الفيلم:
M
إخراج:
Fritz Lang
تمثيل:
Peter Laure, Ellen Widmann, Inge Landgut, Otto Wernike
تقييم
الناقد: ****
(من خمسة)
حين خرج هذا الفيلم في
ألمانيا سنة 1931،
كانت النزعة النازية في تصاعد. ولمن يشاهد «م» [او من شاهده في
عرضه الحديث في
عمّان في الخامس والعشرين من نيسان/
أبريل] سيستطيع الربط بين تصاعد تلك النزعة وبين موضوع الفيلم.
ليس أننا سنشاهد شباب الحزب وهو يروّع الناس او
يسير في الشوارع موزّعاً
المنشورات، بل بسبب ذلك الحس بأن الأمور ليست على ما
يرام في برلين ذلك العام. وهذا الحس ناتج، من ناحية عن التصوير الداكن الذي
قام به فريتز ووغنر الذي صوّر، بين العديد من الكلاسيكيات الألمانية «نوسفيراتو» سنة
1922،
ومن عنصر تشاؤمي يسود الحكاية بأسرها متعاملاً مع قاتل أطفال على نحو يُتيح
له اللجوء الى الركن القلق من تعاطفنا مازجاً بذلك جانبي شخصيّته في روح واحدة تتنفّس الخوف والتخويف في
ذات الوقت.
وإن لم يكن ذلك كافياً،
فما البال بتلك الأغنية التي
يرددها الصغار حول «الغيلان السود» التي تثير الفزع والجريمة؟
الحقيقة هي أن الفيلم، من هذه الناحية الإيحائية،
لا يزال قابلاً للتطبيق حيال أي نزعة فاشية صاعدة في أي مكان (ولدينا نحن
منها نصيباً
كافياً). كذلك هناك خطان مشتركان، قد لا يكونا مقصودين،
بين هذا الفيلم وبين فيلم
غسان سلهب الجديد (والذي نال أقل مما يستحق من إهتمام وتقدير) «أطلال»،
واحد من حيث تصميم الفيلم أسلوبياً وواحد من حيث الفكرة ذاتها، حيث كل من
الشخصيّتين، شخصية المجرم في «م» وشخصية المجرم في «أطلال» تتنفّسان أكسجين
الوضع الإجتماعي والسياسي القائم.
نحن في برلين
1931،
البحث جار عن قاتل يخطف الأطفال أسمه هانز بكهرت (يقوم به بيتر لوري الذي
انتقل بدوره الى
هوليوود وظهر في
أفلام لجون هوستون من بينها أوّل أفلامه
«الصقر المالطي»The
Maltese Falcon
).
في
مسعاه يقبض البوليس على كل مجرم معروف لديه لعلّ
القاتل يكون بينهم. الضغط الذي يتعرّض له المجرمون، الذين يشكّلون في هذا
الفيلم مجتمعاً تحتياً خاصّاً بهم، يدفعهم لمشاركة البوليس البحث. حين
يلقون القبض عليه يقدّمونه لمحكمة يقيمونها بأنفسهم. يدافع عن نفسه
متوجّهاً الى جمهور الحاضرين من أصحاب السوابق (شيء من السخرية المبطّنة
هنا)
بخطاب يصوّر لهم فيه معاناته مما يقوم به «أنتم تختارون إرتكاب الجرائم،
لكني لا أختار، بل مضطر لها». على ضراوة خطبته المكتوبة - كنص - جيّداً،
يخسر بالطبع ويتم الحكم عليه بالإعدام.
«م» مختار
من أحداث حقيقية وقعت في العشرينات بطلها قاتل أولاد أسمه بيتر كورتن
لُقِّب بـ «سفّاح دوسلدورف».
فريتز لانغ، الذي كان بدأ الإخراج سنة
1916
وخبر أنواعاً متعدّدة من الأفلام وصولاً الى «م» ثم بعده، كان يعلم أن
الجمهور الألماني سيتذكّر أحداث ذلك السفّاح حين كتب سيناريو هذا الفيلم.
والمنهج الذي خطّه يقوم على ثلاثة فصول:
الأول تعريفنا بالقاتل وبواحدة من ضحاياه (طفلة يشتري لها المجرم البالون
ويأخذها من يدها). الثاني الفصل الذي يصوّر تبعية هذه الجرائم على البوليس
وعلى مجرمي العالم السفلي. والفصل الثالث،
هو القبض على بكهرت وتقديمه للمحكمة.
في ذلك الفصل الأول
يداهمنا المخرج باختياراته من المشاهد:
إنه يبتعد عن الإيضاح لأن ما يدور في بال المشاهد حين لا يرى لكنه يفهم ما
يدور هو أوقع مما لو عرضه المخرج (تعال قل ذلك لمخرجي اليوم!).
في الفصل الثاني، يضع المخرج ثوابته بالنسبة للمجتمع مقسّماً
إياه لفريقين: القانون والخارجين عن القانون. وكلاهما متعرّض للضغط: رجال
القانون يعانون ضغط المسؤولين والمجتمع المدني
والصحافة، والخارجين عن القانون يتعرّضون لضغط البوليس. في طيّات ذلك،
لا يفرّق لانغ كثيراً بين البوليس والخارجين عليه
(وهو لاحقاً في فيلمه «الحرارة الكبيرة»The
Big Heat
الذي
حقّقه سنة 1953
بعد عدّة سنوات من إنتقاله الى هوليوود يُعيد رسم مثل هذه الصورة).
رجال البوليس يبدون أحياناً كما كانوا مجرمين، كما أن المجرمين هم الذين
يلقون القبض على السفّاح وليس رجال البوليس.
علاوة
على ذلك، كلا الفريقين يخطط لقتل السفّاح حين القبض عليه.
ذلك الفصل الثالث،
هو الذي يتصاعد فيه عنصر الحوار مع بيكهرت
يدافع عن نفسه شارحاً لم هو ضحية إجتماعية- نفسية لا تستطيع كبح جماح
عاطفتها تلك.
بذلك فإن الفصل الثالث هو تحديد لما الذي
يجعل المجرم مجرماً. حقيقة أننا نعرف من هو المجرم منذ البداية،
يلغي السؤال التقليدي «من هو القاتل» ويستبدله بـ «لماذا؟». ولانغ لم يكن
الأول الذي سعى لذلك.... فكّر «المستأجر» لألفرد هيتشكوك قبل هذا الفيلم
بعامين.
❊
يتبع في الأسبوع المقبل.
سينماتك
في 28 أبريل 2007