنْ تُسرق!). من هنا نفهم صوابية قرار مخرج "مستر تيرنر" (2014) في خياراته البريطانيّة البحتة التي تعكس قيمه الشمالية (من مانتشستر) القائمة على ردّ التفاوت المناطقيّ، ولاحقاً العنصريّ، معتبراً إياهما مرضين اجتماعيين لا يجب أنْ يسودا. ففي باكورته الروائيّة "لحظات كئيبة" (1971)، التي أنجزها وهو في سن الثامنة والعشرين، تصبح الحياة المعزولة للشابة البيضاء سيلفيا بسبب رعايتها لشقيقة معاقة، تورية على ضيق عمومي ينتمي الى ضواحي ريفيّة واعتباراتها النابذة، ما يُعظم من غُمَّتها وقنوطها وفشلها في "ترتيب" علاقات صحيّة مع الأخرين. هذه الأخيرة (ترتيب) هي عصب جديد المخرج مايك لي "حقائق قاسية" (97 د) حيث نقابل سيدة ضواحي أخرى تنتمي الى عرق كاريبي تُدعى بانسي (إداء قويّ من ماريان جون بابتيست في تعاون متجدد منذ "أسرار وأكاذيب" الحائز على السَّعفة الذهب في كانّ 1996). زوجة وأم خمسينيّة معتدّة بنفسها. مشكلتها أنَّها لا تكفّ عن الخصومة والنفّاج والزّجر والجَلْجَلَة. امرأة نعّارة لن يفلت أحد من تنمرها ولَدَدها وجزعها.

* * * * *

لا أحد، حتى المخرج لي نفسه، يعرف ما الذي يدفع، أو يجعل، سيدة على قدر من البطر الطبقيّ الى التّفنَّن بطغيان كينونتها وجحودها وتجاوزاتها ضد الأخرين، بما فيهم زوجها السّباك كورتلي (ديفيد ويبر) وابنهما الوحيد الصموت والمعزول والمكتئب موسيز (توين باريت). حين تناشدها شقيقتها شانتيل (ميشيل أوستن): "لماذا أنت غاضبة على الدّوام؟ لماذا لا تستمتعّين بالحياة؟"، تجيبها بجزع: "لا أعرف!"، وهو إعتراف صادم من شخصيّة نادرة وغير مألوفة و غريبة الأطوار. تعترف بأنّها لا تستطيع تحمل "الناس المبتهجين والمبتسمين"، تعبيراً عن فناء الألفة في كيانها الذي يتفجّر لاحقاً بفيض من تكاره شخصيّ لكُلّ شيء ومن دون سبب واضح ومقنّع، ضمن مشهد داخليّ طويل ومعقد في بنائه العاطفيّ، نفذه مدير التصوير الراحل دِك بوب بوافر من ضياء متألق لظهيرة صيف بريطانيّة، مع اجتماع الجميع في شقة الأخت بعد الزيارة السنويَّة لقبر والدتهما الذي يشهد مواجهة تمهيدية وغير عادلة بين الشّقيقتين، توضّح جانباً صغيراً من بُغْض بانسي القديم حين عاملتها الراحلة بنفور وهي صغيرة: "لم تدعّم موهبتي في الرياضيَّات. كنت متّفوقة في الأرقام. حتى في الموت، اختارتك أنت. كنت أنا من اضطرّ إلى الذهاب إلى هناك حيث وجدتها مستلقية متيبسة على السرير، وعيناها الميتتان تحدقان بي باتّهام وخيبة أمال".

هذه اللّاعدالة العائليّة، يصوغ المخرج لي منها أحد أفضل المشاهد في تاريخ سينماه، وهو امتداد احترافي الصنعة لذلك اللقاء الشهير بين شخصيتي السيدة البيضاء سينثيا (بريندا بليثين) والشابة السمراء هورتنسي (بابتيست) عند طاولة مقهى لندني في "أسرار وأكاذيب". هذه المرَّة، تتمّ الجلسة عند طاولة طعام مع أسرتين شديدتي الاختلاف والدّيناميكية. تشع بنتا الخالة الشابتان بالحبور والتَّطامن والائتلاف، ذلك أنَّهما تنتمّيان الى نسوّية جماعيّة صافية (الأمَّ مطلقة)، تصبح قوّة باطنيَّة لعزّة فرديَّة، نلمحها في شخصية كَيلا (آني نيلسون) وإصرارها على رؤيتها التسويقيّة لمرهم تجميل نسائي أمام مديرة شركة بيضاء متشاوفة، فيما لا تتوان أختها أليشا (صوفي براون) العاملة في مكتب محاماة من الاعتراف بزلّة مكتبية "لانّها طبّقت نظاماً خاطئاً تابعاً لشركة "أورنج" في إرسال وثائق قانونيّة". بمعنى أنَّ هذا الجيل العرقيّ "المتأمّرك في سلوكه اليوميّ" قادر في مجتمع بريطاني متزمت بأمبرياليته على المزاحمة، وهي صفة لا يملكها الشاب موسيز المكتفي بالأكل دون أيّ مشاعر أو عزم على التّشارك. هذا الثلاثي ّالشبابي يقابل مثيله من البالغين الذين يخترقهم أسى جازع. شانتيل بلوعتها في مصير شقيقة لا تكفّ عن المناحة والعصابية، وزوج مغلوب على أمره، يبدو أنَّه فقد السّيطرة تماماً على ترويضها أو التحكم بها، قبل أنّ يتعرض الى حادث عمل "يقصم" ظهره، تورية على هزيمته.

لن يتخلّى لي، الذي يحرص كثيراً على استقلاليَّته الابداعية، عن تهكّمه المرير. أنَّه سلاحه في التّحامل على الوزر الاجتماعيّ الذي يجعل من ابطاله ضحايا تواصل سواء على صعيد فردي، كما بين الأختين وابن خالتهما، أو بشكل جماعي كما في المشهد المميّز ذي التّورية العنصرية بين البطلة وسائق أسود السّحنة، يبحث عن مكان لركن سيّارته، وفيه يصبح السّباب بلهجة "مكسورة" وسيلة إضحاك مرير، انطلاقاً من تعابير خاصة متداخلة للتّعيير والانتقاص، تحتاج من مشاهدها دراية لازمة بمرجعيّتها الشعبيّة التّداولية بين أفراد مجتمع وافد يتفاخر بـ"إعوجاجه" المقصود للغة انكليزية دارجة.

* * * * *

 
 

تقنّياً، يصر لي منذ بداياته المسرحيّة على إخضاع ممثليه لنظام قاس وطويل ومرن للارتجال. أنّها وسيلة ثورية وتعاونية الى أقصى الحدود، تُحرّض المؤدّي على رسم شخصيّة مدروسة (لها "أبعاد ثلاثة" كما يصر لي)، لا يجب بالضرورة أنَّ تشبه أحداً في واقع الحال، أيْ إنْ بانسي لا مثيل لها في أيّ مكان، ولا يمكن عدّها إنموذجاً بحتاً لبشر يعيشون محنهم على شاكلتها في مكان ما في العاصمة لندن. من هنا، فإنّ ردود الفعل الأدائيّة في المقاطع الأولى من "حقائق قاسية" بين البطلة بابتيست وأقرانها، تُثبت أنَّ "ترتيب" المواجهات يحتاج الى نظام مدروس ومنضبط وله زمنه الحقيقيّ، يضمن الصِّبغة العرقيّة واختلافاتها البدنيّة، وهو ما يتجلّى بشكل صارخ في مشهد السوبرماركت حيث يضغط صاحب "عام أخر" (2010) شابة بريطانية بيضاء صبورة وقليلة الحركة في طابور الدفع، بين جهامة البطلة ولسانها الذرب وسيدة أخرى سوداء تكرّر حركة يدها على الطريقة الأفريقيّة، كي توكّد على تنديدها بسوء تصرّف بانسي وأنانيَّتها. نشير أيضا الى ذلك التّضادّ الحركيّ بين البطلة و طبيبة العيادة الشّعبية حيث تُخضِع الأخيرة ردود فعلها بترفع برجوازي واضح، فيما "تنفجر" نظيرتها لعلاج الأسنان، وهي من أصول أسيويَّة، مع فعل بدني مختلف تماماً له روح المُنازعة، أمّا العاملة الإنكليزيَّة في متجر المفروشات فتُبقي مسافتها الجسديَّة عن السيدة ديكِن التي تهين الشابة بصفاقة "لا يُعجبني وجهك. لماذا تضعين كُلّ هذا المكياج؟!"، في حين، لا يكون أمام الموظفة  في محلّ البقّالة وهي تستمع الى شتيمة بانسي لها: "انظري إلى نفسك! قومي وجهك! تجلسين هنا مثل شّبح. أنت تتعاملين مع النّاس. تتعاملين مع طعام الزبائن!" سوى أنّ تفتح عينيها على وسعهما بذهول.

إنْ اهتمام لي المُبالغ به فيما يخصّ طبيعة أداء كُلّ ممثل، جعل من اشتغال بابتيست (1976) وسيطاً أكثر منه محاكاة. أنْ بانسي ـ ككينونة مخترعة ـ في جيلاناتها و"حروبها"، إنّما هي "تقنية" ناجعة للا تظاهر، بمعنى أنَّ وجودها وسط جلبة تتسبّب بها قصداً أو لا، تتطلّب من "مؤديتها" غرقاً (أو اندماجاً) مقنعاً بمرّارتها الذاتية التي لا تتطلب تمثيلاً فاقعاً بل لعباً حاذقاً في أسلوب الإلقاء تحديداً، ذلك أنّ بانسي تهذر بالكلام والصريخ والجموح، على حساب أفعال جسديَّة حادَّة. عليه، يكون على مشاهد "حقائق قاسية" أنْ يصرف جهداً معتبراً للاندماج باللّعبة الصّوتيَّة في سينما لي. أنْ الحوارات جوهر خالص لـ"خراب" كائناته وأبطاله الذين هم في غالبيتهم من الشبيبة، وهو أمر تقنّي تتعاظم أهمّيَّته الأدائيَّة بجلاء أكاديميّ، كما جربه الموهوب ديفيد ثيولِس في "عري" (1993)، إذْ جعل من شخصيّة جوني وأسلوب تعاطيه مع الكلمات وإلقائها بتسيب، أقرب الى قدر رجيم ومتحرّك للتّشرد والعزلة الذاتيّة التي عمَّت قطاعات شبابية واسعة بسبب عطالتها وتشاحنها السياسيّ، مع ختام حقبة رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر آنذاك.

مخرج "كُلّ شيء أو لا شيء" (2002)، ومعه مواطنه لوتش، هما ما تبقى من حرفة تقليديّة ناصعة ومستقلة وراسخة، تهتم الى حدّ بعيد بصنع و"خلق" إيقونات تمثيليّة لا تجارى، تتفاخر بمقاطع أدائية أصبحت كلاسيكيات بريطانية بأمتياز، نذكر هنا بمشهد انهيار الأمّ الشابة كيتي (هيلي سكويرز) داخل بنك الطعام، حين تفتح علبة فاصوليا لتلتهمها بحيوانية بعد أيام من الفشل في تأمين وجبّة لها وصغيريها ("أنّا، دانيال بليك"، لوتش). مثله لدى لي، ذلك التّحوُّل الخاطف على وجه فيرا ديرك (إميلِدا ستونتن) حين يلقى القبض عليها بتهمة القتل المتعمّد، كمجهضة للشابات غير الرّاغبات بإتمام حملهن، ومثله ذلك الإشعاع الرّبَّاني على وجه سينثيا في "أسرار وأكاذيب" حين تثبت لها ذاكرتها حقيقة أمومتها للخلاسية هورتنسي (لا بد من الإشارة الى أن المخرج الوحيد الذي جارى قوّة مايك لي في هاتين اللقطتين هو الروماني المميّز كريستيان مونجو في المشهد الأثير لذلك النّور الأنجيليّ الذي يسقط على وجه بطلته الراهبة الشابة مع اكتشافها حقيقة موت صاحبتها المغدورة في شريطه "خلف التلال"،2012)، ولن نغفل تلك المواجهة العصيبة بين الشابة نيكولا ووالدتها ويندي بشأن اقتراب الأولى من الموت إنتحاراً في "الحياة حلوة" (1990)، والتي كرست جين هاروكس وأليسن ستيدمان ثنائيّاً مجيداً، كُلّ هذه النماذج والكثير غيرها هي لحظات بصريّة مُصمَّمة بعناية ودراية بالغتين، ترسخ أسلوبيّة المخرج لي وهاجسه الدراماتولوجي الذي لا يضاهى. 

* * * * *

ترى ما هي الحقائق في فيلم لي؟ أولاً، أنّ التّباين المكانيّ بين منزل بانسي وشقة شقيقتها يملك إشاراته الى تّفاوت بين مورديهما. تعتمد الأولى بشكل أناني على عمل زوجها المضني والعبودي النّزعة (سّباك)، ما يبرّر في إحدى وجوهه نكّستها الأخلاقيّة وسخطها، إذ ليس هناك علامة ما على مرض أو انهيار نفسي تعرّضت له. نتعرَّف عليها عبر صرخة كابوس توقّظها من نومها في مفتتح الشريط، لتوجه سيولاً من شتائمها، وهذا كُلّ ما في أمرها!. إنْ بانسي ضحية أناها وبطرها الشخصي. أمّا أختها التي تملك صالون حلاقة للسّيدات، وهو مقصد مكاني يقدّمه المخرج لي بمثابة محجة أناث، ينفثن فيه نميمتهن، ويفرغن تشفيهن، ويتسقطن مشورات عاجلة حول حب عابر أو ليلة شبق ممكنة!، فهي امرأة متأقلمة وأكثر عصامية ووضوحاً وأمومة. شقتها على قدر من التنظيم والحيوية رغم أنّها تقع في طابق علويّ، وكأن تصميم البناية يتمنّع من صعود بانسي اليها وتدنيسها.

ثانياً، إنْ سينما لي معنيّة الى حدّ واسع النّطاق بجغرافية لندن، فهو قالما يخرج عن أحيائها وشوارعها وبيئتها، لتصبح بذلك منظراً توكيديّاً على أنّ التّغيير العمرانيّ ـ وهذه حقيقة بينة ـ لن يخترقها بيسر أو عجالة. أنْ القانون يحمي بلا هوادة بنيَّتها المعماريَّة وطوبوغرافيتها. عليه، يحرص المخرج لي على أنّ تكون الأحياء عنصراً طبقيّاً أساسيّاً، فالمنطقة حول محطة قطارات كينغز كروس التي تربط العاصمة بشمال البلاد هي ساحة عراك يومي لطبقة عاملة تعاني من عطالة وجوع وتّقشّف في "أمال عالية" (1988)، وإنْ متنزه برومروز هيل في شمال المدينة، يتحوّل الى رحم نباتيّ شديد الخضرة، تجد فيه الصديقتان آني وهانا عودتهما الجنينية الى براءة ستّتفكك لاحقاً في "فتيات عاملات" (1997). أمّا المنطقة الجنوبية الشرقية من العاصمة التي تمتاز بوضاعتها، فتشهّد محن سائق سيّارة الأجرة فِل(تيمِثي سبول) للحفاظ على وحدة عائلة، تنتظر إنهيار أواصرها بسبب الغدر الاقتصاديّ الحكومي، وشحة مال معونته الاجتماعيّة في "كُلّ شيء أو لا شيء" (2002) . إنَّ النماذج المتنوّعة للأماكن في سينما لي هي خشبات ممسرحة لحيف طبقيّ، ينال بقسوة لا ترحم من مواطنين مسحوقين ومهانين.

ثالثاً، إنْ الدراما هنا غير مفبركة، فعبّر خبرة استقصائيّة طويلة يختصرها المخرج لي بقوله: "أقف على طرف خارجيّ. أنا أراقب من مسافة بعيدة"، ينتقي على الدوام ما يراه الأكثر غلاً سياسيّاً وانحطاطاً اجتماعيّاً، ويعمل على تطويره طوال فترة التّدريبات. فهو لا يكتب سيناريو كليّ أو شامل، بل يحرض الجميع ضمن سياسة تعاونية على إعادة الصّياغات بكُلّ أوجهها. لذا، فإنّ شخصية بانسي تتعقّد ملامحها خلال مراحل الإعداد، أيْ أنها ليست ممّنهجة مسبقاً، الأمر الذي يُفسّر إصرار الشّريط على جعل المحيط متألقاً لكن النفوس مدحورة ومتلافة لعواطفها.

في اللقطة الأولى، يقدم الثنائي لي/ بوب حيّاً لندنياً، وكأنه قطعة من فردوس أوروبيّ. تراقب الكاميرا الزوج كوتلي مغادراً منزلاً مرفّهاً، لكن ما أن ندخل الى غرفة المنام، نتعرّف على امرأة نعارة، تخشى الحيوانات والبشر و...نفسها. تلعن تراتبات اجتماعية وحكوميّة، على شاكلة متطوِّعي الإحسان الذين تتهمهم بـ"الاحتيال"، أو الشرطة التي "يضايق أزلامها الفتية السود"، أو الأمهات الإنكليزيات وأطفالهن المرتدين معاطف بجيوب كثيرة: "ما فائدة وجود جيوب لطفل؟. ماذا سيحتفظ به في جيبه؟. سكين؟. أنّه أمر أخرق". دارة بانسي هي سعير دراميّ اجتماعي، لن يسمح للخارج بقوانينه وتناظراته الانسانية من عبور بوابته الى الداخل. كما إن بانسي لن تقبل بالاختراقات لكنَّها تجيز لنفسها "تخريب" أمان الأخرين ممن لا يجدون مفرّاً سوى الهروب من مواجهات محمومة. هذا بالضبط ما يدفع بالابن البدين موسز الى تفضيل الانزواء، قبل أن يقوده لي بمعجزة، في ختام شريطه، الى قلب ميدان البيكاديلي (أشيد عام 1626) حيث يحقق أول تواصل طبيعي مع فتاة سائحة عند درجات نافورة شافسبيري الشهيرة بشاشاتها التلفزيونية العملاقة. وهي إشارة بليغة من كاتب مسرحية "حفلة أبيغيل" (1977) الى أنْ التأخي صفة لن نسمح بضياعها، كما فقدتها بانسي التي نراها في لقطة جارحة، وهي جالسة سجينة عزلتها ووحدتها، يحيط بها صمت مطبق، يعلن أنْ نَعَرها العرقيّ بلا طائل.

سينماتك في ـ  26 فبراير 2025

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004