سنوات الكساد
سطوة
التلفاز
وهيمنة سينما هوليوود
عانت السينما الايطالية منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين وحتى
بداية تسعيناته أزمات خانقة حاصرت أتجاهاته الجادة والمؤثرة في
مسيرتها، ومكنت النزعات الهابطة والتجارية من ان تطفو فوق
سطحه، بعد عقود طويلة من التفوق على صعيد السينما العالمية.
حال السينما الايطالية في هذه الفترة يشبه الى حد ما موت
الارستقراطية الصقلية في فيلم فيسكونتي (الفهد)، فأغلب
المنتجين هاجروا الى أمريكا او عادوا الى ديارهم، بينما انشغل
مخرجيها الكبار كـ(فيلليني وأنطونيوني) بالعمل في افلام
تلفزيونية وثائقية، وطار برتولوتشي نحو الصين بميزانية
هوليوودية لتنفيذ فيلمه (الإمبراطور الأخير)، لقد انخفض رصيد
الانتاج السينمائي الايطالي مقابل إيرادات عالية لمجمل
المستوردات الخارجية، فيما وجه مخرج مثل كومينشيني نعيه بان
السينما الايطالية ميتة، في مؤتمر عقد بمدينة بارما الايطالية
حين وقف وقال لزملائه ((أيها السادة دعوا النفاق جانباً ولنعلن
موت الواقعية الايطالية))
[1]، لافتة النعي هذه
قد تكون مبكرة بعض الشيء قياسا لسينما تحاول بشق الأنفس ان
تكون سينما ضاجة بالحياة، هؤلاء المخرجون رفضوا وبشدة ان تسقط
السينما في بلدهم بأيدي مجموعة من عديمي الذوق يمارسون اللعبة
لمجرد الكسب المالي.
إن السبب وراء تدهور السينما الايطالية اولا هو التلفزيون بسبب
وجود الشبكات الخاصة ومئات المحطات التلفازية إضافة إلى
القنوات الحكومية، ومثل هذا الكم من القنوات طبعا ستكون لديها
شهية خاصة للأفلام والمسلسلات التي تستوردها من المملكة
المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا، لقد توزع اغلب المخرجين على
دول اوربية فيما اتخذ الآخر طريق الاستقرار والاعتكاف، وهجرت
دور السينما حيث أغلقت أكثر من 1400 دار عرض أبوابها، ليطلق
فيلليني مقولته الشهيرة ((إن إغلاق دار سينما حدث مؤلم مثل
إغلاق كنيسة))
[2]، في بداية
سبعينيات القرن الماضي كان عدد مشاهدي السينما في ايطاليا
يتجاوز عدد مشاهدي فرنسا وألمانيا الغربية وبريطانيا مجتمعة،
أما بعد ذلك فقد هبط العدد الى ما تحت الربع، وهي سمعة سيئة
قياسا إلى سمعة ايطاليا كبلد منتج لأعلى معدل من الأفلام، في
السنوات اللاحقة للحرب الكونية حين فرضت الواقعية الجديدة
رؤيتها على اغلب مخرجي العالم، ولم ينج من موجات السينما
الهابطة في السبعينيات سوى الأخوين تافياني، والمتفرد (ناني
موريتي) الذي يعد بحق الوريث الحقيقي للواقعية الايطالية[3]،
وبعض أفلام زيفريللي وماركو فيريري، بيد أن المخرجين الناجحين
والجادين كانوا استثناءً وليسوا قاعدة، إذ غلبت على صناعة
السينما الايطالية أفلام الكوميديات الهابطة، والعروض
التاريخية الكاذبة، وأفلام الغرب الايطالية (وسترن سباغيتي)،
التي تدين بالكثير للأدب الفرنسي. أذا استثنينا منها أفلام
سيرجيو ليوني (من اجل حفنة من الدولارات) ثم (من اجل المزيد من
الدولارات)، فأفلامه تختلف عن باقي أفلام مخرجي الكاوبوي
الآخرين، ((كونه يتطرق لموضوعات البحث عن الترفيه السينمائي،
وينجح في ذلك فتكوينات اللقطة ، إضافة للديكور والملابس تسهم
مجتمعة في إعطاء نكهة ما، لاهي من الواقعية ولا هي من استذكار
التاريخ الصارم، انما هي رؤية لنوع سينمائي ما عادت السينما
تنتجه في أيامنا هذه))[4]
كما انه لا يكرر نماذجه الفيلمية رغم كل نجحاته فهي تأخذ نفس
الحالة وبروحية واحدة لتصب بالتالي في بوتقة واحدة، ظهر ليوني
بدور صغير في فيلم (سارق الدراجة) ثم عمل مساعد مخرج مع (وليم
وايلر)، ومثل مخرجو الموجة الجديدة الفرنسية (تروفو، غودار،
شابرول، رومير) الذين اتخذوا من الأعمال الأمريكية مرجعاً
للمساتهم الفيلمية كان ليوني الوحيد الذي استلهم السينما
الامريكية وأظهر سيرورة حياتهم على حقيقتها، وما عدا أفلامه في
تلك الفترة لا يستطيع المتلقي مشاهدة افلاماً تتناول الواقعية
لان اغلب اعماله تجسد الواقعية وبصورة غير طبيعية وخاصة فيما
يتعلق بأساطير الكوابيس الأمريكية، تناول ليوني قصصاً تحكي عن
الأبطال والأشخاص الخارقين والخرافيين، وامتاز عالمه بمواجهة
مرعبة ومخيفة للحياة والوجود، فهو يؤمن بان الإنسان ضعيف
ومقاييس رجولته وشجاعته هي بمقدار ما يمتلكه من قدرة على
الكفاح والنضال والقدرة على تحدي الصعاب، في فيلميه (الجيد
والسيئ والقبيح) كانت ثلاثية الغرب الامريكي هذه هي جواب
لأزمات مولودة من الفاجعة على الرغم من كونها ليست صوراً لقلق
جمالي ودراسة أكاديمية محضة، فلغة ليوني الشعرية في مسيرة
وجدانية تملك مادة رؤيوية لا تطول الى نزوات الفكر التجاري
السطحي منذ أن أختط خطاً صعباً متطلباً في غنى وعمق متساويين
مع النفس ، وولادة ترأس أقتفاء الذات وتموجات القدر والآفاق
المستباحة ، ثم (حدث ذات مرة في الغرب) وتالياً فيلمه (حدث ذات
مرة في أمريكا) قدم رؤية لنهاية عوائل عن طريق لمسة شيطانية
دخلت قلوب بعض الشخصيات الذين يمتلكون قدرة هائلة على إنهاء
عائلة بكاملها باطلاقة رصاصة واحدة، قد يقدم كثير من المخرجين
على عمل افلام متشابهة لما يعمله سرجيو ليوني ولكن تبقى القوة
التي يضيفها على أفلامه لا ينافسه فيها مخرج، يرتكز ليوني في
أفلامه على وجوه الشخصيات وبالذات العيون التي تعكس كل
الانطباعات والتشنجات وحتى الحزن وهو بالتالي يسعى لعكس تلك
المشاعر التي قد يتفنن البعض في إخفائها، كما اعتمد على شخصية
الممثل وإظهار ردود أفعاله، لذا فأفلامه لا تخلو من لمسات
مرعبة حتى في لحظات الكوميديا ((إنه شاعر الازمات والمواقف
الصامتة والتحولات العاطفية، يمهد عبر كل مشهد لسحر الفعل
السينمائي الشعري الذي يجعله يشق درباً نحو الممالك المضفورة
بصورة الذات حتى اكتشافها))[5]،
سينماه مولودة من حالات شديدة الخصوصية تتضمن لغة تلائم حالات
النفس بغية خلق مبررات كافية لتحويلها من ضفة لأخرى.
وبقيت موجة الافلام الهابطة هي السائدة، وأصبح من النادر رؤية
اكثر من فيلمين ايطاليين في مهرجانات السينما العالمية، فيما
بات اكبر ايرادات الـ(شينا شيتا) يأتي من صنع أفلام تجارية
تلفزيونية وهي بالطبع لا تساعد على احياء سينما متكاملة، مقابل
لوم وعتب وتساؤل من صناع الأفلام ونقاد السينما عن ما اصاب هذه
السينما العتيدة، ليرد على ذلك مخرج أمريكي من اصول ايطالية
(فرانسيس فورد كوبولا) بقوله ((على هذه الأرض ان تستريح الآن))
وكأنها في مرحلة مخاض ولتدخل العصر الجديد برؤية سينمائية
جديدة وجيل مختلف ولد من رحم الازمات والتطورات التي حدثت في
العالم لتعلن ولادة سينما جديدة تحاول ان تسطر واقعيتها
الجديدة بوجود مخرجين ناضلوا من اجل ذلك مثل باولو
وفيتورتافياني، وناني موريتي الذي يعد الأمل للسينما الايطالية
بعد النكسة التي مرت بها، محاولا عقد الصلح بين الجمهور
والسينما، وليكون الناطق الرسمي للجيل الجديد ورث موريتي
((النقد الاجتماعي عن ايتوري سكولا ودينو ريزي لكن اسلوبه
يختلف بالاقتصاد والاقتضاب وسهولة الشكل وغنى المحتوى وذكاؤه
يتجسد ببدء المشاهد الكوميدية ليعرف كيف ينهيها وكيف يخلق جوا
من الإنسانية دون فجاجة في مواقف البكاء))[6]،
وهو شيء نادر قلما رأيناه في مخرجي السينما الايطالية، ويعد
فيلمه (انتهى القداس) افضل صورة عن عالم ماتت فيه القيم
والمبادئ، وهو اول فيلم من افلامه يبتعد فيه عن السيرة الذاتية
التي طبعت مجمل افلامه الاولى، القس (دون جيلو) يعود الى قريته
بعد سنوات قضاها بعيدا ويكلف بالاشراف على كنيسة هجرها القس
السابق، هناك يلتقي بأصدقاء الامس الحالمين مثله بتغير العالم
فاذا بالعالم يغيرهم، أحدهم تحول الى ارهابي، والآخر انقطع عن
العالم ولم يعد يخرج من بيته، والثالث ترك ماركسيته ليتجه الى
الدين، ورابعهم ترك شؤونه الدينية ليكرس نفسه لحياة زوجية
قاسية ملبدة سماؤها بالغيوم، وخامس ثوري سابق يبيع اليوم كتبه
الثورية بأبخس الأثمان، وعائلة دون جيلو هي الاخرى ممزقة،
الوالد يخون الام مع فتاة شابة، الام تنتحر، الاخت حامل من شاب
لم تعد تحبه، القس يذعر لأحلام الشباب التي ماتت، والكل يلتجيء
اليه طالبا النجاة، ولكن هذا لا يمنع من تفجر الوضع حوله،
يصيبه العجز، ويصبح مجرد شاهد على الفوضى والخراب وقلقه يقوده
الى انهيار عصبي ويتزعزع ايمانه، يعاتب جثة والدته، يضرب اباه،
ويعنف اخته لأنها تريد اسقاط الجنين، هو مثل اصدقائه اخفق ايضا
يتجلى ذلك بوضوح في مشهد قداس الاحد الذي يلقيه امام الكراسي
الفارغة التي في الكنيسة، لا يبقى له سوى الرحيل الى مكان لم
تفسده الحضارة بعد، يقدم قداسه الاخير في حفل زفاف.
- لم استطع مساعدتكم، لكني حاولت، شكرا، انتهى القداس.(*)
فيما قدم سكولا فيلمه (سبلوندر) الذي اعلن فيه مخاوفه أزاء
انحدار السينما وتراجعها أمام (آلة التهام الوقت) التلفزيون،
هذا الجهاز الذي يطغي على أبصارنا واصواتنا في حين يجعلنا ظلام
الصالة السينمائية نفكر ونتأمل في عالم بعيد، في لقطة تتجاوز
حدودها نحو الرمزية يفتتح سكولا فيلمه بشاحنة السينما الجوالة
وهي تقف وسط القرية وثمة صبي يحمل مقعده الخشبي ليتقدم باتجاه
قطعة القماش البيضاء وهي تهتز بفعل الريح، هكذا يدخلنا المخرج
مباشرة نحو عالم السينما عبر ثلاث اجيال، مالك صالة سينما
سبلوندر الذي ورثها عن أبيه نجده حائرا مثقلا بالضرائب ويفكر
ببيع الصالة لاحد الاثرياء في المدينة لغرض تحويلها الى محطة
تلفزيونية محلية، أحداث الفيلم تبدأ في سنوات نهاية السبعينات
حيث تشتد أزمة السينما الايطالية عبر ذكريات الشخصيات الثلاث
وقصة لقائهم وتقاطع مصائرهم عبر مصير صالة العرض هذه، أيضا جاء
اختيار سكولا للمثل مارسيلو ماستروياني اختياراً رمزياً لممثل
أمضى اكثر من نصف قرن في مهنة السينما بحيث أننا لا نتذكر
السينما الايطالية دون ان نتذكر ملامح وجهه التي طبعت الشاشة
وذاكرتنا، فهل اصبحت السينما مثل كتاب يعلوه الغبار، لنستبدله
بالتلفاز وبأكوام من المسلسلات الهزيلة التي يستهلكها الجمهور
وهو قابع بين جدران العزلة لتمضية الوقت ليس ألا؟ مرثية لجيل
ثوري ماتت ثوريته ولسينما كانت يوما قبلة العالم ماتت قيمها
الآن امام اغراء التجارة والتلفزيون.
نهاية القرن... الصحوة
يقظة الجيل الجديد
نفس الثيمة والمرثية ظهرت مع بداية التسعينات من القرن
المنصرم، حين قدم جوسيب تارانتوري فيلمه (سينما الجنة) عن
ذلك الحلم الجميل الذي مات، حينما يحظر سلفاتوري لتشيع
جنازة فرناندو وكأنه جاء لتشيع دار العرض الوحيدة في
القرية، بل جاء لتشيع القرية كلها والتي كان فرناندو شاهدا
على العديد من احداثها، لقد (أدار الجمهور ظهره ولم يعد
احد يأتي الى السينما لمشاهدة العروض كما في السابق)(*)
هكذا ردد فرناندو آخر كلماته.
لقد ظهر جيل جديد من السينمائيين الايطاليين الشباب
الحالمين بإعادة أمجاد سينما الواقعية الجديدة خصوصا وان
ممارساتهم تحمل تميزاً وغنى وتنوعاً أكثر من الجيل القديم،
يحاولون تقديم وجه ايطاليا الأخرى خلف صورة مطاعم البيتزا
وفرق كرة القدم، ليكشفوا ما موجود تحت القاع، غنى التجربة
الجديدة تكمن في التنوع وتعدد الرؤى، وقدرتها على دمج
خطابها بمواقف سياسية واجتماعية نقدية، كما في افلام
(غومورا) و(الالوية الحمراء) و(نسيان باليرمو)، وهذا ما
اكسبها طعم ولونا جديدين، خصوصا اذا عرفنا ان هنالك
مصطلحان سادا الوسط السينمائي الايطالي هما (سينما
المافيا) و(السينما السياسية)، يضاف الى ذلك وجود اسماء
مخرجين كبار يحاولون ان يستمروا في مسيرة السينما (الاخوة
تافياني) (ناني موريتي) (جوسيب تارانتوري) (ايتوري سكولا)،
بعض النقاد يرى في هذه الموجة من الافلام لا تعدوا سوى
موجة ستغادر سريعا وهي تحت تأثير اغواء السينما
الهوليودية، فهي افلام لا تختلف في شيء عن افلام الويسترن
سباغيتي طالما الصراع هو بين مجموعتين من العصابات، فيما
رأى البعض الآخر هي موجة جديدة ستضاف الى موجات السينما
الايطالية بصورة السينما السياسية الجديدة، كونها تعالج
الانسان الجديد وظروف حياته وحقه في العيش، فالسينما
السياسية هي التزام وموقف فكري واخلاقي ضد الابتزاز
والتخلف والجريمة المنظمة، فالسياسة هي علم تغير الواقع،
ومعرفة القوى المتحكمة بحركته، هذا النوع من افلام الموجة
الجديدة الايطالية، ستتضح هويته السياسية مادامت تجنح الى
النقد الاجتماعي، رغم انها شبيهة بعض الشيء بأفلام
العصابات الامريكية التي كانت جزءا من تاريخ أمريكا الخاص
في ثلاثينيات القرن المنصرم ايام (آل كابوني)، فرجل
العصابة هنا هو اشبه برجل المافيا الذي يجابه كل المخاطر
من اجل حلم الشباب.
أن التحولات السياسية في ايطاليا بعد سقوط الجمهورية
الاولى بداية التسعينات ونشر الفضائح التي ارتبط بها كبار
السياسيين في الحزب الديمقراطي المسيحي، ممن قادوا البلاد
لأكثر من اربعين عاما، اعتبرت دافعا قويا للسينمائيين
الشباب لتناول مواضيع كثيرة محرمة وتحمل تبعات خطيرة خصوصا
اذا كانت تتحدث عن علاقة السلطة بالمافيا، بل ان البعض ذهب
بعيدا الى نحو الهموم السياسية العالمية الاكبر كما في
فيلم المخرج (كوستانزو) الموسوم (خاص) والذي رصد فيه مشاكل
الاحتلال في غزة، من خلال بيت منعزل في الارض الحرام بين
قرية فلسطينية ومستعمرة إسرائيلية، تسكنه عائلة فلسطينية
استولى عليها الجيش الاسرائيلي، والحكاية ذات بعد رمزي،
فمحمد وزوجته وأطفاله الخمسة، يعيشون في بيت واحد مع جنود
الاحتلال الذين يسكنون الطابق العلوي بعد رفض محمد ان يترك
البيت ويهاجر، هذه الحكاية استهوت كوستانزو، بعد ان كانت
النية التقاط صور توثيقية للفيلم قرر تصوير الفيلم بأكمله
في قطاع غزة مع اطفال حقيقيين من نابلس.
فيما حاول البعض الآخر من المخرجين تقديم ثيمة اجتماعية
على الطريقة الامريكية تارة وبلمحات من السينما الفرنسية
تارة اخرى، كما في فيلم المخرج (جيوسيبي بيشيوني) الموسوم
(جوليا لا تواعد في المساء)، عن روائي مرموق مرشح لاستلام
جائزة عالمية يعيش ازمة منتصف العمر فيهجر زوجته وابنته
ليتفرغ لكتابة روايته يقع في غرام معلمة سباحة ابنته
(جوليا) التي تهبه الابداع ولكن تخفي خلف جمالها سرا، ندرك
انها مدانة بجريمة قتل عشيقها بعد ان تركت زوجها وابنتها
من اجله، حاول المخرج التركيز على الابعاد الاجتماعية
وازمة البطل النفسية، وعقدة الذنب عند جوليا، مركزا على
قيمة الاسرة واثرها الانساني على باقي القيم الاخرى
كالشهرة والمجد، أو كما في عواقب الحب، فيلم المخرج باولو
سورنتينو المرشح لسعفة كان الذهبية مليء بالحيوية
والعنفوان ،فموضوع الفيلم أساساً يتحدث عن شخصية كتومة
وخجولة، بينما الفيلم في ذاته صاخب وسريع.
في المشهد الافتتاحي التعريفي نجد تيتا دي جيروليمو
الشخصية المحورية في الفيلم يجلس وحيداً في المقهى لينطق
بأول جملة في الفيلم (أسوأ شيء هو أن يقضي الرجل الكثير من
الوقت لوحده.. مفتقراً إلى الخيال) جملة توصف حياة تيتا،
الرجل الخجول والنادر التحدث، والذي يجلس يومياً في
الحانة، يقابل نفس الأوجه، ولا يرد التحية أبداً، شخصية دي
جيروليمو تعد واحده من أهم الشخصيات السينمائية، فيها
الأسرار الكثيرة، اللامبالاة، غرابة الأطوار، مضيفاً عليها
الممثل توني سيرفيلو الشيء الكثير، شخصية مكتوبة بشكل
ممتاز، ومجسدة بشكل أكثر من رائع.
عمل المخرج باولو سورنتينو يميل إلى الأسلوب الهولييودي
أكثر من انتماءه للسينما الأوروبية الهادئة، فالكاميرا
تتحرك بشكل دائم وسريع، والموسيقى لا تتوقف في غالب أرجاء
الفيلم.
وأرى ان افضل افلام هذه المرحلة هو فيلم المخرج (ماركو
توليو جوردانا) المنتج عام 2004 (الافضل شبابا) الذي يمتد
الى مايقارب الـ(6) ساعات، فإذا كان برتولوتشي قد قدم
ملحمته (1900) وفيه استكمل حلمه باكمال ما بدءها فيسكونتي
بفيلمه (الفهد) فان فيلم المخرج جوردانا هو تكملة تاريخية
لفيلم بيرتولوتشي، الفيلم يستعرض تاريخ احدى العوائل
الايطالية، من منتصف ستينيات القرن المنصرم وحتى مطلع
الالفية الجديدة، وما رافقها من تحولات واحداث على صعيد
الامة الايطالية، التي كانت وحتى منتصف أعوام الخمسينات
بلدا زراعيا، ولكن مع مطلع السبعينيات غادر أكثر ممن
يعملون في الزراعة بجنوب البلاد نحو المصانع في شمالها،
وأدارت الحكومة ظهرها للجنوب وغرقت البلاد في مطحنة
الرأسمالية، لتستكمل الحكاية حكاية الجنوب البائس الغارق
بالجوع والفيضانات، ومثلما جاء الرفاه سريعا غادر سريعا،
فجاءت الازمة الاقتصادية بسرعة عام 1973 كاشفة أقنعة الزيف
الحضاري والتقدم الراسمالي عن وجه البرجوازية الحاكمة
لتظهر ايطاليا الحقيقية، ايطاليا الحواري المتعبة القذرة.
الفيلم يروي تاريخ (40) عاما يمثل علاقة الناس بالذاكرة،
وبتفاصيل صغيرة وكبيرة شكلت احداثا مهمة من تاريخ هذا
البلد، كفوز ايطاليا بكاس العالم عام 1982، مع ما يعرف
بسنوات الرصاص وظهور الألوية الحمراء واختطاف الدومورو،
معرجاً على الصدمة التي هزت البلاد على الصعيد الاخلاقي
والسياسي، المتمثلة بانتفاضة القضاء على الأوضاع الفاسدة.
والباحث يرى ان السينما الايطالية في تسعينيات القرن
الماضي تؤكد في اتجاهاتها احياء وتجديد تقاليد الواقعية
الجديدة التي شهدت عصرها الذهبي بعد الحرب العالمية
الثانية، والتي كانت من اهم تقاليدها الاهتمام بالسيناريو،
لذا فاغلب افلام الاتجاه الجديد بأحياء الواقعية في
التسعينات هما كاتبا السيناريو (ستيفانو روللي) و(ساندرو
بيترا) والفرق بينهما وبين (زافاتيني) انهما لا يعتمدان
على سرد قصة ادبية على اي نحو كان وبأي درجة، وانما يقدمان
سينما خالصة، حيث الفيلم هو الفيلم، من اول لقطة الى آخر
لقطة، مثل العمل الموسيقي الذي لا يمكن تلخيصه او تحديد
معناه في عدة كلمات، وتعبر الواقعية الجديدة في التسعينات
عن حقيقة ان مشاكل العالم أكبر واعقد من ان تجرد في شرطي
يرمز للسلطة ومواطن بدون بدلة رسمية يرمز للشعب كما كان
الحال في الواقعية الايطالية بعد الحرب وكما في السينما
السياسية الثورية في الستينيات.
هوامش:
________________________________________________
|