جاء مهلهلا من بيروت، فالموزع اللبنانى، وأصحاب دور العرض،
والرقابة، تواطئوا جميعا فى سلخ قرابة الساعة من الذئب الذى يبلغ
طوله، أصلا، إلى الثلاث ساعات.. وتوفيرا لنفقات الترجمة، وحقوق
العرض الأول فى الشرق الأوسط، وحفاظا على عدد الحفلات فى دور
السينما، فضلت شركة التوزيع المصرية، استقدام الفيلم بترجمته
الركيكة، ومشاهده المحذوفة، الأمر الذى جعل العارفين بجلال قدر
المخرج الأمريكى، مارتن سكورسيزى، ونجمه الأثير، يندهشون من
المستوى المتذبذب لـ«ذئب وول ستريت»، المفكك الأوصال.
بعيدا عما أصاب الذئب فى بلادنا، تعرض أيضا لشىء من الاضطهاد، أو
التحفظ على الأقل، فى موطنه الأصلى، أمريكا، وهى مسألة غير متوقعة
إزاء سكورسيزى، الذى جرت العادلة ــ عن استحقاق ــ على الترحيب بكل
فيلم جديد يحققه، واعتباره إنجازا فنيا، وحدثا ثقافيا.. وهذا لا
يعنى أن «ذئب وول ستريت» لم يحقق نجاحا، بل على العكس، شباك
التذاكر يشهد تدفقا ماليا كثيفا، والكثير من النقاد اعتبر أن
المخرج الكبير يغلق القوس الذى فتحه، بحكايته عن «عصابات نيويورك»
2002، حيث حلل، بأسلوبه القوى، الفريد،، بنية المجتمع الأمريكى،
القائم على العنف الذى استشرى مع النصف الثانى من القرن التاسع
عشر.. وها هو ــ سكورسيزى ــ فى فيلمه الجديد، يتعرض، بنظرته
النفاذة، إلى أحفاد تلك العصابات، فى نهاية القرن العشرين. وقد
أصبحت عصرية، متأنقة، وأشد بطشا من مجرمى وبلطجية الشوارع، كما كان
الحال فى «عصابات نيويورك».
فى المقابل، على النقيض، رأى البعض أن العمل «مثير للاشمئزاز»، ولم
تكن ليلة عرضه الخاص موفقة بصناعه، فأحد كتاب السيناريو قال لهم
«عليكم تقديم كل هذا القرف، بينما كتبت النجمة المخضرمة «هوب
هوليداى»، على صفحتها فى الفيس بوك «ليلة الأمس كانت عقابا.. ثلاث
ساعات من القمامة والجنس والمخدرات».. تصدى دى كابريو للدفاع عن
الفيلم. نفى تماما أن يكون قد تضمن تبريرا أو تأييدا لسلوك البطل
المتلاعب فى سوق الأوراق المالية، وأكد أن «ذئب وول ستريت» يحذر من
مغبة الجرى وراء الأوهام، وذكر أنه لا هو، ولا سكورسيزى، من النوع
الذى يعطى لنفسه الحق فى محاكمة الآخرين، من وجهة نظر أخلاقية
ضيقة.. وبرغم ما قيل عن تخفيف بعض المشاهد الدامية، والجنسية، فإن
الفيلم، فى التصنيفات الرقابية، الأمريكية، أخذ الحرف
«R»،
آر، مما يعنى عدم استحسان مشاهدته لمن هم أقل من «17» عاما.
الفيلم، كما هو معروض فى القاهرة، يتطلب من المشاهد أن يستكمل،
بخياله، مقدمات ونهايات المواقف المبتسرة، التى لن تجد لها تفسيرا
إلا بمعرفة طبيعة الشخصيات الشرهة من ناحية، وأسلوب سكورسيزى،
الجرىء، الساخن من ناحية أخرى، فمثلا، نفاجأ بزوجة بطل الفيلم فى
حالة غضب هستيرى، بلا أسباب قوية، فلماذا هذا الانفجار الانفعالى؟..
الإجابة تكمن فى أحد المواقف المحذوفة، التى تتضمن حفلا ماجنا
للجنس الجماعى.. وثمة مشهد، بلا مقدمات، نرى فيه رفع أحد الأشخاص
من فوق سور اليخت الفاخر، وبرغم معرفتنا بالدوافع، فإننا ندرك أن
الجريمة، من الممارسات المألوفة لبطل الفيلم.
عن مذكرات «لعبة المال والجنون» للنصاب الشهير جوردن بيلفورت فى
كتب تيرتس وينتر السيناريو، على الطريقة التى يفضلها سكورسيزى،
فهنا، الراوى، جوردان، بأداء صوتى خلاب من دى كابريو، يجدثنا عن
قراره أن يغدو ثريا، بأى طريق.. يلتقى أستاذه فى عالم السمسرة،
إدوارد هانا، الذى يؤدى دوره ببراعة «ماتيو ماكنوهى»، والذى يعطيه
درسا ثمينا يتلخص فى التالى: ضع فى اعتبارك أن النقود فى جيب عميلك
لابد أن تنتقل لجيبك.. قم ببيع الأسهم له، وعندما يعود لك أقنعه
بأن أسهمه فى صعود مستمر. اجعله يشترى المزيد منها، أو أسهم أخرى.
سيعود إلى زوجته فرحا بوهم أنه أصبح ثريا.. خذ منه نقوده أولا
بأول، ملوحا له بفرص جديدة، واحذر من أن يسترد ماله.
كم تذكرنا هذه الأفكار الجهنمية بشركات توظيف الأموال، عندنا!..
المهم، ينطلق جوردان بشركته «شتارتون أكومنت»، وتتراكم عنده
الأموال، وينغمس فى الملذات وتنفلت غرائزه فيعيش حياة صاخبة، لا
ترمى إلا للمتعة وممارسة الجنون، بما فى ذلك تعاطى الهيروين.. دى
كابريو، بابتسامته الجميلة، وثقته فى نفسه، وأناقته، يبدو شديد
الجاذبية، لكن، يقنعنا فى لحظة، أن تحت مظهره الباعث على الاطمئنان
يكمن ذئب شره، لئيم، مناور، شرس ومفترس، مقاتل بلا هوادة، طويل
النفس، لامع الذكاء.
الراوى هنا، ليس صوت سكورسيزى، فالمسافة بينهما تضيق وتتسع حسب
الحاجة.. وأحيانا، تتخذ طابعا كوميديا. فمثلا، فى نوبة تعاطى
عنيفة، يصاب جوردون بما يشبه الشلل الرباعى، ومع هذا يزحف، يتحامل
على نفسه ليقود سيارته مسرعا إلى قصره.. يكاد يصطدم بعمدان النور
والسيارات، لكن، كما يقول «حمدا لله، لقد نجوت بأعجوبة».. سريعا
تأتى الشرطة. يظن، وتظن معه، أنها ستقبض عليه بتهمة النصب، لكن،
نكتشف معه أنها جاءت لتصحبه إلى الشارع كى تطلعه على عربته
المهشمة، وعمدان الطريق والسيارات التى دمرها.. لم تكن روايته إلا
خيالات.
جوردون، يتعرض لحصار مباحث التهرب الضريبى، يحاول دفع رشاوى، يفشل.
يهرب أموالا إلى بنوك أوروبا، واستمرارا لخسته يقدم على خيانة
العاملين معه فى صفقة مع السلطة بمقتضاها، يبلغ عن رجال مؤسسته،
على أن يكون الحكم عليه مخففا. وفعلا، يقضى «22» شهرا فى سجن مريح،
يخرج بعدها ليعيش حياته.. أيا كان الأمر، يقول «ذئب وول ستريت»
جملة مفيدة، حتى بعد سلخه: انهيار البورصات يعنى نجاح المحتالين فى
سرقة أموال الآخرين».
مانديلا
كمال رمزي
نشر فى : الثلاثاء 14 يناير 2014 - 8:00 ص
التفكير فى هذا الفيلم، لا يقل متعة عن مشاهدته، فطوال ساعتين،
نتابع، بانتشاء ساحر، حكاية نعرفها، من دون اكتشافات أو إضافات.
ومع هذا، يبدو العمل مبتكرا، جديدا، يتهاوى على الشاشة بشاعرية
خلابة، ابتداء من المشهد الافتتاحى، لأطفال سود، ينطلقون جريا فى
حقل ممتد، مع صوت مانديلا، الحنون الدافئ، بأداء الممثل البريطانى
«إدريس ألبا»، معبرا عن محبته لكل هذه الوجوه التى عاش معها، والتى
لم تبهت فى ذاكرته أبدا.. وانتهاء بطفل جنوب أفريقيا، وسط عائلته
الكبيرة، وقد أصبح أول رئيس أسود لبلاد عانت طويلا من نظام الفصل
العنصرى المقيت، الذى تسبب فى مقتل الآلاف من أبناء الشعب،
الأفارقة، على يد قوات البطش التى يملكها الحكام البيض.
وقائع الفيلم معروفة، لكن الجديد هو روحه.. تلك الروح الطيبة،
الشفافة، التى لا مكان فيها للحقد أو الكراهية أو الرغبة فى الثأر،
وإن كانت ترنو إلى الحرية، وتؤمن بالعدل، وتعمل، بلا كلل، وبإرادة
من حديد، من أجل تحقيق المثل العليا، فضلا عن استعدادها لدفع
فاتورة الأمانى، حتى لو بلغت «27» عاما فى السجن.
«إدريس
ألبا»، مع الممثلة ــ البريطانية أيضا ــ «ناعومى هاريس»، التى أدت
شخصية «وين» زوجة مانديلا، من المفاتيح الأساسية لفهم سحر الفيلم..
«إدريس»، قرأ ما كتب عن الرجل، وشاهد مئات الشرائط الوثائقية، وحين
التقاه، طبعا قبل رحيل الزعيم بعدة شهور، أدرك أنهما يختلفان شكلا،
ولونا، فتقاطيع وجه مانديلا أكثر دقة، وشبح الابتسامة لا تفارق
شفتيه، ولون بشرته ليست داكنة كما الحال عند «إدريس»، وبالتالى قرر
أن يجسده من الداخل، وأن يسبر غوره، فاكتشف أن «مانديلا» أقرب إلى
النور.. ضياء ما يشع منه حتى وهو صامت، وقرر أن يؤدى الشخصية وقد
امتلأ بهذه الأحاسيس.
أما «ناعومى هاريس»، فإنها عايشت «وينى» بشمول وعمق، شاهدت الأشرطة
التسجيلية، وصورها الفوتوغرافية، فى المظاهرات، المؤتمرات، بين
أصدقائها، وأدركت ما تنطوى عليه شخصيتها من قوة العزيمة، وصلابة
المواقف، وشجاعة المواجهة.. وبينما صرحت بأن «وينى» تعيش تحت جلدى،
قالت لها وينى، عقب مشاهدة الفيلم «أنت لم تمثلى دورى. أنت جسدتينى
كما أنا».
المخرج، حستون تشادوبك، يتابع، بأسلوبه الشاعرى الناعم، الطريق
الطويل نحو الحرية، الذى يقطعه مانديلا، منذ اشتغل فى المحاماة،
دفاعا عن قضايا السود، واكتشافه أن العدالة لا يمكن أن تتحقق، فى
ظل قوانين ظالمة، يفرزها ويقرها مجتمع قائم على الفصل بين أبناء
بلد واحد، وبالضرورة، لابد من الثورة. ينضم إلى حزب المؤتمر، مع
آخرين، يقدمهم الفيلم بتوقير جميل، وفى ذات الوقت، لا يتعامل مع
مانديلا كأسطورة، أو بطل فردى ينقذ شعبا، بل يبين، ربما على
استحياء، بعض أخطائه، التى استحق عليها التأنيب من والدته، مثل
ضربه لزوجته الأولى، عقب لقائه بـ«وينى» التى أحبها.. وتتجلى روح
التسامح، فى الفيلم، أكثر من مرة، وهو تسامح قائم على فهم عميق
للتاريخ، وللطبيعة الإنسانية.. فى «جزيرة روين» التى نفى فيها
«مانديلا»، المعزولة، المهجوة، الموحشة، يبدو الحراس، السجانون،
برغم غلظتهم، أقرب للمقهورين، شأنهم شأن المساجين، وحين يدرك
الحكام الطغاة، أن وقت التغيير جاء، ولا فكاك منه، يتوقع بعضهم أن
يقوم السود بالثأر من البيض، يؤكد «مانديلا» أن العدالة، عندما
تتحقق، لن يكون، مع الأيام، أى نزعة لتصفية الحساب.. «مانديلا»،
فيلم نورانى إن صح التعبير، يترك فى النفس قدرا غير قليل من النور،
وهذا أجمل ما تقدمه السينما للناس.
جرسونيرة
كمال رمزي
نشر فى : الثلاثاء 7 يناير 2014 - 8:00 ص
ينتمى لأفلام الجريمة وهى نوعية تختلف عن الاتجاه البوليسى،
فالصراع فيها لا يندلع بين الشرطة والخارجين على القانون ولكن يدور
بين مجرمين، سواء كانوا عصابات متناحرة أو أفرادا يريدون تصفية
بعضهم بعضا، كما فى «جرسونيرة» المعتمد على ثلاثة نماذج بشرية،
رسمها بمهارة كاتب السيناريو حاتم متولى، الذى تفهم أبعادها
وأغوارها وعمل على الكشف عنها شيئا فشيئا، مستفيدا من وسائل
التشويق والغموض وانقلاب المواقف والمواجهات التى تتسم بها أفلام
الجريمة خاصة المهتمة بالجانب النفسانى وهو لون يكاد يكون غائبا عن
السينما المصرية أو على الأقل لم يتطور بما فيه الكفاية منذ غياب
المخرج الكبير كمال الشيخ.
الاختبار فى «جرسونيرة» قد يكون قاسيا فالأحداث كلها تجرى فى مكان
واحد داخل شقة بالغة الأناقة يملكها الوجيه الأمثل رسميا، سامح
«نضال الشافعى» ، الدبلوماسى، رئيس أحد الأحزاب يملك الكثير ومن
بينها عشيقته ندى «غادة عبدالرازق» التى نتعرف على بعض ملامحها
خلال مونولوج داخلى يعبر عن ضيقها بالحياة التى تعيشها كمحظية أو
جارية فوق العادة يغدق عليها صاحبها أو مالكها إن شئت الدقة، مالا
وحليا وفساتين لكن ينقصها الاحساس بالكرامة وأنها مجرد مطفئة
للرغبات وترتسم علامات احتقار الذات على ملامح وجه غادة عبدالرازق
وهى تستمع معنا للمونولوج الصادق من ناحية ثم فى تعاملها مع عشيقها
من ناحية ثانية فهى تبدو متقلبة سيئة المزاج تهاجمه، تنفر منه ولكن
كعادته يتمكن من استيعابها وبينما يحضر لها «روب» الحمام من
الدولاب يندفع من داخله رجل ضخم الجثة بملامح تنبئ بالشر يمسك
بمسدس فيغدو «سامح» أسيرا مستسلما إلا قليلا.
المخرج هانى حرجس فوزى، وزع الأدوار توزيعة موفقة، غادة عبدالرازق
هنا ليست نجمة إغراء ولكن امرأة تكاد تحتقر نفسها وتكاد تكره
«سامح» وتدرك أن لا غنى عنه وفى صدامها معه تعبر عن هذه التركيبة
النفسية المضطربة التى تتناقض مع قوتها الظاهرة ويطالعنا نضال
الشافعى بأداء لافت.. ملامح وجهه يكسوها بطابع مثير للضيق ويبعث
على سوء الظن فى عينيه يجتمع الخبث مع القلق، أما ممثلنا الأردنى
منذر ريحانه فإنه يتمتع بقوة الحضور فضلا عن لمسات تؤكد دراسته
لشخصية المجرم المقتحم، المتهور، المستهتر، ولم يفته دعك أنفه
بأصابعه بين الحين والحين على طريقة إدمان الشم وإن كان فى الفيلم
يلف سجائر الحشيش فقط، ولولا الانفجارات الانفعالية التى تنتاب
النجوم الثلاثة بين الحين والحين بلا انضباط صارم لكان الأداء
التمثيلى على درجة عالية من الإجادة.
يدخل الفيلم فى لعبة الابتزاز، المجرم، المهيمن على المكان يمسك
بمسدس، يجبر «ندى» على إحضار المجوهرات وحقيبة النقود. يأمر «سامح»
بكتابة شيك بنصف مليون جنيه ثم بمليون.. يذعن الوجيه.. يتردد حين
يطلب المجرم منه طلبا قد تستغربه أن يمارس «سامح» الجنس مع عشيقته
ندرك الدوافع عندما يستعد المجرم لتصوير المشهد بكاميرا فيديو كى
لا يتلاعب به الرجل فيما بعد.. «ندى فى مونولوج داخلى، تعرب عن
كراهيتها للرجلين وإن كانت كراهيتها لسامح ممتزجة بالاحتقار خاصة
حين تدرك أنه منزعج من أجل سمعته ومستقبله السياسى أكثر من غضبه
بسبب كرامتها المهدرة.
فى لعبة انقلاب المواقف والصراع بين القوة الغاشمة التى يجسدها
المجرم والعقل الذى يمثله «سامح» يتمكن الأخير من خطف المسدس
وتكبيل المجرم قبل الانتصار الحاسم يتمكن المجرم من استعادة المسدس
وتقييد صاحب المكان ويستمر الفيلم مقدما رقصة بلا ضرورة لغادة
عبدالرازق استجابة لرغبة المجرم وربما لقطاع من الجمهور ثم أغنية
أو أكثر قد تكون جيدة فى حد ذاتها لكن لن تعرف أبدا من أين جاءت
وأخيرا تأتى النهاية فعقب خروج الرجلين تباعا يعود المجرم كى يقتسم
الأموال والمجوهرات مع «ندى» حسب اتفاقهما وما هى إلا لحظات ويعود
«سامح» ممسكا بمسدسه وقد أدرك اللعبة.. يقيدهما وبلا تردد يفتح
أنبوبة الغاز ليعبق المكان بمشروع موتهما.. «ندى» تمد أصابعها
لتختلس ولاعة وتتهيأ للضغط على مفتاحها، مما ينبئ بانفجار المكان.
«جرسونيرة»
لا يقدم ضحية، ووصوليا وبلطجيا بقدر ما يعرض ثلاثة مجرمين.. لكل
منهم طريقته.. والفيلم وإن كان لا يخرج عن الجدران الأربعة، فإنه
يشير إلى نماذج فى مجتمع تسوده روح المؤامرة وتغيب عنه قبضة الأمن،
حتى أن الدبلوماسى رئيس الحزب لم يفكر لحظة فى طلب الشرطة، ويبدو
هو والمجرم من طينة واحدة والواضح هذه المرة أن هانى جرجس فوزى على
قدر من التمكن يجعلنا ننتظر منه الكثير.
الكوميديا الغائبة
كمال رمزي
نشر فى : الأحد 5 يناير 2014 - 8:00 ص
مزايا كثيرة تجلت مع صدور كتاب «سينما الشغف» الذى يضم قائمة أهم
100 فيلم عربى، بداية بنزاهة منهج اختيار الأفلام المفضلة، حيث
شارك عدة مئات من السينمائيين والنقاد، من معظم البلدان العربية،
وانتهاء بالكلام المكتوب عن كل فيلم، الذى يبين بوضوح، قيمة العمل،
وقصته وأهم معالمه الفنية، فيما يشبه المقالات النقدية الموجزة،
المكثفة، المعتمدة على معرفة شاملة بخارطة السينما فى الوطن العربى
كله، فضلا عن موضوعية جديرة بالاحترام، تتجاوز أى نزعة تعصب مع أو
ضد سينما هذه الدولة أو تلك.. الكتاب الثمين، يقع فى 160 صفحة من
القطع الكبير، بغلاف أصفر سخيف، يخلو من أى خيال، على نصف الغلاف
الأيسر، حروف عربية طولية وعرضية، لا يمكن قراءتها، بعضها بلون
رمادى كئيب، والبعض الآخر بالأسود القاتم.
بعيدا عن المسائل الشكلية، تأتى الدراسة المرموقة فى المقدمة التى
كتبها الناقد الشاعر الروائى زياد عبدالله، منظم الاستفتاء،
كمحاولة جادة، شاملة وعميقة، لقراءة دلالة النتائج، وتلمس مسيرة
السينما العربية، عبر قرن من الزمان، ويلاحظ، بنفاذ رؤية، أن
«الواقع والواقعية» كثيرا ما سيترددان فى صفحات الكتاب.. ولكن
فجأة، يحلو لزياد عبدالله أن يتخلى عن أسلوبه الواضح، السلس، ليغرق
فى تعريفات غامضة، يستعيرها ــ حسب قوله ــ من الفلسفة، فيكتب بين
قوسين، أن الواقع هو «مجموع ما هو موجود» من حيث أنه يفترض وجوده
باعتباره معطى ويقتضى الاعتراف به أولا فى غيريته أو مطابقته
لذاته، فى المقاومة التى يعارض بها التأثيرات والرؤية الإنسانية.
ويتعارض الواقع فى الآن نفسه مع الظاهر والوهم والإمكانية غير
المتحققة أو غير القابلة للتحقيق.. أنا آسف، لأننى لم أفهم شيئا.
الجداول، المعتمدة على الإحصاء، من أهم إنجازات الكتاب، وبالتأكيد،
بذل زياد عبدالله جهدا كبيرا لبيانها، وهى تبين الخارطة البشرية
للمبدعين، فعلى سبيل المثال، الجدول المتعلق بالمونتيرين، يثبت أن
دولة المونتاج تتألق بالنساء وليس بالرجال: رشيدة عبدالسلام فى
المقدمة بواقع «13» فيلما من المادة، ونادية شكرى بإنجاز «7»
أفلام، والثالثة مفيدة تلاتلى بواقع «6» أفلام.. أما عن شركات
الإنتاج، فإن الجدول يشير إلى أن «المؤسسة العامة للسينما ــ سوريا
ــ هى الأكثر تفوقا، ذلك أنها أنجزت «10» أفلام فى قائمة الأفلام
الأفضل، والبون بينها وبين من تليها شاسع. «أفلام مصر العالمية»
بواقع خمسة أفلام فقط، متساوية مع «هومبير بالزان».. وفى مجال
الأداء التمثيلى، تخلو القائمة من فاتن حمامة، نادية لطفى، ليلى
علوى، وغيرهن لأن الأفلام المختارة لم يشاركن فيها.. وهذا ما يفتح
الباب لقراءة خارطة الغياب، وأسبابها. «الغياب» يردنا بالضرورة إلى
المزاج العام، والسينمائيون جزء منه.. الواضح أن سحابة التجهم زحفت
على سماء الجميع.. دليلى على هذا عدم الالتفات إلى أفلام
الكوميديا، فهل من المعقول أو المنطقى تجاهل «البحث عن زوج امرأتى»
للمغربى محمد عبدالرحمن التازى 1993، أو «حسن طاكسى» ـ حسب النطق
الجزائرى لكلمة تاكسى ــ لمحمد سليم رياض 1982، أو «الآنسة حنفى»
لفطين عبدالوهاب 1954؟
الفيلمان الوحيدان اللذان نجيا من محرقة الكوميديا هما «الحدود»
لدريد لحام 1984، و«غزل البنات» لأنور وجدى 1949، وبينما تعرض
«الحدود» للسعة فى المرتبة «75» بالقائمة، جاء «غزل البنات» أسوأ
حظا، ذلك أن تعرض للسعة وصفعة. نجح على «الحركرك» فى دخول سينما
الشغف، بالرقم «96»، وعلى غير العادة أو المألوف، كتب ناقدنا
الخبير على أبوشادى فى سطوره الأولى «أعتقد أنه من الصعب ــ من
وجهة نظرى ــ اعتبار فيلم «غزل البنات» واحدا من أفضل 100 فيلم فى
تاريخ السينما المصرية أو العربية».
هكذا، عصف المزاج العربى السيئ بالكوميديا.. وهنا تبرز قيمة أخرى
للكتاب، تتمثل فى تلك الآفاق الغائبة فى ذاكرتنا السينمائية التى
ينبهنا لها، التى تنتظر من يكتشفها، فلا يمكن أن نتناسى أسماء
كبيرة، فى حجم عز الدين ذوالفقار، ومحمد شكرى جميل، وغيرهما.
هبط الملاك فى بيروت
كمال رمزي
نشر فى : الأربعاء 1 يناير 2014 - 8:40 ص
قررت وزارة الثقافة اللبنانية المشاركة فى مسابقة الأوسكار. احتدم
التنافس بين «قصة ثوانى» للارا ثابت، و«غدى» لأمين درة. الأخير، تم
اختياره من قبل لجنة ضمت كبار النقاد والسينمائيين، لكن، لأنه نزل
لدور العرض بعد بداية شهر نوفمبر، تأجل ترشيحه للعام المقبل، حل
مكانه «قصة ثوانى» المتمتع بنفحة حداثة، والذى تعرضنا له سابقا.
«غدى»،
عنوان الفيلم، وهو اسم بطله الذى تدور حوله الأحداث، دون أن يساهم
فى صنعها، ذلك لأنه معاق ذهنيا، جاء بعد بنتين، بإصرار على إبقائه
فى رحم والدته برغم معرفة حالته.. والده، كاتب سيناريو الفيلم،
الممثل المتمتع بحضور عميق وشفاف، المعبر بدقة لا تخلو من شاعرية
عن أشد الانفعالات تركيبا وجموحا، جورج خباز، الراوى، الذى يسرد
لنا فى البداية طرفا من حياته طفلا، يتعرض لسخرية زملائه التلاميذ
بسبب «التأتأة وضعف بنيانه.. لكن نسيما طيبا يهف عليه من مصدرين:
مدرس الموسيقى الرقيق، الذى يعلمه عزف البيانو، وقبول الحياة
بحلوها ومرها.. والبنت الصغيرة، لارا، الحانية، التى ستصبح زوجته،
والتى تتحمل معه، من دون تشكٍ، مسئولية ابنهما المعاق، فاقد النطق
والإدراك، والذى أضحى صبيا، يصدر أصواتا أقرب للصراخ، تزعج أهالى
الحى، خاصة غلاظ القلوب، الذين يطالبون الأسرة بالرحيل، أو وضع
الابن فى مصحة.
اعتمادا على السيناريو المحكم، الذكى، يستعرض أمين درة، فى لقطات
ومشاهد موجزة، سريعة، حياة سكان حى «المشكل» ــ وهذا اسمه ــ حيث
يوحى بمعنيين، فإما المقصود به أنه يضم تشكيلة مختلفة المشارب من
الناس، أو أنه بمثابة مشكلة فى حد ذاته.. الشخصيات هنا لبنانية
تماما، محلية وإنسانية، تمنح الفيلم، بصدقها، مذاق الحقيقة:
الحلاق، لا يتوقف عن الثرثرة، يعمل إلى جانب مهنته بالسمسرة، وبيع
أى شىء كى يزيد دخله.. عسكرى الدرك، الذى يسرق النذور، بانتظام، من
الصندوق الموضوع تحت صورة العذراء.. الجزار، المدرب على وضع الشغت
والدهون فى المفرمة قبل أن ينتبه الزبون.. وثمة المرأة السيئة
السمعة، التى يشمئز منها الرجال علنا، ويتمنونها سرا.. وأخرى، ذات
مظهر عصبى شرس، لم يتحقق حلمها بالزواج من حبيبها حسن، لاختلاف
ديانتهما.. نماذج بشرية تتحرك بعفوية، وبأداء تمثيلى متناغم
ومتمكن، متجانس مع المكان، سواء فى الحارة، أو فوق الأسطح أو داخل
الشقق، بما يجرى فيها من خصوصية، فالتلصص، إحدى سمات «المشاكل».
تخفيفا لعناء الابنتين بسبب موقف الاخرين المعترض على بقاء
أسرتيهما، يحاول الأب اقناعهما أن «غدى» ملاك، طيب ووديع ونقى،
وحين يسألان عن جناحيه، تسعفه قريحته بأن لا ضرورة لهما، طالما هو
يسير على الأرض ولا يحلق فى السماء.
تنتشر الفكرة على أرض الواقع، خاصة عندما يروج لها بعض الهامشيين
فى الحى، ولأن الكثير من السكان يحتاجون لمعجزة تنتشلهم من مآزقهم،
فإن التبرك بـ«الملاك.. يصبح ضرورة.. وربما لم يرصد الفيلم، بما
فيه الكفاية، متاعب الناس المزمنة التى تدفعهم للاقتناع بالمعجزة،
وإن كان يشير إلى تلك الفتاة التى تريد عريسا قبل فوات قطار
الزواج، وذلك الرجل الضخم، الفحل، الذى يأمل فى شفائه من العنة
التى أصابته فجأة.
أمام نافذة «غدى»، الواقعة فى الطابق الثالث، يتجمع الناس فى
الساحة المقابلة.. أمسى المكان مزارا، تضاء له الشموع، وتزداد
النذور، وتروج حركة البيع، وتحول المعاق إلى ملاك، وتحول الملاك
إلى مؤسسة، ولتأكيد صدقيتها المزيفة، يلجأ الأب إلى تسجيل ترانيم
كورالية، ذات طابع روحانى، يجرى تشغيلها بعيدا عن الأعين، وتسلط
أضواء ساطعة على «غدى» بعد تدعيمه بجناحين يحركهما أحد المستفيدين
من المولد، ويمسك الأب بميكروفون، متحدثا باسم الملاك، مع الناس
وعنهم مما يضاعف من اقتناعهم بالمعجزة.. وحتى، حين يحاول أحد
المثقفين الإشارة إلى أن ما يدور مجرد أوهام، يتعرض للبطش الشديد،
ويصاب بكدمات وكسور تذهب به إلى المستشفى.. والأهم أن الأب، فى
نوبة يقظة ضمير، يعترف ان ما يجرى مجرد «فانتازيا»، وان ابنه ليس
ملاكا. لكن الحلاق يعارضه قائلا «انه ملاك ونصف».. وآخر ينبهه إلى
أن «الفكرة أكبر منه»، وطالما أنها خرجت، اكتسبت حضورا مستقلا،
ولابد أن تأخذ مداها.
الواضح أن جورج خباز، كاتب السيناريو، وأمين درة، المخرج، ارتبكا
إزاء النهاية، فمنطق الفيلم الصارم، برغم لمساته الكوميدية،
والإنسانية، يؤدى بالضرورة إلى ختام يؤكد، ويفضح، الكثير من
الأوهام، الأمر الذى أخاف، فيما يبدو، صناع الفيلم، وبالتالى
اختاروا نهاية تصالحية، شاحبة، حيث يعم الوئام، ويتخلى الشاب
المضروب عن رفضه للأكذوبة.. لكن مأخذ النهاية، لا يقلل من متعة عرض
حال الناس، حين يهبط عليهم «ملاك»، حتى ان كان مزيفا.
الشروق المصرية في
|