وسامة مصرية، رصانة، سحر صوت، كلها كانت مؤهلات لأن
يتفوق ـ بخطوتين على الأقل ـ على رفيقيه نور الشريف
وحسين فهمي، رغم أنهم من درسا الفن أكاديميا وليس هو.
وأظن أن نور قال إن الأدوار كانت تذهب إلى محمود ياسين
أولا فإذا رفضها عُرضت عليه أو على حسين فهمي.
تكاملت دراسته للحقوق في استكمال رصانته المفرطة إلى
درجة الملل والمثالية. فهو في أعماقه رجل قانون عادل،
لطيف، مجامل، الدبلوماسي الذي لا يرتكب هفوة في ملابسه
أو لغته أو حركة جسده. تزوج من زميلة أصغر سنا وكون
عائلة مصرية. ليحفظ اسمه بعيدًا عن القيل والقال.
منصف بحسه القانوني لكل زملائه، ولا يتورط في إشاعات
ولا انفعالات غير محسوبة.
كل هذا جعل المخرجين، وحتى كل حسناوات الشاشة من أجيال
سابقة ولاحقة عليه، من فاتن حمامة إلى شمس البارودي،
وحتى ليلى علوي وإلهام شاهين. يرون فيه البطل المعقم
مأمون الجانب. البطل الذي لن يتورط ولن يورطها في أي
شيء. من المستبعد ان تكون هناك نزوة أو قصة حب. فهو
الأخ "المحترم" مأمون العواطف.
هذا أضاف له رصيد مهم لدى التوجه الديني والمحافظ في
تركيبة السلطات العربية، وشرائح واسعة من الجمهور
المتدين. فبات وجهه حاضرا في الليالي المحمدية،
والمناسبات الدينية، وعشرات المسلسلات التاريخية
والدينية. (والتغاضي حتى عن أفلام مهمة وجريئة قدمها
ولا تخلو من عري).
وبرغم إدراكه أنه موهبة صوتية، تناسب الإذاعة بالدرجة
الأولى، أو خشبة المسرح. إلا أنه كان يملك من الذكاء
والثقافة، ما منعه من "التصلب" و"التنميط". فمثلا فاجأ
جمهوره برفض دور الأستاذ الجامعي ليلعب دور الزبال..
كما ذهب مثل معظم زملائه إلى فتوات وحرافيش نجيب
محفوظ.. وابلى بلاء حسنا في أدوار كوميدية.
لا شك أنه كان يرى نجاحات نور الأكثر نزوعا إلى
التجريب، وأحد أقرب الأصدقاء ورفاق الدرب إلى قلبه.
(واحدة من المنافسات القوية جدا اللي احتفظت بالاحترام
المتبادل والصداقة العائلية المتينة.. نور وبوسي
ومحمود ياسين وشهيرة).
احتفظ نور بالحتة الشعبية، والثورية، اللذيذة (هو ناجي
العلي) وإن ظلت في خطه القومي العروبي.. واحتفظ محمود
ياسين برصانة الطبقة الوسطى والحتة المريحة لكل أنواع
السلطات العربية، أيضًا في خطه القومي العروبي. كلاهما
كان ابن وعيه المبكر وطبقته.
بالنسبة ليّ نور الأقرب إلى قلبي، وإن كان محمود ياسين
يجبرك على احترامه إنسانا وفنانا وتاريخًا.
نور هو من قرر الاستقالة مبكرًا من عمله أستاذا في
معهد المسرح.. ومحمود ياسين هو من استمر موظفا في
المسرح القومي إلى ان أصبح مديرًا له، ووكيل وزارة.
نور هو من خاض بعض الغراميات والشقاوات الموازية
للزواج الذي انتهى بالطلاق. ومحمود هو من حافظ على
الزواج مقدسا.
نور عصبي ويمثل بجسده ويتورط بكل انفعالاته، محمود
هادئ، ومسيطر، ويعطي بالقدر الجيد، حتى وإن ظلت
"رصانته" تفصله عن الاندماج في "الكراكتر" أحيانا.
تكفي المقارنة بين أداء شخصية طه حسين في فيلم "قاهر
الظلام" وأداء أحمد زكي لها في مسلسل "الأيام". كان
هناك تصور أنه صاحب الحنجرة الذهبية قدم عميد الأدب
العربي، ولم يدع زيادة لمستزيد. إلا أن زكي أثبت أن
هناك عمقًا ما، لا يستطيع أن يصل إليه محمود ياسين.
ورغم تنوع عشرات الأدوار التي قدمها، بما فيها الأب
والحبيب والجد، والمرح والقاتم، والقاسي، والزبال،
وشيخ الإسلام، لكن ظلت رصانته المثالية ضده. ظلت حياته
وأدواره في المنطقة الوسطى، لا تهبط إلى ابتذال
الشعبي، ولا تصعد إلى استعلاء بكوات كل عصر. تقدم
الأداء الجيد ولا تقدم الاحتراق المذهل للموهبة.
شخصيته، هي النسخة الذكورية الأقرب لشخصية فاتن حمامة،
من جهة حياتها وطبقتها الاجتماعية، وطريقة الأداء الذي
تكمن في حساسية وبراعة الصوت قبل أي شيء آخر.
وبينما كان يقترب محمود ياسين من الخامسة والسبعين،
كان آخر ظهور له قبل خمس سنوات يرثي رفيق دربه نور
الشريف. |