فى مدينة «الكاوتش»..
100ألف عاشق للسينما!!
كتبت: امل فوزى
أليس حب السينما واحترامها جزءا لا يتجزأ من صناعتها وفلسفتها؟..
ما جدوى وجود مبدعين وصناع للأفلام بدون جمهور يستقبل ويشاهد ويفهم
معنى تلقى الفيلم السينمائى؟
ما جدوى وجود المخرجين والكتاب بدون وجود أى مساحة لسقف الحريات
والأفكار والتعبير دون أن تكون هناك رقابة من الذات أو من الآخر؟..
ما معنى إقامة مهرجان سينمائى يحضره المثقفون والسينمائيون وصناع
الأفلام وحدهم،.. وبدون جمهور لا علاقة له بالسينما إلا أن يحبها
ويتذوقها أو على الأقل لديه فضول الاكتشاف لهذا العالم؟
كل هذه التساؤلات وأكثر تبقى وتشغل بالى وفكرى فى كل مرة أحضر فيها
مهرجان «كليرمون فيران» للأفلام القصيرة بفرنسا. هذا العام.. كانت
الدورة السادسة والثلاثين لهذا المهرجان السينمائى العالمى الذى
يعد أحد أهم المهرجانات التى رسخت صناعة وتيار الفيلم القصير
والتجريبى والتسجيلى والرسوم المتحركة.
هذا المهرجان الذى يعد ثانى أهم مهرجان سينمائى عالمى فى فرنسا بعد
مهرجان «كان».
ذلك المهرجان يكفى أن أقول لك إن هناك أكثر من مائة ألف شخص
يحضرونه سنويا!!!
لا أبالغ إذا تحدثت عن هذا المهرجان بوصفه نموذجا وتجربة فريدة فى
مجال سينما الفيلم القصير، فإذا أردت أن تعرف معنى «السيستم» أى
النظام والتطور والارتقاء والرؤية والانفراد، عليك أن تعرف أن ذلك
المهرجان نجح فى أن يجمع بين كل هذه القيم... ذلك المهرجان الذى
بدأ مؤسسوه وهم مجموعة صغيرة من النقاد السينمائيين ومحبى السينما
عام 1979 بعمل أسبوع لعرض الأفلام ومنذ عام 1981 بدأ المهرجان بمنح
الجوائز لصناع الأفلام الفائزة.
كبر المهرجان بروح الدعم الذاتى والأهلى، حتى أصبحت هناك مؤسسات
للسينما تتشرف بأن تصبح جزءا أو محورا من برامج هذا المهرجان.
توسع المهرجان بنظام لا يحيد عنه من الدقة وإتاحة الفرصة لجمهور
المواطنين الفرنسيين المحبين للسينما والمحترمين لها بتلقى أفلام
قصيرة من جميع أنحاء العالم فى مدة تسعة أيام هى فترة إقامة
المهرجان، حيث تشع مدينة كليرمون فيران بروح السينما والفن فى كثير
من القاعات والمراكز الثقافية ودور العرض فى أرجاء المدينة الصغيرة
لتجد صفوفا وازدحاما وطوابير لا نهائية من الجمهور والمواطنين
العاديين يقفون فى انتظار حضور برنامج للأفلام القصيرة بمنتهى
الأدب والاحترام.
تجد عائلات بأكملها وعجائز وشبابا، ناهيك عن رحلات المدارس فى
الوقت المخصص لعرض أفلام الأطفال، تجد دأبا حقيقيا لجمهور يفهم
قيمة الفيلم القصير، تجد أناسا قد خصصوا إجازتهم من أعمالهم فى
فترة المهرجان حتى يتسنى لهم مشاهدة أكبر قدر من الأفلام، ومن لم
يستطع، تجد وجوها مألوفة قد تأتى يوميا بعد انتهاء عملها أو
دراستها لحضور الأفلام.
كثافة جماهيرية مذهلة تدل على أن هذا المهرجان ليس مجرد حدث
سينمائى عادى، لكنه أصبح تقليدا سنويا وركيزة من ركائز احتياجات
الجمهور وسكان هذه المدينة.
عندما نتحدث عن مدينة كليرمون فيران، فنحن لا نتحدث عن عاصمة النور
بباريس، لكننا بصدد مدينة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 43 كيلومترا
مربعا، ولا يتجاوز عدد سكانها 160 ألف نسمة، نتحدث عن مدينة صغيرة
فى الجنوب الشرقى من فرنسا، تعتبر مدينة صناعية تشتهر بتصنيع
كاوتشوك «ميشلان».
تدل إحصاءات المهرجان على أن هناك أكثر من مائة ألف زائر يرتاد
المهرجان تزداد نسبتهم كل عام، هذا دليل على أن نسبة كبيرة بكل
تأكيد من سكان البلدة والضواحى المجاورة يشكلون كتلة مشاهدة كبيرة
للغاية.. هل هذا يعطيك انطباعا ما بمدى حب وعشق وتقديس سكان هذه
المدينة الصناعية للسينما؟
هذا المهرجان لم ينجح فحسب فى تأسيس وترسيخ علاقة الجمهور بالسينما
القصيرة، لكن هذا المهرجان قد نجح بالفعل فى صناعة نجوم من
المخرجين الذين أصبح لهم اسم وباع فى السينما العالمية، لهذا فقد
أصبح هذا المهرجان حلما أيضاً للسينمائيين وصناع الأفلام القصيرة
والتسجيلية والتجريبية بأن يحظوا بقيمة اختيار وعرض أفلامهم فى
مهرجان كليرمون فيران، فما بالكم بالفوز فيها؟!
الكلام كثير عن هذا المهرجان وعن تاريخه، ولكن الأروع هو كيف يطور
المهرجان رؤيته السينمائية، ففى هذا العام أضاف قسماً آخر يضاف إلى
برامجه المتعددة وهو قسم أفلام 3 أو الأفلام ذات البعد الثلاثى
التى لابد من مشاهدتها بارتداء نظارة خاصة يتم توزيعها على
الجمهور، ومن خلال جهاز خاص يتم العرض عليه، ويعتبر هذا النوع ثورة
وتيارا جديدا انتبه له صناع الأفلام وبالتالى كان المهرجان مواكبا
له بمنتهى التطور والحداثة، وكان فرصة لالتقاء السينمائيين وصناع
الأفلام بمنتجى ورواد إنتاج وصناعة الأفلام ثلاثية الأبعاد وعمل
ندوة وتعريف بمدى أهمية الأفلام 3 وكان من أهم الأفلام المعروضة
فيلمSouviens-moi أو
لا تنسانى لمخرجته «جوزفين ديروب» التى تعد واحدة من أهم مخرجى
الأفلام الثلاثية الأبعاد فى العالم. إن المهرجان لا يتخذه الكثير
من رواده على أنه فرصة للمشاهدة الرائعة لأفلام تأتى من جميع أنحاء
العالم وتعرض موضوعاتها فى عوالم تؤكد لنا أننا نعيش فى قرى معزولة
عن بعضنا البعض وأننا لا نعرف عن الآخر وعن واقعه إلا القليل، ما
أروع هذه السينما التى تنقلك بالخيال والفكر والقلب إلى مساحات
إنسانية أخرى، لمعاناة أناس يعيشون فى أفريقيا أو فى مدينة صغيرة
تسجل واقع الحياة فى المحاجر فى أمريكا اللاتينية، أو فى قرية
صغيرة فى كمبوديا أو ربما تنقلك إلى مساحات لشطحات العقل بجنونه
والذى يبدأ بخيال أطفال يلعبون لعبتهم المفضلة وهى ربط أنفسهم
بكرسى متحرك، يربطونه خلسة وراء حافلة أو مقطورة تسير فى طريق سريع
وهم بدورهم يدخلون فى مغامرة اكتشاف الطريق والحرية بطريقتهم.
أنماط مختلفة من الحياة والرؤى الإنسانية والسياسية والإبداعية
تشاهدها فى الأفلام من مناطق فى العالم كثيرة، ولكن هناك أيضا -
كما ذكرت - أهداف رائعة للمهرجان، وهى التعرف على تجارب آخرين فى
التعبير عن عشقهم للسينما.
من يريد تحقيق حلم ولديه رؤية ووعى وإرادة وقدرة على مواجهة
التحديات فى أى مجال يمكنه تحقيق حلمه، وهذا ما جذبنى فى الفتاة
الإيطالية الشابة التى أتت إلى المهرجان فى ثانى عام لها، وهو عمر
تأسيس مهرجانهم المستقل فى جنوب إيطاليا فى مدينة «كالابريا»، هى:
سارة فارينتينى
Sara Farintini
التى لخصت التحديات التى تواجهها هى وفريق العمل فى تأسيس مهرجان
فى الجنوب قائلة: للأسف.. الناس والمؤسسات تتعامل مع إيطاليا على
أنها روما فحسب، أما من بعدها وكأنه لا توجد إيطاليا، دائماً
الجنوب يقع عليه ظلم كثير، لهذا نحن أقمنا المهرجان بجهود ذاتية
لأننا نحب السينما وعندما قدمنا العام الماضى إلى مهرجان كليرمون
فيران لم تكن لدينا أى مطبوعات أو مواد نقدم بها أنفسنا أو فكرة
وهدف المهرجان ولكن كليرمون فيران ليس مهرجانا عاديا، لكنه فرصة
للتعلم لمن يريد أن يتعلم كيف تقام وتؤسس المهرجانات على أساس قوى،
لذلك أتينا هذا العام ونحن مستعدون إلى حد كبير بمطبوعاتنا،
بمقابلة ممثلين لمهرجانات أخرى فى العالم، بتقديم فكرتنا فى التوسع
فى إيطاليا، وأوروبا، وأيضا التعرف والتبادل بيننا وبين الشرق
الأوسط لأنها منطقة زاخرة بالسينما والثقافة، وبالفعل كانت مسألة
التواصل فعالة هذا العام، وإذا كنا قد عرضنا 04 فيلماً العام
الماضى فى المهرجان فى دورته الأولى، فأعتقد أن هذا العام سيزداد
العدد بعدما تعرفنا أكثر على مخرجين وشاهدنا أفلاما كثيرة رائعة.
مهرجان سارة وأصدقائها يحمل اسم
La guarimba وعندما
سألتها عن المعنى فاجأتنى قائلة بأن هذا الاسم مشتق من كلمة مذكورة
فى الدستور فى فنزويلا يستخدمها المعارضون فى مواجهتهم للشرطة
بمعنى: «مكان آمن»، ورغم أن المهرجان لا يحمل أية صبغة سياسية،
ولكنهم فضلوا استخدام كلمة من جذور اللغة لترسخ قيمة أو فلسفة
المهرجان بأنه «مكان آمن».. سواء للحلم أو لحرية التعبير والإبداع
والثقافة.
وأكـــثر ما لفـــــت نظــــــرى فى شــــــعار مهرجـــــان
La guarimba هى
تلك الجملة التى تلخص وتشــــرح روعـــــــــة الســـــينما
كرســــــــــالـــــة:
(The
cinema to the people and the people to the cinema)
أى السينما للناس أو للشعب والناس للسينما.. بالفعل السينما هى
اللغة التى توحد وترسخ التواصل بين البشر مهما اختلفت لغاتهم
وأفكارهم، ولكن الحس الإنسانى والهم والحلم والشقاء والمتعة تتجسد
عبر الصورة السينمائية فنكتشف أن قصصنا وحواديتنا الإنسانية
متشابهة وتكاد تكون متطابقة، والحقيقة أن السينما هى الوسيلة التى
تؤكد لنا هذا.
عندما يكون هناك مهرجان بهذه القيمة مثل مهرجان كليرمون فيران،
ويكون هناك تمثيل مصرى مشرف فى مسابقة الأفلام الدولية فهذا يعطى
تفاؤلاً وسعادة لنا وللمخرجين، ولكل صناع السينما للأفلام القصيرة
والتسجيلية والرسوم المتحركة، ففى هذا العام كان لى حظ التعرف فنيا
على المخرج الشاب المتميز عماد مبروك، الذى يطلق عليه فى مسقط رأسه
الإسكندرية بأنه الأب الروحى لأفلام الديجيتال، وعماد مبروك قد
أنجز الكثير من التجارب السينمائية بعد دراسة وعلم، فمن خلال عمله
بمركز الجيزويت الثقافى بالإسكندرية ومشرفاً على ورشة السينما
هناك، التحق هو أيضاً بها وحصل على شهادة، ثم كان ثانى دفعة تخرجت
فى المعهد العربى بالأردن والذى كان يشرف على دراسته المخرج عمر
أميرالاى، ومن بعدها كانت تجارب عماد هى خير معلم ومطور له ولرؤيته
الإخراجية والتى كان آخرها وبعد ثمانية أفلام.. فيلمه الذى مثل مصر
فى المسابقة الدولية الرسمية بكليرمون فيران وهو فيلم «وردية
يناير»، والتى كان لعماد فيه رؤية شديدة الذكاء وتنفيذها بدقة
وبوعى، وهى عن حالة الريبة والشك فى المؤامرات التى كانت تدبر لقتل
الثوار فى ثورة يناير، من الفاعل ومن هو الطرف الثالث - إن وجد
ذ وذلك من خلال مشاهد عادية من داخل بيت مصرى لزوج وزوجته «مع
الثورة وضدها»، المؤامرة التى دبرت للشعب هل الثورة «وطنية أم
عمالة»، هل القناصة والقتل «فعل بوليسى ومن داخل المؤسسة الأمنية
أم أنها الأيدى الخفية»، تساؤلات الشك والريبة سألها عماد مبروك فى
41دقيقة من التكثيف بلغة سينمائية بسيطة، والبساطة فى لغة السينما
«عمق وذكاء» ولمن يفهم الخلفيات السياسية لهذه المرحلة سيصله
الفيلم مؤثراً شكلا وموضوعاً.
أما الفيلم الثانى الذى كان ممثلاً لمصر فى المهرجان، فكان لمخرجه
عمر روبرت هاملتون، وكانت المرة الأولى التى أعرف فيها أنه ابن
الكاتبة والأديبة أهداف سويف، والتى كانت داعما جزئيا لفيلم عمر
«مع إنى أعرف أن النهر قد جف»، وعمر يعد من المخرجين المستقلين
الذين حاولوا توثيق الثورة بكل كواليسها وأحداثها من خلال «مجموعة
مصرين»، التى لها العديد من الأفلام التى توثق اجتماعيا وسياسيا
الكثير من الواقع المصرى، أما الفيلم الثالث لعمر فكان هو المعروض
فى مسابقة المهرجان والذى يجسد فيه عمر المعاناة بين البقاء فى
الوطن «فلسطين» مع الأخ والأهل و الأرض أم الرحيل «إلى الوطن»
لضمان حياة آمنة للطفل القادم إلى الحياة والذى لا يريده الأب أو
الأم أن يلقى مصير الألم أو الموت.. الوقوع فخاً بين اختيارين
كلاهما صعب.. إلى أى حياة ننتمى؟!!
ورغم أن الفيلمين لم يحصدا جوائز فى مهرجان كليرمون فيران، فإن
المكسب الحقيقى هو ذلك التلقى الرائع من الجمهور وتعرف الجمهور
الفرنسى والنقاد وصناع السينما من دول عديدة بمخرجينا المصريين
المبدعين المثابرين فى محاولة صناعة أفلام تحمل هماً وأملاً
وواقعاً يريدون التعبير عنهم جميعا.. برؤى إبداعية تستحق الدعم
والانتباه والاحترام.
صباح
الخير المصرية في
|