"العالم ورشتي، وليس بيتي"عبَّاس كيارستمي(1940 ـ
2016)
باكورة الشاب الإيراني علي يار راستي "التّثاؤب
العظيم"، روح متجدّدة لعقيدة صاحب "طعم الكرز" (1997)
المعلم عبَّاس كيارستمي التي تنظر الى الطبيعة
"باعتبارها حقيقة الحياة"، ذلك أنَّ كُلّ ما يجري فيها
وعلى أرضها المترامية، يحمل عنوان سيروراتنا
البشريَّة، مثلما هي مثاوينا المنتظرة ـ بصبر ربَّاني
ـ رحيلنا الأبديّ وساعته وطامته.
يتشبَّه بطل راستي بقرينه آقاي بديعي (همايون أرشادي)
كونهما في أواخر الثلاثينات من عمرهما, مستوحدان،
أعزبان، يملؤهما وجلّ ضميري من فشل ينتظر كُلّ فعل
لهما، أو الإقدام على التّخطيط له بل إنجازه. يناور
رجل كيارستمي انتحاره، فيما يتحايل بيت الله (محمد
عاقبتي) على موت مؤجَّل عبر البحث عن كنز ذهب في كهوف
جبلية في أمكنة مختلفة في الجغرافيّة الإيرانية.
يجول بديعي/ كيارستمي عند أطراف طهران وتلالها،
مناشداً إرادات بشرية من خلفيّات عرقيَّة متعدّدة، لها
منابت طبقية متضاربة، وثقافات متنوّعة لمساعدته في
تحقيق فكرته المجنونة، أنْ يهيلوا التراب والحجر على
جسده، ويطمروه مرَّة والى الأبد، بيد أنَّ "هؤلاء
المواطنين" يجتمعون على قناعة حاسمة لا يطالها شكّ أو
جسارة سؤال: الانتحار فعل حرام، ضدّ الشريعة والسُّنة،
بل هو اشتراك وتورط في ارتكاب جريمة. هذه الكلمة
الأخيرة، تصبح مفتاحاً استعارياً لـ"ألعاب حوارات"
يستخدمها بطل راستي لتبرير إصراره على المهمة
وإكمالها.
*****
في مفتتح الشّريط، يُعلِم بيت الله أحد المتطوعين
للعمل معه، ومرافقته للبحث عن الثروة: "سنقتل شخصاً
ما. هناك ثروة في منزله". يستفسر الصبي:"هل علي القيام
بالمهمّة؟"، يرد عليه بخبث:" هل تفضل عدّ المال بدلاً
من ذلك؟". لن تتحقّق الى بديعي/كيارستمي ميتته، إنّما
يجد الهداية لاحقاً في قلب الطبيعة ونتاجها وطعمه
الشّافي. فهو حسب الرؤية السينمائيّة لـ"طعم الكرز"
شخص يبحث عن إمكانيّة حذفه ككينونة، إلا أنْ "وجوده"
كتاريخ بشري يعني أنّه غير قادر على "فسخ" عقده مع
الطبيعة وناموسها، الإيمان وأركانه، البلاء ودرجاته،
فالأخرون سيبقون الى أمد بعيد يعيدون ذكراه حين
يترحّمون على روحه، أيّ هو باق غصباً عنه بإرادة خلانه
ومحبيه وأقارب وحاشيته.
على المنوال ذاته، يجد بيت الله/ راستي إنْ شطبه من
يوميّات خيبته لن يتحقّق بسهولة، إذ لا يمكنه طلب
أوحتى ترجي "نقض" سيرته الخائبة من سكان مدينة مزدحمة،
بعضهم وصل الى حالة من هذيان قسريّ، كما بدا في مشهد
عابر لكن مرير بإشارته لرجل يخاطب العابرين من حوله
"هل ترغبون أنْ أكشف لكم ضعفكم، عن كيف فقدتم عقولكم
حين وصل البلاء الى بناتكم ونسائكم"، غير أن هذا اللا
بطل الكثيف الشعر يفاجئنا بحيلة ماكرة.
في دارته المتواضعة، يقوم بيت الله بأفعال يوميَّة
أقرب الى الّتبلد. ينام ويأكل ويترك مذياعاً يصوّت
أشعاراً ويستحم... بل أنه يقف جامداً وهو يستمع الى
خرير ماء صنبور مطبخه. هذه الفقرة الافتتاحيىة التي
تستمر أربع دقائق، تكشف عن رجل جبار الجسد مكلوم
بوحدته. نخمِّن من حركاته البطيئة أنّه بلا دوافع
حقيقية للعيش. فجأة، يكشف عن رزمة من أوراق ماليّة من
فئة مائة دولار أميركيّ، ويخط فوقها عنوان منزله،
ويرميها بحذر وبإختيارات مدروسة في أماكن تجاريّة حول
المحطة المركزيَّة في العاصمة طهران، مستهدفاً
"إصطياد" زبائن عابرين، نراهم لاحقاً أمام بابه،
خاضعين الى إستجوابات تشكَّك بـ"يقينهم" في مقام أول.
يسأل "هل تؤمن بالمعجزات؟"، "هل تؤمن بالخطأ والصح؟"،
"هل تمد يد العون للاخرين من دون مقابل؟". شباب
أكاديميون وخريجو معاهد عالية وحرفيون ماهرون، يكشفون
عن عطالات مزمنة بسبب انهيار اقتصاد مع تصاعد عقوبات
أميركية عنيدة، وحصارها السّاعي الى ارضاخ أمة ذات
عقليَّة أمبراطوريَّة.
*****
يتّخذ المخرج راستي (1988) الذي حضر دروساً سينمائيّة
نظمها كياروستمي وأشرف عليها قبل رحيله، هذه التقاطعات
الكلاميّة التي وظبها المونتير الموهوب محمد نجاريان
بمثابة اعترافات شخصيّة قصيرة مفعمة بأسى دراميّ، كون
فتوتهم وشكيمتهم ـ وليس أنفتهم ـ يتم اختراقها وكسرها
من قبل قوى ثيوقراطيّة محليّة، وأخرى أمبرياليَّة
خارجيّة لا تقبل سوى بالإستسلام. لا ريب أنَّ مشاهد
"التثاؤب العظيم" (نعتمد ترجمة العنوان الفارسي
"خميازه بُزرك" من دون أضافة كلمة "التاريخ" كما في
الأسم الإنكليزي) قد يعتبر أنْ ما يقولونه هو إزدراء
مقنّن لمعيشة تتصاعب أمورها بقرار خارجي، إلا إنَّ
دولارات بيت الله تشكل مرجعيّة لا يطال لها شك لمَنْ
يتسبَّب بهوان اقتصادي واجتماعي لملايين من الشبيبة
الإيرانيين. إنْ اندفاعهم الى باب "صاحب الإعلان"
الغامض الدوافع لا يعني فقط حاجتهم الماسة لمورد يومي،
وإنّما التوكيد على تماسك إيمانهم بالحياة باعتبارهم
أتقياء، أي أنهم يتبعون "القول الثابت في الحياة
الدُّنيا وفي الآخرة" (سورة أبراهيم)، ويجمعون بشكل
حاسم على رفض ارتكاب المعصية وخطاياها، ما عدا شاب
واحد له طلة صهباء تُشْبهُه بسائح أوروبيّ. هذا هو
شجاع (إداء لافت من الممثل الفطري أمير حسين حسيني)
مواطن مفلس وبلا مأوى. نكتشف لاحقا أنّه يتيم "لكنّني
لست لقيطاً"، يقول بإصرار. يقبل التكليف كذريعة منادمة
عابرة، فهو أقرب الى متشرد بلا هوية واضحة، أو مرجعيّة
اسريّة أصيلة.
يشارك قائده رحلة طويلة تقودهما الى منحدرات جبليّة
وحقول أرز وحفر عملاقة وجرود شديدة الإنحدار بحثاً عن
"وعد" بثراء ذهبيّ. مهمّة الشاب أنْ يدخل الى الأعماق
ويظفر بصندوق العملات، ليتقاسماها مناصفة. أهما
مُؤتمنان على الصَّفقة، ومَنْ منهما هو المَعْيُوب؟.
مَنْ سيبادر بالمكيدة، ومَنْ سيكون المَغْبُون؟.
معتمداً على خيارات واضحة لسيناريو مكتوب بعفوية
ومباشرة، لن يتسامح راستي لنوازعهما أن تطفو بعجالة،
محملاً ورشة الطبيعة وأحكامها وتكبّرها ومفاجآتها همّ
البحث عن جنايات مخبوءة في أعماقهما. أدَّاة المخرج
الشاب لهذا الغرض حربة سردية لها رأسان:
*من جهة، يختبر ميزان الجبروت بينهما عبر حواريّات
معقدة ـ رغم تباسط لغتها وأرتجاليتها خلال التصوير ـ
تصبُّ في الغالب حول أفكارهما ونزاعاتهما الفطريَّة
بشأن سنة الحياة. يصر القائد بيت الله على أنَّ الشاب
فشل في إيجاد عمل ما، وضمان رباطه، لأنّه بلا إيمان.
"ماذا يعني ذلك؟" يسأل شجاع، قبل أن يحصل على أشارة
تزهّد حاسمة من الأخر الغارق في شكاسته: "لأنك لو
توسَّلْت الى الله، لوجدت عملاً في الحال". الحاسم،
أنَّ الشاب لا يستعجل أمره، يساير فصول الرحلة بصمت
كونه لم (ولن) يخسر شيئاً حتى الأن، فيما يتصاعد
الشّكَ في كيان القائد لأنَّ حلمه الذي يقوده الى مكان
الكنز بدأ بالتّداعي، حتى وقوع صرخته الشّهيرة
المتأسّية بما أورده صموئيل بيكيت على لسان غودو في
المسرحية الأثيرة: "اللعنة!، ليبلعني الجبل، ضيَّعت
حياتي في سراب وهذيانات".
*من جهة ثانية، يجعل المخرج راستي من بشر غرباء يمرّون
أو يجالسون أو يتعقّبون أو يستضيفون البطلين، وكأنّهم
إشارات الى تخالس مبيت، ينتظر أوبته كي يجعل منهما
كَفار حقوق. بيت الله مع جحوده لاحقاً بما كان يعتقد
أنه حُرْمَة... فطنته!، وشجاع مع اصراره على إنكار
ورطته بما كان يراه فرصة إنقاذ من تسيّب شخصيّ. وحدها
تلك السيدة العاملة في حقل الأرز (مهين صدري) ترصد
محنته، قبل أن تعرض عليه عملاً قارّاً ومأوى ثابتاً:
"هو يستغلك"، تهمس له بثقة بين خوار أبقارها: "أنّك
تضيع جهدك في تطوّافك معه".
***** |