توثيق الثورات العربية بعيون خوزستانية
عدنان حسين أحمد
كثيرة هي الأفلام الوثائقية التي رصدت ما يسمّى بثورات "الربيع
العربي" غير أن هذا الفيلم له نكهة خاصة ربما لأن مخرجه حبيب باوي
ساجد من خوزستان "عربستان" ولابد أن ينظر لهذه الثورات بعين أخرى
قد تلتقط ما لم يلتقطه مخرجون آخرون. وبما أن ثيمة الفيلم الأساسية
تتحدث عن السينما العربية من جهة والثورات العربية من جهة أخرى
فلابد لمادة الفيلم أن تتسع لتغطي أكبر عدد ممكن من البلدان
العربية مثل مصر وتونس وليبيا والمغرب وسورية بوصفها البلدان التي
انطلقت فيها ثورات الربيع العربي. كما التقى المخرج بثلاث عشرة
شخصية سينمائية عربية تتوزع على الإخراج والإنتاج والتمثيل والنقد
السينمائي وبرمجة الأفلام. هذا إضافة إلى اللقاءات المهمة الأخرى
التي أجراها مع والدة الراحل محمد البوعزيزي التي وصفت طبيعة
مشاعرها قبل وقوع الحادث. كما سلّط أحد أصدقاء الراحل الضوء على
الشرارة التي دفعت البوعزيزي لأن يوقد النار في جسده احتجاجاً على
إهانة الشرطية التي صفعته أمام الملأ وهي تحاول مصادرة الميزان
الذي يزن به بضاعته المعروضة للبيع على سطح عربة متواضعة.
يستهل المخرج حبيب باوي فيلمه الوثائقي "السينما العربية والثورات"
بتشبيه المخرج الفرنسي جان لوك غودار الذي يقارن فيه السينما
بالبندقية حيث يقول: "السينما بندقية تُطلق 24 رصاصة في الدقيقة"
في إشارة واضحة إلى عدد الكوادر التي يعرضها الشريط السينمائي في
الدقيقة الواحدة.
التحفيز على الثورة
ويبدو أن السؤال الأول الذي خطر في ذهن المخرج حبيب باوي هو طبيعة
العلاقة بين السينمائيين العرب وثورات الربيع العربي، وهل ساهمت
السينما العربية في تحفيز المواطن العربي وحثِّه على الثورة؟ وكانت
الإجابة الأولى من نصيب الناقد السينمائي المغربي مصطفى المسناوي
الذي نفى أن تكون الأفلام التونسية هي التي دفعت المواطن التونسي
إلى الثورة. كما استبعد أن تكون الأفلام المصرية هي التي دفعت
المواطن المصري إلى الاعتصام أو الاحتجاج. ورأى أن الأسباب
الحقيقية التي دفعت المواطن العربي إلى الانتفاض هي الظروف
السياسية والاجتماعية الخانقة التي ساهمت السينما العربية بصفة
عامة على إخفائها وإلهاء الناس عنها.
أما رأي المخرج السينمائي المغربي محمد العسلي فيختلف قليلاً عن
مواطنه المسناوي، ويعتقد أن أي فيلم، أو أي عمل أدبي إبداعي موجّه
بصدق إلى الإنسان سيكون له تأثير معين. ويعتقد بأن هناك أفلاماً
عربية قد أثرّت وساهمت في تكوين الوعي العربي.
من جهته يعتقد المنتج اللبناني ميخائيل نعيمة أن السينما لها دور
في تثوير المواطن العربي حتى وإن لم يكن هذا الدور مباشراً، وهو
يرى أن فيلم "هي فوضى" ليوسف شاهين يتضمن كلاماً كثيراً عن الثورة
قبل حدوثها. كما أن فيلم "عمارة يعقوبيان" لمروان حامد هو فيلم
ثوري أيضاً ولا تختلف رواية "شيكاغو" لعلاء الأسواني في ثوريتها عن
الفيلمين السابقين. ويختم وجهة نظره بأن المخرجين والفنانين
والكُتاب هم الذين يقفون وراء الثورات التي حدثت في العالم العربي.
البحث عن هوية
أما المخرج السوري نبيل المالح فيعتقد أن السينما العربية تحاول
منذ زمن طويل أن تبحث عن هوية. وذكر أمثلة على أن السينما المصرية
كان لها شكل أو صيغة في الخمسينات والستينات ثم تبعها محاولة إيجاد
هوية سينمائية في السبعينات لذلك شاهدنا أفلاماً لافتة للنظر من
الجزائر وتونس ولبنان وسوريا ومصر غير أن السقوط السياسي
والاجتماعي والاقتصادي الذي تعرضت له المنطقة العربية أسقط معه
السينما. لم يرد المالح أن يكون متشائماً لكنه يعتقد بأننا مقبلون
على أيام صعبة ومعقدة على مختلف المستويات السياسية والثقافية
والاجتماعية والفكرية كما تثير تساؤلات جدية حول الغد.
الممثلة التونسية سهير بن عمارة تعتقد أن إيطاليا التي تحطمت في
الحرب العالمية الثانية قد خرجت علينا بـ "طلّة" مغايرة وهي
"الواقعية الجديدة". وهي ترى بأن السينما توثق للأحداث التي تقع
ولم تكن بعيدة عن رصد المشكلات السياسية والاجتماعية.
أنسنة المكان
ركّز المخرج التونسي محمد زرن على شارع بورقيبه وتعامل معه وكأنه
شخص حي يرى ويسمع ويختزن الذكريات وقد شهِد كل الأحداث التاريخية
والتغييرات السياسية والاجتماعية في تونس فلاغرابة أن يكون مخزناً
للفكر والخيال والتحولات.
يؤكد زرن بأن المُشاهد يمكن أن يرى في شارع بورقيبة كل التوانسة
بأفكارهم وألوانهم المتنوعة وتشابهاتهم الاجتماعية. فهذا الشارع من
وجهة نظره يتغيّر بين ساعة وأخرى وكأنه إنسان يتغير مزاجه بين لحظة
وأخرى.
أخذ زرن حصة مماثلة لحصة نوري بوزيد الطويلة نسبياً ليحدثنا أيضاً
عن شاعر تونسي قال بأنه سيكون مشروعاً لفيلمه الوثائقي القادم ثم
قرأ لنا هذا الشاعر قصيدته طويلة نقتبس منها الآتي: "هي الحياة
عندي رغيف خبز لم يكتمل، وماء بئر لا يُحتمل، وأشياء شتّى لا
تغتفر، وحلم أجيال حيارى يبحثون عن وطن . . . أين الوطن؟".
ولكي يضعنا المخرج حبيب باوي في صُلب الأحداث كان يقدّم لنا بين
أوانٍ وآخر مشاهد من بعض الأفلام التي يُشار إليها سواء من قبل
المخرجين السينمائيين الذين تتم مقابلتهم أو الشخصيات السينمائية
الأخر التي ترد على ألسنتها أفلاماً محددة. وبما أننا إزاء ثورات
الربيع العربي فلابد أن نتوقع مشاهد عنف وقمع ودماء وغازات سامة
ورصاص حي وما إلى ذلك.
علاقة متبادلة
المخرج المصري يسري نصر الله صاحب فيلم "بعد الموقعة" قال إن
العلاقة بين السينما والسياسة متبادلة ويرى أن السينما المصرية على
وجه التحديد كانت سينما معارضة منذ خمس عشرة سنة وكانت تطرح
تساؤلات سياسية واجتماعية كبيرة على النظام القائم آنذاك، وقد
تطرقت بشكل عنيف جداً في بعض الأحيان عن الأشياء غير المقبولة وغير
المحتملة في المجتمع المصري. ولتأكيد هذا الجانب يقدِّم لنا المخرج
مشهداً من المظاهرات التي تصرخ بالفم الملآن: "يا جمال قل لبوك /
الشعب المصري بيكرهوك" ثم نشاهد خطاباً للرئيس حسني مبارك يدعو فيه
المسؤولين إلى خدمة الشعب وحماية المواطنين.
يعتقد نصرالله بأن آخر أفلام يوسف شاهين، بل حتى الأفلام التجارية
لعادل إمام كانت تتطرق إلى صميم الإشكاليات التي يواجهها الشعب
المصري، وكانت تنحاز لفكرة مواجهة الفوضى التي يخلقها نظام فاسد.
ويخلص إلى القول بأن السينما المصرية قد أثرّت في بلورة أفكار
الناس وتأثرت برغبتهم في التغيير.
ذكرَ المخرج عبدالله الهالي بأن ليبيا لا توجد فيها سينما قبل
الثورة، وقد عانت طوال 42 سنة من قمع الكتاتور الذي لا يريد صناعة
سينما في بلده لأنه يخشى منها. فحينما يتوفر للمواطن الليبي على
أدب وسينما ومسرح وثقافة فإنه سيبدأ بالتفكير ومعرفة حقوقه
والمطالبة بها. كما أشار المخرج إلى أن هناك حراكاً ثقافياً قد حدث
بعد الثورة، إذ بدأت السينمات بعرض أفلام أوروبية ذات نوعية جيدة
في محاولة لإيصال هذه الثقافة البصرية للناس الذين حُرموا منها
طوال 42 عاما.
المبرمج العراقي انتشال التميمي الذي يتوفر على خلفية صحفية
وسينمائية قال بأن ما حدث في تونس ومصر من ثورة للشباب لا يعني
أنهم فقط مَن ساهم في هذا الأمر فهناك عدد هائل من الشيوخ والشباب،
والرجال والنساء الذين ذهبوا إلى السجون والمعتقلات وربما إلى
المنافي من أجل إعلاء كلمة الحق، ورفع كلمة الناس.
ثمة صوت لفتاة لم نرها كانت تتحدث عن المخاطر التي ألمّت بالشعب
التونسي وقد تحدثت نقلاً عن جارتها بأن هناك امرأة أصابها القناص
وهي في منزلها لذلك فهي تخشى على أبيها وأخيها حينما يخرجان من
البيت. ولم تكن تتصور ذات يوم بأن الشرطي التونسي يمكن أن يقف ضد
المواطن التونسي يضربه أو يطلق عليه النار.
النضال السينمائي
حظي المخرج نوري بوزيد بمدة زمنية أطول من أقرانه استرجع فيها
مرحلة شبابه حينما دخل منظمة العمل التونسي في سن الحادية
والعشرين، وهي منظمة يسارية ناضل فيها حينما كان يعيش في بلجيكا
وباريس. كما استذكر سنواته المريرة التي أمضاها في السجن منذ 1973
حتى عام 1979 إثر عودته إلى تونس. أشار بوزيد إلى أنه لم يكن
منتمياً إلى حزب سياسي بعينه، لكنه كان معارضاً وقرر أن يكون نضاله
عن طريق السينما وليس السياسة.
يشدّد بوزيد على التأثير المحدود للأفلام التونسية لأنها لا
تُروَّج حتى عن طريق التلفزة التونسية التي تحذف العديد من اللقطات
والمشاهد التي لا تحذفها من الأفلام الأجنبية. لذلك فهو لا يعول
كثيراً على السينما التونسية التي أُوكل أمرها إلى السلطة التي
تمتلك القرار. والغريب أن التفزيون التونسي يشارك في إنتاج بعض
الأفلام ومع ذلك لا يعرضها أو يحذف لقطات كثيرة منها. لقد اشتروا
"آخر فيلم" لكنهم لم يعرضوه. أما فيلم "عرائس الطين" فقد شاركوا في
إنتاجه لكنهم حذفوا منه 25 دقيقة من أصل 100 دقيقة.
ربما تكون المشاعر التي أدلت بها شابة تونسية ضروية جداً لكي نفهم
الوجه الآخر للناس فهي تحمل صورة لرئيس الجمهورية السابق بن علي
وتقول بأننا كنّا متمسكين به ونحبه، وأنها شخصياً كانت تحبه لكنها
لم تكن تعرفه على حقيقته المزرية. وحينما عرفت ما قام به من نهب
وسلب لثروات البلد خيّب أملها.
لا يزال صوت الفتاة يتحدث عن بعض المواطنين التوانسة الذين لجأوا
الجوامع والكنائس كي يلوذوا تحت تمثال السيد المسيح أو صورة السيدة
مريم العذراء، يوقدون الشموع فتلتمع أعينهم الخائفة من عنف
السلطات الأمنية وبطشها.
حدْس الأم
ربما يكون حديث السيدة أم محمد البوعزيزي هو الأكثر ملامسة لمشاعر
المتلقين فهذه سيدة بسيطة متواضعة عادت إلى البيت في ذلك الصباح
ووجدت محمداً غارقاً في نومه حتى أنها حينما حدقت إلى وجهه وجدت
فمه مفتوحاً ووجهه مشعاً ملتمعا فظنت أنه متعب جداً. همّت أن تطبع
على وجهه قبلة لكنها ترددت وقالت في سرّها: "كيف أقبّل ابني وقد
أضحى رجلاً في السادسة والعشرين من عمره؟". قدّمت رِجل وأخرّت أخرى
لكنها ظلّت في ترددها. حاولت أن ترتب المكان لكنها لم تستطع. بحثت
عن بعض الأشياء لكنها لم تجدها. كان شعورها الداخلي كأم يخبرها
بوجود خطأ ما لكنها لم تعرف ما هو هذا الخطأ على وجه التحديد.
وحينما ذهبت إلى العمل شعرت بثقل قدميها، فحدسها الأمومي كان يقول
لها شيئاً ما لا تعرفه لكنها لم تكن تتوقع بالتحديد ماذا سيحدث لها
أو لابنها وما الذي تخبئه الساعات القادمة.
لا يقل اللقاء الذي أجراه المخرج مع زميل محمد البوعزيزي في ساحة
العمل حيث سلّط هذا الشاب الضوء على السبب الحقيقي الذي أفضى إلى
هذا الحادث المروع. فنحن كمتلقين لم نكن نعرف أن هناك شجاراً ما قد
حدث بين الشرطية ومحمد ألبوعزيزي، إذ أقدمت هذه الشرطية الفظّة على
أخذ صندوق الكمثرى من عربته لكنه سحبه من يدها، ثم حاولت أن تأخذ
الميزان ولما سحبه جرح يدها فصفعته على وجهه أمام الملأ فظل
مدهوشاً فاغراً فاه. وحينما صرخ أمام الآخرين ليشهِدهم على تجاوزها
حاولت أن تغطي على فعلتها وسلوكها العدواني السيئ لكن سبق السيف
العذل، إذ أضرم البوعزيزي النار في جسده ولم يكن يدري بأنه أضرم
النار في تونس كلها لتمتد نيرانه الملتهبة إلى مصر وليبيا واليمن
وسوريا والمغرب في أقل تقدير.
اختار حبيب باوي جزءاً معبِّراً من خطاب الرئيس زين العابدين بن
علي الذي اعترف أول مرة بأنه فَهِم كلام الشعب التونسي وأن الأوضاع
تفرض تغييراً عميقاً وشاملاً. لقد فهِم الآن فقط، فهم الجميع . . .
العاطل عن العمل، والمحتاج والسياسي الذي يطالب بمزيد من الحريات.
لقد فهِم متطلبات الجميع لكن بعد فوات الأوان ثم نسمع من بين أبيات
النشيد الوطني "نموت نموت ونحيا الوطن"، وهي نهاية منطقية وواقعية
لم ينتبه إليها الحكام العرب الذين هربوا أو واجهوا مصائرهم
المحتومة شنقاً أو حرقا بالنار أو رمياً بالرصاص، ولن ينتبه إليها
الباقون، ولن يتعظوا أو يأخذوا عبرة من الدروس القاسية التي
شاهدوها بأم أعينهم.
ينتمي هذا الفيلم إلى تقنية "الرؤوس المتكلمة" التي تعبِّر عن كمٍ
كبيرٍ من الرؤى والأفكار التي تدور في أذهان هذه الشخصيات
المُنتخبة التي وقع عليها اختيار المخرج حبيب باوي ساجد الذي بنى
فيلمه الوثائقي بناءً رصيناً، ليس فقط من حيث تتابع الأفكار
وسلاستها، وإنما من حيث الربط الدقيق والجميل بين كلام الشخصيات
المتحدثة وبين مَشاهد الأفلام التي ترد على ألسنتهم. كما لعب
التوثيق المباشر لمشاعر والدة البوعزيزي وأحاسيسها الداخلية دوراً
مهماً في إثراء هذا الفيلم وتعزيز وجهة نظر مخرج الفيلم وكاتب قصته
السينمائية الذي ربط بين الخاص والعام في هذه الحادثة لينسج بحرفية
واضحة بين عالميها البرّاني والجوّاني في آنٍ معا.
الجزيرة الوثائقية في
|