«التحرير»
تنشر مذكرات تحية كاريوكا.. «الحلقة التاسعة»
كاريوكا: بدأت أتعلم الرقص أمام عينَى بديعة مصابنى
كاريوكا: كنت أجلس فى الكواليس أراقب بديعة مصابنى
وهى ترقص
أعدها للنشر- محمد توفيق
عندما قررت بديعة إنتاج فيلم «ملكة المسارح» حقق فشلاً ذريعًا..
وخرجت منه بديعة مصابنى وقد خسرت كل شىء: البيت والأثاث.. وكادت
تفقد الصالة أيضًا
كانت صالة بديعة تقدم برنامجًا جديدًا كل أسبوعين.. برنامجًا
جديدًا برقصات جديدة وموسيقى جديدة وأغانٍ ومونولوجات جديدة.. كانت
تنفق على فنها بسخاء شديد.. وكانت قد وضعت تقاليد شديدة الصرامة
لأسلوب العمل
لم تكن تحية تعلم أن أمها كادت تفقد صوابها.. وأنها ذهبت إلى
الإسماعيلية وأقامت دعوى على أحمد النيدانى تتهمه فيها بقتل ابنتها
العثور على مذكرات كاريوكا أشبه بالحصول على كنز، فمذكرات تحية
كاريوكا لا تعكس فقط قصة حياة أشهر راقصة عرفتها مصر، لكنها تعكس
صورة لحال البسطاء والحكومات فى مصر طوال ما يزيد على نصف قرن من
الزمن.
ولدت قبل 14 يومًا فقط من قيام ثورة 1919، وعاشت أجواء حرب 1948
ووقفت إلى جوار الفدائيين وساعدت فى نقل الأسلحة إليهم، وحين رأت
أن ثورة يوليو انحرفت عن مسارها انتقدتها، ودفعت الثمن، ودخلت
السجن.
لكن الأجمل والأهم والأمتع هو أن تقرأ هذه المذكرات بقلم العم صالح
مرسى الأديب الذى جعل من الجاسوسية أدبًا وفنًا.
فتحية إلى «كاريوكا» بنت البلد المصرية الصميمة، الخالصة،
المُخلصة، الشُجاعة، الجدعة، وتحية إلى المبدع الرائع الراحل صالح
مرسى، فكلاهما لم يرحل عن القلب والذاكرة رغم رحيلهما عن الدنيا.
وتلقفت تحية هذا الإحساس الغامر بإحساس مقابل، بعطش متزايد.. كانت
قد فقدت هى الأخرى فاطمة الزهراء.. أمها التى تعيش بعيدًا عنها فى
المنزلة مطرية.
فى بيت أخيها، لا تعرف مصير ابنتها، تسأل عنها فلا تأتيها سوى
أجوبة غامضة عن هروب فى الليل إلى مكان مجهول.. ولم تكن تحية تعلم
أن أمها كادت تفقد صوابها فى ذلك الوقت، ولم تكن تعلم أنها ذهبت
إلى الإسماعيلية، وأنها رفعت دعوى على أحمد النيدانى تتهمه فيها
بقتل ابنتها حتى يرثها ويرث ما ورثته من مال.. لم تكن تحية تعلم
شيئًا من هذا على الإطلاق، لكنها كانت تحس به إحساسا غامضًا، وتشعر
بالحنين الشديد الدامع إلى صدر الحنان الوحيد، ووجدت بعض هذا
الحنان -الكثير منه- فى صدر «المدام» التى رغم أحزانها لم تنكسر
أبدًا!
لم تنكسر بديعة رغم تمرد أنطوان، وجولييت، وببا.. لم تنكسر حتى
عندما فقدت كل شيء، وأصبحت تنام على سرير من حديد!
ففى تلك الأيام، كانت السينما المصرية لا تزال تحبو، رغم مرور عشر
سنوات تقريبًا على بدايتها، وأرادت بديعة مصابنى -ملكة الاستعراض
فى عماد الدين- أن تجرب حظها.. فأنتجت فيلمًا عنوانه «ملكة المسارح».
وكما كانت تفعل فى الصالة.. أنفقت على الفيلم بسخاء.. كانت صالة
بديعة تقدم برنامجًا جديدًا كل أسبوعين، برنامجًا جديدًا برقصات
جديدة وموسيقى جديدة وأغان ومونولوجات جديدة، كانت تنفق على فنها
بسخاء شديد، وكانت قد وضعت تقاليد شديدة الصرامة لأسلوب العمل فى
الصالة.. وعندما قررت إنتاج هذا الفيلم فعلت نفس الشىء، وأنفقت
ببذخ، لكن الفيلم عند عرضه، حقق فشلاً ذريعًا، وخرجت منه بديعة
مصابنى وقد خسرت كل شىء، البيت والأثاث، وكادت تفقد الصالة أيضًا.
ففى الصباح التالى لوصول تحية، وقع الحجز على البيت -بعد أن بيع
الأثاث- كما وقع الحجز على الصالة.
وكان هذا فوق ما تحتمل بديعة.. لكنها لم تنهزم، ولم تتوقف، كان فى
الصالة عشرون فتاة، يرقصن ويغنين ويظهرن فى الاستعراضات، وكانت
فيها أيضًا فرقة أجنبية مكونة من عشرين فتاة «هنغارية»، وكان هناك
موسيقيون وعمال وفنانون ومطربون، ووسط هذا كله، لم تنسَ بديعة
تلميذتها الجديدة، فسرعان ما ألقت بتحية وسط «مجاميع» الفتيات،
وعهدت إلى مدرب للرقص اسمه «أيدى» أن يمرنها على الخطوات: «علمها
يا أيدى علشان تشتغل فى المجاميع»!
ووسط العشرين فتاة، ألقت تحية بنفسها، وبدأت تتعلم أولى خطوات
الرقص على يدى «أيدى» وأمام عينى بديعة مصابنى وتحت إشرافها، وبدأت
تخطو أولى خطواتها على سلم الرقص الطويل!
■
■
كان أول ما تعلمته تحية التى أصبح اسمها منذ ذلك اليوم «تحية
محمد»، هو احترام «المدام»!
ذلك أنها سرعان ما اندمجت وسط تينا وجينا وفردوس.. و.. و.. وكل
البنات فى مدرسة بديعة بسرعة، وتوطدت بينها وبينهن العلاقات، كانت
توقع كل صباح -مثلها مثل كل راقصة أو راقص- فى دفتر الحضور
والانصراف، وكانت مثلهن إذا ما غابت «المدام» تلعب وتضحك وتصهين عن
التدريب.. حتى إذا هلت «المدام» فى أول الشارع أو آخره.. دوت فى
الصالة صيحة أحدهم أو إحداهن:
«المدام
جت.. المدام جت!».
وسرعان ما يفر الجميع، الكبير والصغير، ويلزم كل إنسان موقعه،
لتدخل «المدام» فتمارس العمل بلا كلل!
كانت بديعة إذا ما دخلت فى الصباح، توقفت وسط الصالة لتحاسب الجميع
على ما حدث بالأمس.
«خدى
إنت هنا.. إنت عملتى كذا وكذا إمبارح.. مخصوم لك خمسين قرش، وإنت
يا فلان الساعة كذا حصل منك كذا وكيت.. مخصوم منك ريال.. وانت..
وانت.. وانت»!
و.. وتبدأ التدريبات.. وتبدأ الموسيقى فى العزف فى تمام التاسعة
والنصف صباحًا، لم تكن فتيات بديعة يعرفن الإجازات إلا يومين كل
أسبوعين، عندما يبدأ برنامج جديد، كانت تحاسب الكبير والصغير وترقب
خطوات المبتدئات والمخضرمات، وكانت ترقب خطوات تحية أكثر من أى
راقصة أخرى.
«وانتِ
بترقصى، انسى كل حاجة.. انسى نفسك، سدى ودانك، اوعى تسمعى كلمة من
اللى بتتقال فى الصالة، خلى عقلك وقلبك وروحك فى رجليكى إذا كنتى
عاوزه تبقى رقاصة بحق وحقيقى!»
كان أيدى قد بدأ يدرب تحية على رقصات المجاميع، وكانت تحية قد
أصبحت -رسميًّا-راقصة عند بديعة باسم «تحية محمد» وبمرتب قدره
ثلاثة جنيهات!
وفى صالة بديعة غرقت تحية لأذنيها فى الرقص، وضعت كل همها فى
مراقبة الراقصات وفى تقليد «المدام».. كانت تجلس فى بداية أيامها
هناك -فى الكواليس لترقب بديعة وهى ترقص.. غير أن أكثر ما كان
يشجعها حقًّا، هو ذلك العزف الذى كانت بديعة تعزفه بالصاجات، كانت
«المدام» إذا ما بدأت صاجاتها فى العزف، طغى صوتها على صوت
الموسيقى، وكثيرًا ما كانت الموسيقى تتوقف لتفسح الطريق لعزفها
الشجى العظيم!
■
■
غير أن الرقص لم يكن بعد هو كل شىء فى حياة تحية، كانت بديعة هى
«كل شىء فى حياتها»!
وكما كانت هذه السيدة الغريبة القوية مدرسة لعشرات الراقصات اللاتى
لمعن فى سماء مصر، كانت بالنسبة لتحية مدرسة من نوع خاص.. كانت
مدرسة حياة قبل كل شىء.
وفى صالة بديعة، كان هناك العشرات من نجوم الغناء والرقص، كان هناك
فريد الأطرش وحورية محمد ومحمد عبد المطلب وبشارة واكيم وعبد الغنى
السيد، وكان محمد فوزى شابًّا صغيرًا جاء حديثًا من طنطا.
ولا تذكر تحية -وربما لا يذكر أحد- متى صعدت إلى المسرح لأول مرة.
غير أن شريط الذكريات يمتد إلى رقصة فرعونية، كانت حكمت فهمى
-الراقصة التى تجسست لحساب الألمان فى أثناء الحرب العالمية
الثانية- تظهر فى تابلوه فرعونى باسم «نفرتيتى».. وكان هذا
التابلوه يضم مع حكمت المطرب الشاب محمد عبد المطلب، فى دور قائد
فرعونى، وكان أيضًا هو أول الطريق لتلك الراقصة الناشئة، التى
انتهى «أيدى» من إعدادها فى أسابيع قليلة.. فكانت تحية تدخل -مع
غيرها من البنات- فى توابيت مغلقة، ثم إذا أضيئت أنوار المسرح،
خرجن من التوابيت، واتجهن بخطوات راقصة نحو الداخل، وصحن فى وقت
واحد: «الملكة نفرتيتى»!
وهنا تظهر حكمت فهمى -نفرتيتى- فوق محفة يحملها أربعة من العبيد،
وتبدأ الراقصات مع الموسيقى وغناء محمد عبد المطلب.. قالوا لتحية
إن لفريد الأطرش شقيقة كانت تغنى عند بديعة منذ عام واحد فقط.
وقالوا لها إنه أمير من الشام!
غير أن فريد لم يكن يتصرف كأمير، كان -مثلما كان دائمًا- طيبًا،
وودنيًّا!
وكانوا إذا أرادوا مداعبته، ذهب أحدهم إليه وأخبره أن أحدًا خاض فى
سيرته.. فلا يلبث فريد أن يغضب، ويحتج.. فكانوا يضحكون، ويدهشون،
كيف تجتمع هذه الكمية الهائلة من الطيبة والحنان، مع هذا الإغراق
فى تصديق كل ما يقال له؟!
غير أن يومًا جاء، كان هو أسعد أيام تحية على الإطلاق.
فذات صباح كان أيدى يشرف على إحدى بروفات المجاميع فى «نمرة»
جديدة.. وفى الصالة، كانت المدام تراقب الراقصات بعين الخبير، تنقد
وتسب وتلعن.. لكنها فى هذا الصباح كانت مهتمة بشكل غير عادى..
بساقَى تحية وهى تؤدى البروفة.. وفجأة، وأمام الجميع، صاحت بديعة:
«لأ..
دى رجلين رقاصة.. انت رجيلكى اتخلقت للرقص!».
ثم التفتت نحو «أيدى» قائلة أمام الجميع: «اعمل لها رقصة لوحدها يا
أيدى!»
ثم مضت!
فى ذلك اليوم.. انتبهت تحية محمد لشىء غريب وجديد وغامض، كان يقتحم
حياتها.
ثمة شىء ينساب من داخلها ويتفجر كالينبوع فيغرقها حتى أذنيها..
ارتجفت من الأعماق حقا، لكن شيئا ما حدث فى الصباح التالى، فجعلها
تكاد تفقد صوابها، تكاد تجن!
■
■
لم يكن أحد فى الصالة يعلم مدى ما تعانيه بديعة مصابنى من آلام سوى
تحية.
كانت كل محاولاتها لتسديد الديون تبوء بالفشل.
يوما بعد يوم ذهبت هذه المحاولات أدراج الرياح، فلم تكن بديعة
مصابنى من ذلك النوع الذى «يكلفت» أى شىء لابتزاز أموال الجمهور..
ذلك أن جمهورها لم يكن من السكارى وعمد الريف بإسرافهم الغريب..
كانت بديعة تقدم حفلة «ماتينيه» كل يوم ثلاثاء، لا تحضرها سوى
السيدات فقط من أسر مصر العريقة، وكانت تقدم كل يوم «عرضًًا» فى
التاسعة والنصف، يستمر حتى منتصف الليل، عرضا فنيا كاملا لا تخالط
فيه الفتيات أحدًا، وكانت فتيات المسرح ممنوعات من الجلوس مع
الزبائن.. ثم إذا انتهى البرنامج، بدأ «الكباريه».. وفى الكباريه
كانت تقدم الأغانى الفردية وبعض الرقصات.
وكان كل هذا يتكلف مالاً، وكانت أجور الفنانين والفنانات والموظفين
تتكلف مالاً، وكانت ببا عز الدين قد انتقلت من الإسكندرية إلى
القاهرة وأصبحت منافسة لبديعة، وكانت هناك -أيضًا- مارى منصور التى
لمعت فى «البسفور» الشهير.. والحالة تزداد سواء يومًا بعد يوم..
حتى جاءها ذات يوم أحد المتعهدين.. وعرض عليها القيام برحلة إلى
مدن الصعيد، تبدأ من بنى سويف إلى المنيا وأسيوط وجرجا وملوى.. و..
و.. وبدأت بديعة تستعد -مرغمة- للقيام بهذه الرحلة، علها توفر بعض
مصروفات الصالة، وتكسب بعض المال من جولتها.. واختارت لذلك عددًا
من الراقصات قررت أن تصحبهن معها، وكانت الراقصة «تحية محمد» واحدة
من هؤلاء الراقصات.
■
■
كان موعد السفر فى المساء.. وكانت تحية قد انتهت من العمل فى
الصالة وفى مساء اليوم السابق، وركبت الحنطور مع بديعة إلى الفيلا
فى حدائق القبة.. وفى الصباح.. استيقظت تحية لتوقظ «المدام» كى
تستعد للسفر.. وما إن دخلت عليها، حتى أدهشها ذلك الشحوب الغريب
الذى كسا الوجه الجميل.
«مالك
يا مدام؟»
ارتجفت تحية وهى تقترب من بديعة مصابنى، الراقدة على سرير صغير من
الحديد وجاءها الصوت واهنًا ضعيفًا:
«عندى
مغص!»
نادت تحية على «عزيزة» الوصيفة -وقد دهمها إحساس مقبض رهيب.. وجاءت
عزيزة لتسأل سيدتها بدورها عما بها.. وإذا بالمرأة تلمح شيئًا تحت
الفراش:
يا لهوى»!
ازداد جزع تحية:
«إيه
ده.. فيه إيه»؟!
كانت المرأة قد التقطت أنبوبة إسبرين، فارغة من تحت الفراش:
«أنبوبة
الإسبرين فاضية»!
وما إن استدارت تحية نحو بديعة، حتى كانت هذه تكاد تغمض عينيها من
فرط الإعياء وكان شحوب وجهها قد ازداد واشتد، وصرخت تحية:
«الحقينى
يا عزيزة بدكتور.. الحقينى!»
ووقعت الصبية من قمة الأمل، إلى حضيض اليأس القاتل، ها هو الجبل
ينهار، لقد انتحرت الأستاذة، وابتلعت أنبوبة الإسبرين بكاملها! |