في كتابه «سحر الأفلام: حكاية المؤثرات الخاصة في السينما» يخصص
الكاتب والمؤرخ جون برونسون فصلاً كاملاً للحديثِ عن المراحل التي
تَسَرَّبت من خلالها الألوان إلى الأفلام السينمائية لتصبح هي
الصيغة المُفضَّلة في النهاية عوضاً عن الأبيض والأسود.
يقول «برونسون» أن السينمائيين في بداية ظهور الألوان تعاملوا مع
الأمر بصورة احتفائية، «تحولت الأفلام إلى أحلامٍ ملونة» بحسب
وصفه، وكان فيلم «بيكي شارب»، الذي بلغت كلفته مليون دولار عام
1935 هو أول فيلم ملون بالكامل، ورغم من قيمته السينمائية المحدودة
وقصته الميلودرامية إلا أن التركيز على الألوان وحديتها –الأصفر،
الأحمر، الأزرق- في ديكوراته وملابس أبطاله كان أمراً جاذباً جداً
للجمهور، وهي الشيء الأساسي الذي اعتمدت عليه دعايا الفيلم في
حينها.
لاحقاً، كانت الألوان هي ما يمنح فيلماً مثل «ساحر أوز» عام 1939
عالمه الساحر، وليس من قبيل الصدفة أن الأجزاء التي تدور في «بلاد
العجائب» كانت الملونة، في حين أن بداية الفيلم ونهايته على أرض
الواقع صورها المخرج «فيكتور فليمنج» بالأبيض والأسود.
الألوان كذلك هي ما منحت فيلم مثل «ذهب مع الريح»، عام 39 أيضاً،
كل تلك الملحميَّة، ولم يكن من المتصور أن لقطة لـ«سكارليت أوهارا»
وهي تقف «سلويت» وخلفها الغروب كان من الممكن أن تكون بكل تلك
الأيقونيَّة لو لم نَكُن نَرى هذا الغروب باللون الوردي، أو كان من
الممكن لنا ملامسة تغيرات الزمن خلال الحرب الأهلية بدون القتامة
اللونيَّة التي تحرَّك الفيلم نحوها، من غلبة اللونين الأبيض
والأخضر، للونين الأسود والأحمر في مراحله اللاحقة.
مع ظهور «ألفريد هيتشكوك»، وانتقاله من بريطانيا إلى أمريكا، كانت
خياراته الفنيَّة تطوّر فعلاً من تعامل السينمائيين مع الألوان،
بدلاً من الصورة الاحتفائية التي وصفها «برونسون» بأنها «أحلام
ملونة»، بدأ «هيتش» في استغلال الألوان بصورةٍ أعمق وأكثر فنيَّة
وسينمائية، وبحسب استشهاد المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو في إحدى
مقالات «كراسات السينما» أن «هيتشكوك كان يجعل الألوان جزءً من
الحكايات، تماماً كما يفضل حكيها أحياناً بالأبيض والأسود»،
ويُضيف: «لا يمكن أبداً فهم فيلم مثل
Vertigo
بدون استيعاب كامل لرمزية اللون الأحمر»، وهو ما كان، في رؤية «هيتشكوك»
وخططه اللونيَّة: يعني الشَّهوة، وهو كذلك يعني المَوت، وفي
افتتاحيَّة الفيلم الكلاسيكية يُغرق «هيتش» بعض الكادرات باللونِ
الأحمر، وهو ما يترك أثراً عميقاً جداً ومرتبطاً بالشخصية، يستمر
بعد ذلك طوال الفيلم.
«هيتشكوك»كان أحد المُعلمين الكبار بشأن استخدام الألوان، ولاحقاً،
مع دخول التلفزيون، ومحاولة السينما إيجاد أدوات جذبها الخاصة،
صارت الألوان هي الصيغة الفيلمية الدارجة منذ مطلع الستينات،
وتجاوزت في الكثير من الأحيان كونها «مجرد ألوان»، وأصبحت جانباً
هاماً من أدواتِ المخرجين لسرد حكاياتهم بدلاً من مجرد زخارف
بصرية.
في هذا المَلَف، سيتم تناول عدد من أفلام عام 2013 المهمّة بصورةٍ
مُختلفة، تركز بالأساس على الطريقة التي تعامل بها المخرجين مع
الخطط اللونيَّة في أفلامهم، ومساهمتها في الحِكاية، أو في بناء
الشخصيات.
(1)
Short Term 12
– الحَركة من البارد إلى السَّاخِن
Short Term 12
هو واحد من أهم الأفلام المستقلة قليلة الكُلْفَة التي قدمت هذا
العام، وهو، بصورةٍ عامة، واحداً من أفضل الإنجازات السينمائية
التي قدمت في 2013.
يَحكي الفيلم عن مؤسسة لتأهيل المراهقين الذين يعانون من بعض
الاضطرابات، بطلة الفيلم «جريس» هي المسؤولة عن هؤلاء المراهقين،
قبل أن تحضر إلى المؤسسة مراهقة حادة وعنيفة الطباع تدعى «جيدن»،
العلاقة بينهم يُفترض أن تتجه من مرحلة «الرفض والنّفور» من جانب
«جيدن»، إلى «الطمأنينة والاعتماديَّة» على «جريس» كي تُساعد كل
منهما الأخرى، وذلك «التغيُّر» والانقلاب يحكيه المخرج «ديستون
كريتون» في ثمانية دقائق عَظيمة سينمائياً، كانت الألوان هي إحدى
خياراته الفنيَّة الفاعلة جداً فيه.
الفَصل يبدأ بهروب «جيدن» من المؤسسة، تَتبعها «جريس»، وتطلب منها
مُصاحبتها، توافق «جيدن» بشرط الحفاظ على مَسافة كافية بينهم.
في اللقطةِ الأولى: يختار المخرج «ديستون كريتون» لقطة واسعة جداً
لهم، يَبدو هُناك تقارباً جسدياً بين الفتاتين –وهي مُقاربة بصرية
عَميقة بالنسبة لماضيهم المُشترك الذي سنعرفه لاحقاً-، وتكون ألوان
اللقطة باردة تماماً "الرصاصي/الأبيض/الأخضر".
في تتابع اللقطات اللاحق، تتغيَّر المُعطيات في كُل مرة: تصبح
اللقطة أقرب، المسافة بين الفتاتين تقل، والألوان نفسها تتغير: من
ألوانٍ باردة (الأخضر/الأسود/الرصاصي) في اللقطة الثانية، إلى
غَلبة اللون الأصفر في اللقطة الثالثة، إلى اللونِ البرتقالي
الدَّافئ جداً في اللقطة الرابعة.
في المشهد الذي ينتهي عليه التتابع، تكون الشخصيتين في ذروة
الحكاية، ويبدأ جانباً من ماضيهم القاسي في الظهور، تحكي «جيدن»
لـ«جريس» قصة
كتبتها عن الأخطبوط الذي صادق القرش.. وصار يُطعمه إحدى أرجله كل أسبوع
حتى فقدها كلها فرحل القرش يبحث عن صديقٍ جديد، تسألها «جريس»: «هل
قام والدك بإيذائك من قبل؟»، يثبت «كريتون»اللقطة على وجه «جيدن»
مع صوت «جريس»: «هل لازال يؤذيك؟!»، تظل اللقطة ثابتة على وجه
«جيدن» التي بدأت تبكي بصوتٍ مَسموع، ويكون الأمر عميقاً ومؤثراً
جداً في «التورُّط» مع الشخصية، قبل أن يُنهي «كريتون» دقائقه
الثمانية بلقطةٍ تَختصر الحكاية كلها: فتاتين جالستان على الأرض
–وليس فوق السرير- مُنزويتان جداً وصغيرتان جداً تضع أحدهما يدها
فوق كَتف الأخرى، والألوان –الدافئة قطعاً- تَكون في أكثر درجاتها
راحة خلال الفيلم، في تلك اللحظة تحديداً تَكتمل العلاقة بين
الفتاتين بالصورة التي ستظلّ عليها
(2)
Gravity
– ألوان الكَون المحدودة
لا يَملك المُخرج ألفونسو كوران في فيلمه الذي يدور بالكامل في
الفضاء، باستثناء مَشهد الختام، ذلك التَّرف في التحكُّم في
العالم، بقدرِ ما يخضَع للصورة الحقيقية الدقيقة –قدر الإمكان- عن
الفضاء، وبالتالي فهو في النهاية يَبني عمله بخريطة لَونية مَحدودة
للغاية ومن الصعب تَبديلها.
يتعامل «كوران» مع ثلاثة ألوان أساسية: الأزرق الذي يَغلب على شكل
الكرة الأرضية، الأسود كلونٍ للخلفية الفضائية، والأبيض في
المَركبات البشريَّة وملابس روّاد الفضاء.
وهو في نَفس الوقت، يعتمد على ثلاثة مصادر رئيسية للإضاءة: الأرض
والشَّمس والنجوم باختلاف إضاءتها بين السطوع والخفوت.
في إطار تلك الإمكانيات القليلة في التلاعب بالألوان أو الإضاءة،
يُحاول «كوران» استغلال الأمر بقدرِ الإمكان للتعبير بصرياً عن
التّيمة الرئيسية التي يدور حولها الفيلم وهي «البَقاء» أو «البعث
من جديد».
يَستغل أولاً الحدَّة اللونية بين الفضاء الأسود والروَّاد ذوي
الملابس البيضاء في لقطتين: الأولى حين ترتطم بقايا القَمر الصناعي
الروسي بالمركبة الأمريكية وتتوه «د.ستون» عن البقية، اللقطة كافية
للتعبير عن كونها صَغيرة جداً في هذا الفضاءِ المُتسع.
اللقطة الثانية هي لـ«مات كولينسكي» حين يفُكّ رباطه مع «ستون»
ويتوه في الفضاءِ إلى الأبد، يؤكد «كوران» على نفسِ الأمر بشكل
بَصري، الفضاء واسع جداً على تلك الأجسامِ الصغيرة.
في بقية العَمل يتعامل «كوران» مع الشَّمس/النجوم تحديداً بدقّة،
وهي تَظهر في أربعة مواضع لتعبر عن المعنيين الأكثر ارتباطاً بهم
(الغروب والشروق) في مُقابل (الموت/الحياة) بالنسبةِ لعالم الفيلم:
1- يظهر اللون الأحمر في هذا الفيلم مرات نادرة، أهمها حين تتوه
«ستون» في الفضاء بعد افتتاحية الـ12 دقيقة –المدهشة سينمائياً-،
لا يعرف المُشاهد في تلك اللحظة إن كانت «ستون» سَتُنقذ أم لا،
يكون الضغط مُضاعفاً جداً، خصوصاً مع القرب الشديد من وجه «ساندرا
بولوك» والذي يزيد التورُّط معها، وفي ذلك الوقت يستخدم «كوران»
انعكاس أشعة الشمس الحمراء في طورِ الغروب –وهي لحظة موت للشخصية-
على وجهها، اللقطة تَكون مُخيفة فعلاً، الأحمر هنا يزيد التوتر..
وبصورةٍ أو بأخرى هو الموت.
2- حين ينقذ «كواليسكي» ستون ويبدآن في التحرك ناحية السفينة
الروسيّة، تكون لحظة هادئة، يتحرَّكان في الفضاء، وأمام مِصر
تحديداً بالمناسبة، وراءهم يكون الضوء الأصفر المطمئن للشمس/نجم في
مرحلة «الشروق»، الشخصية تجد نجاتها.
3- بعد أن ينتهي الوقود من المركبة الروسية، تغضب «ستون» بشدة
وتعتقد أن تلك هي النهاية، يَقطع «كوران» للقطة واسعة للمركبة
كاملة، في الخلفية.. أحد النجوم يَختفي ببطءٍ وراء الأرض، أمر له
أثر بصري قوي في لحظة ينتهي أمل الشخصية في الحياة، وفي النصف
الآخر من الشاشة –حين تتسع لقطة «كوران» أكثر- يكون هناك ظاهرة
The Green Aurora
التي تحدث على أحد قطبي الكرة الأرضية، اللون الأخضر للظاهرة
الخلاّبة لم يكن لغرض جمالي بقدر ما يضفي على اللقطة الكثير من
الرثاء والثقل وربما التعبير عن مَجهولية المَصير.
4- اللقطة الأخيرة حين تنجح «ستون» في الحركة بالسفينة الروسية،
وتكون بالقرب تماماً من المركبة الصينية التي ستعيدها للأرض،
الخلفية البصرية للقطة هي «شروق الشّمس»، والألوان المُعبرة عن
البدايات الجديدة، تماماً كـ«ستون» القريبة من النجاة و«البعث» مرة
أخرى نحو الأرض.
(3)
Frances Ha
– بالأبيض والأسود.. ذلك أفضل كثيراً
اختار المخرج «نواه بومباك» تصوير فيلمه «فرانسيس ها» بالأبيضِ
والأسود، وكان له سبباً وَجيهاً في ذلك: «نيويورك المُعاصرة
بالنسبة لي تبدو صاخبة وغالية، نيويورك التي نشأت عليها وعرفتها
عبر الأفلام كانت بالأبيضِ والأسود، ».
وفي فيلمٍ يدور جانباً عَميقاً منه حول علاقة البَطلة بالمَكان،
فإن اختياره للأبيض والأسود كان خياراً «حميمياً جداً يُناسب
القصة» بحسب تعبير «بومباك»، «كُنت أريد الاحتفاء بكل شيء، الأماكن
والأشخاص، وبطريقة سينمائية، الأبيض والأسود يمنحك نَكْهَة
كلاسيكية جداً لفعلِ ذلك».
يستخدم «بومباك» كل أداة يمتلكها لمنح فيلمه تلك النكهة
الكلاسيكية، يستخدم موسيقى من الأفلامِ القديمة على رأسها
The 400 Blows
لفرانسوا تروفو وContempt
لجان لوك جودار –أهم رموز الموجة الفرنسية التي أعلَت من قيمة
المُدن وعلاقة أبطال الأفلام بها-، يَضع تحيَّات متناثرة لكادرات
من أفلام «تروفو»، بل ويضع بوستر فيلمه
Small Change
في أحد المشاهد، وهو كذلك يستلهم روح «وودي آلان» في فيلمه
Manhattan
أو بشكلٍ أدق «كان يتسرب للفيلم دون أن أشعر» كما يقول «بومباك»،
ليجعل الفيلم نيويورك جَميلة جداً وكلاسيكية جداً، كالمدينة التي
عَرفها مخرجه في الأفلامِ صغيراً.
السبب الآخر لاختيار التصوير بالأبيض والأسود كان
«فرانسيس»/الممثلة جريتا جيرويج نفسها، الشخصية الاستثنائية التي
تُعلَّق عليها روح الفيلم كله، وهي بالأهمية درجة قيادة الخيارات
الفنية فيه، يَشرح «بومباك»: «شعرت أن فرانسيس ستكون جَميلة إذا
صورتها بالأبيض والأسود»، «حتى إن كانت تجري في الشارع لجلب بعض
الأموال من ماكينة الصرف الآلي، فإن الأبيض والأسود يجعل الأمر
فاتناً»، وهو ما حدث تحديداً، وصنع ربما أجمل شخصية سينمائية للعام
كاملاً، في واحدٍ من أجمل أفلامه.
(4)
The GrandMaster–
النور والظّل
يحكي فيلم
The Grandmaster،
للمخرج الصيني الشهير «وونج كار واي»، قصة معلم الفنون القتالية
«ييب مان»، الذي تعلم على يديه أيقونة السينما الأسيوية «بروس لي».
مُبكراً جداً، في اللقطة الافتتاحيَّة التي تسبق عنوان الفيلم
يَرغب «وونج كار واي» في إبهارنا بطبيعة الرجل الذي سيحكي عنه،
يصنع مشهداً قتالياً بارع الجَمَال، ولكن الأيقونية الحقيقية التي
يمنحها لبطله في المشهد يأتي تحديداً من القبعة التي يرتديها.
المشهد بكامله مَبني على اللونِ الأسود فَقَط، ويتلاعب «وونج كار
واي» –كبقية الفيلم- بالنور والظلّ من أجل منحه درجات مختلفة من
العمق في الصورة، الشيء الوحيد الذي يكسر تلك الحدة اللونية في
بناء المشهد هو قبعة «ييب مان» البيضاء في مواجهة رجال مُتشابهين
بالأسود، وهو ما يمنحه صورة أيقونية جداً تبقى في الذاكرة.
يَستلهم «كار واي» في خياره هذا تراثاً سينمائياً لأفلام الحركة
يَمنح القبَّعة أهمية ورمزية خاصة، تحديداً «جان بيير ميلفيل» في
فيلم
Le Samouraï
عام 1967، أو الأخوين كوين في
Miller’s Crossing
عام 1990، حيث تكون «قبعة» بطل الفيلم معبرة عن الشرف والكاريزما
والاحترام، وفي
Grandmaster،
ومع اللون الأبيض الذي يَجعله «كار واي» واضحاً في مشهد «أسود»
بالكامل، يَستطيع أن يفعل ذلك في مشهده الافتتاحي، وهو أمر يستمر
معنا طوال أحداث الفيلم.
(5)
Her
- أزرق وأحمر
Her،
للمخرج «سبايك جونز»، هو أكثر الأفلام المُخططة لونياً بشكل دَقيق
خلال هذا العام.
لا يوجد لَقطة رُبما في هذا الفيلم لا تلعب الألوان فيها دَوراً
هاماً في الحِكاية، التي تدور حول علاقة حُب تجمع بين كاتب وبين
نظام حاسوبي متطور يحمل اسم «سامانثا» وبصوتِ الممثلة «سكارليت
جوهانسون».
مُنذ المُفتتح يَكون هناك «تلخيصاً بصرياً حاسماً للشخصية»، نَرى
«ثيودور» يسير في شوارع المَدينة المُستقبلية، المَدينة تبدو
قاتِمَة جداً، تغلب عليها الإضاءة الزرقاء، «ثيودور» في المُقابل
يَرتدي سترة حمراء، نعلم عنه أنه شخص عاطفي جداً، يقوم بكتابة
رسائل بين الأحباء بفضل موهبته، ولكنه يَشعر بالوحدة، اللقطة تختصر
كل هذا بصرياً ولونياً.
حين يَسترجع «سبايك جونز» حياة «ثيودور» مع زوجته السابقة، في
فلاش-باكات سريعة، غالباً ما يُصوّر ذلك في ضوء النهار، بألوانٍ
يغلب عليها الأحمر والأبيض، الحياة الحقيقية التي يفتقدها بطله
حالياً.
وحين يقوم بشراء النظام الحاسوبي «سامانثا»، يُصبح العالم من حَوله
أكثر حميمية، سواء كان ذلك في جولةٍ ليلية ذات ألوان مألوفة، أو في
جولة صباحية على الشاطئ، أو وهو يتحرك بالمترو صباحاً، وعلى عَكس
لقطة المُفتتح التي يظهر فيها وحيداً وتَميل نَحو الزّرقة، ضوء
الشمس هنا يجعل الصورة حميمية.
وعند مروره بالتساؤلات أو التوترات بشأن تلك العلاقة، خصوصاً بعد
طلاقه الرسمي، غالباً ما يرتدي «ثيودور» السترة البُنيَّة، قبل أن
يُقرر إنهاء هذا الوضع المربك مع نظامه الحاسوبي، عند تلك المرحلة
من الفيلم.. يَضعه سبايك جونر في عدة لقطات واسعة، يرتدي في تلك
المرة قميصاً لَبني اللون، مُحايد عاطفياً، ومُحيطه يغلب عليه
الأحمر.. مع وجود فتى وفتاة في تكوين المَشهد، المدينة تبدو له
مُوحشة أكثر على تلك الصورة، لا تُراعي وحدته، أمر يؤكد عليه
«جونز» بصرياً في لقطة ينقض فيها نِسر على لوحة إعلانية تماماً على
ظَهر «ثيودور».
مع ملاحظة أن كل مشاهد تلك الفترة تصور ليلاً أو في إضاءة خافتة،
فإن عودة «ثيودور» و«سامانثا» يتبعها مباشرةً لقطة واسعة: ثيودور
يرتدي القميص الأحمر من جديد، ومُحيطه يَغلب عليه اللون الأخضر،
الأمور تبدو جيدة الآن.
في تلك المرحلة، حين يضع «جونز» لقطة أخرى وهو يسير في الشارع،
تكون الإضاءة أكثر حميمية من زرقة البداية، «ثيودور» يرتدي سترة
حمراء أيضاً ولكن وضعه الجسدي أكثر حرية وأقل تخشباً من اللقطة
الأولى، لأنه يتحدث مع «سامانثا»، ولكن الأهم في اللقطة هم أن
الناس من حوله أيضاً أكثر مرحاً وحميمية، وما لا يلاحظه «ثيودور»
-وسيلاحظه بعدها في نهاية الفيلم- أن الجميع يتحدث مع نظامه
الحاسوبي.
وفي النهاية، حين تتركه «سامانثا»، وترحل كل الأنظمة التي يزداد
تطورها، فإن التصميم الفني للفيلم يُصبح أكثر قتامة، «ثيودور»
يرتدي قميصاً أبيض –نراه به للمرةِ الأولى- وبنطلوناً بنياً، النور
مُغلق في بيته، حوائط بيت صديقته «إيمي» هي الأخرى حيادية الألوان
جداً.
قبل أن ينهي «جونز» فيلمه، المُخطط بدقة شديدة بصرياً، في
الديكورات والملابس وتصميم المَشاهد، بلقطة بَسيطة، واسعة لـ«ثيودور»
يجلس بجانب «إيمي»، تضع رأسها فوق كَتفه، وتكون أمامهم المَدينة في
طورِ الغروب، تبدو اللقطة مُعبرة عن الوحدة وعن الحاجة، ويبدو
«جونز» خائفاً من التطور الذي يُزيد الوحشة، ربما قصد بإنهاء فيلمه
–الممتلئ بصرياً- بتلك اللقطة البسيطة بميله للصورة الحقيقية دون
أي بهرجة أو تدخلات، بكل عاديتها، تماماً كما بطله الذي أرسل رسالة
لزوجته القديمة يخبرها أنه سيحبها دوماً «لأننا كبرنا معاً». |