ننشر مذكرات تحية كاريوكا للكاتب الكبير صالح
مرسى..
الحلقة الثانية عشرة
أعدها للنشر: محمد توفيق
كاريوكا: والدة راقصة مشهورة مزّقت بدلة الرقص الخاصة بى بعد أن
صعدت على المسرح لأول مرة
وكان من عادة المسارح الاستعراضية فى تلك الأيام أن تقدم إلى
الجمهور فى أول الليل «نمرة» خفيفة، حتى يأخذ الرواد أماكنهم..
وكان الذين يقدمون هذه النمرة يعلمون أن عليهم أن يشدوا انتباه
الجمهور، وأن يحيطوه بالجو اللازم، ويمهدوا الطريق للعروض التالية.
طارت تحية إلى غرفتها وقد استبد بها القلق، كان الوقت صباحًا وما
زالت هناك ساعات طويلة قبل أن يفتح الستار، فهل تنتظر طوال تلك
الساعات دون أن تضع البدلة على جسدها؟!
وسرعان ما أغلقت الباب وراحت تخلع ملابسها بلهفة، وسرعان ما كانت
تقف أمام المرآة وحدها وهى ترتدى البدلة، كانت عيناها تلتهمان
الجسد الفتى الذى اتسق تحت القماش الناعم، وراحت ترقص وحدها دون
موسيقى، ظلت ترقص وترقص، ولو أطاعت نفسها لما كفت عن الرقص حتى
المساء!
وفى المساء كان الخبر قد انتشر فى الفرقة كلها.
وفى المساء كانت تحية ترتجف بالانفعال وقد بدا كل شىء يتحرك حولها
كالحلم.
وفى المساء كان غضب حورية محمد قد بلغ مداه، فكيف تخرج هذه «المفعوصة»
فى رقصة شرقية؟
وفى المساء كانت بديعة تلقى نظرة أخيرة على تلميذتها فى الكواليس،
ودون كلمة، هزت رأسها راضية.
الناس والأضواء والستار المسدل وحبال الكواليس والحركة وها هو
الحلم يتحقق أخيرًا، فهل تتحقق به نبوءة سعاد محاسن التى أطلقتها
ذات يوم فى الإسماعيلية منذ سنوات طويلة؟
وفتح الستار وخرج إسماعيل ياسين إلى الناس، وعزفت الموسيقى، وألقى
المونولوجست الشاب مونولوجاته ونكاته فأضحك الناس وأطربهم وأجلسهم!
ونزل الستار وكانت تحية تقف ببدلتها فى الكواليس، وهى ترتجف
بالانفعال، وقد بدأت البرودة تسرى فى أوصالها.. وعندما عزفت
الموسيقى عزف قلبها بدقات مضطربة، وتحولت كل حواسها إلى أذنيها وهى
تستمع إلى مقدم البرنامج وهو يصيح فى الميكروفون:
«والآن..
نقدم إليكم الوجه الجديد، الراقصة الفاتنة.. تحية محمد!».
وتناثر التصفيق فى الصالة النصف الخالية، ولم تخفت همهمات الناس
ولا أحاديثهم، وفتح الستار وظل المسرح خاليًا، وعزفت الموسيقى
فتلاحقت أنفاسها، ودق قلبها بعنف، ثم حانت اللحظة عندما أضيئت
دائرة من الصالة نفد بعضها إلى قدمى تحية فكأنها السحر يجذبها إلى
المسرح.. أخذت فى تلك الليلة خطوتها الأولى، وانسابت الموسيقى
كالسحر إلى جسدها، فتقدمت إلى المسرح بخطوات ثابتة، وبدأ جسدها
يلتقط النغم ويمتصه ويتمايل معه، كانت تشعر عن يقين بأنها ترقص
رقصًا مختلفًا. رقصها هى.. لم يعد يعنيها أن تنجح أو تفشل، ولم تعد
ترى أو تسمع أو تحس، راحت تنساب مع النغم فى تناسق كان يطربها أشد
الطرب، وإذا السكون يسود الكون فتتوقف الحركة، وإذا الدنيا غارقة
فى ذلك الصمت الإلهى، وإذا الأصوات كلها نغم وموسيقى، وراحت تدور
وتتمايل وتتثنى، وكادت ذات مرة وهى تدور دورة تسقط من فوق المسرح
فاستيقظت.. كان الظلام يكتنف الصالة، والناس فى سكون يرقبون
صلاتها، وإذا بقعة الضوء جزء من كيانها فكأنها انطلقت إلى الأبد
بشعاع هذا المصباح، ثم اقترب النغم من نهايته، وانتهى اللحن،
فتوقفت!
وإذا بالصالة تدوى بالتصفيق!
وترددت عيناها ما بين الصالة والكواليس بحثًا عنها، راحت تنحنى
للناس وبصرها يمتد إلى خلف الستار.. وإذا الأستاذة تقف هناك، وإذا
هى تصفق مع المصفقين، وجاشت نفس تحية بالسعادة، وصعدت الدموع إلى
عينيها، وكانت تنتظر أن تسدل الستار لكنها لم تسدل، كان التصفيق
اشتد فى الصالة، والأصوات تنادى بالمزيد، ومن الكواليس أشارت
المدام إلى الفرقة الموسيقية أن تبدأ العزف من جديد، فمن يصدق؟
وسرعان ما أطفئت الأنوار وبدأ اللحن من جديد، وإذا شعاع الضوء
يحتويها مرة أخرى، فتذوب فيه، والنغم يتسلل إلى مسامها، وتحرك
الجسد ليصلى مرة أخرى، وساد الصمت وتحية محمد تؤدى رقصتها الأولى..
وظلت فى تلك الليلة ترقص نصف ساعة.. وكان الوقت المقرر لها، لا
يزيد على عشر دقائق!
■
■
وعندما أسدل الستار اندفع كل من فى المسرح نحو تحية، راح الأولاد
والبنات يقبلونها ويهنئونها، لكنها لم تكن ترى سوى بديعة، لم تكن
تهتم إلا ببديعة، وها هى بديعة أمامها، همت بأن تجرى إليها، تخلصت
من الملتفين حولها، اندفعت تريد أن تلقى بنفسها بين أحضانها، كانت
سعيدة، فرحة دامعة العين.. وما إن فردت ذراعيها للمدام، حتى قالت
المدام بسرعة:
«إجرى
غيرى هدومك بسرعة علشان البرنامج!!».
■
■
كانت تعلم أنها نجحت، وكانت تعلم أن بديعة -رغم كل هذا- سعيدة بها،
وأصبحت على يقين فى تلك الليلة أن حياتها قد ارتبطت بالرقص إلى
الأبد، لأنها هناك على خشبة المسرح.. ووسط بقعة الضوء وانسياب
النغم، وجدت نفسها، كل لذتها وسعادتها وحبها.. فلا الماضى ولا
الحاضر.. لا الجوع ولا العطش، لا شىء سوف يقف بعد اليوم فى طريقها.
خلعت البدلة مسرعة، وارتدت ملابس الرقصة التالية. علقت البدلة فى
غرفتها واندفعت تعبر الممرات إلى المسرح، ورقصت وخطت وتثنت، وكانت
سعيدة وهى تعود إلى غرفتها، والشوق يأكلها إلى بدلتها الأولى،
اندفعت إلى الغرفة، ثم توقفت عيناها فى فزع.. كانت البدلة هناك،
لكنها لم تكن فوق الشماعة.. كانت قطعا مهلهلة من القماش تغطى أرض
الغرفة!
■
■
فى أوائل الحرب العالمية الثانية، ومع تدفق جنود الاحتلال من كل
الجنسيات التى كانت تتبع الإمبراطورية البريطانية، تدفق المال إلى
أيدى كثيرين فى مصر، وساد البلاد نوع من الرواج الذى يصاحب الحروب
عادة.. وفى تلك الأيام، ومع الرخاء الكاذب والحاجة الملحة إلى
الترفيه، ظهر فى مصر جيل من الفنانين الذين لمعوا بسرعة شديدة،
وكان من هؤلاء الذين اشتهرت أسماؤهم شهرة واسعة، المرحوم عبد الغنى
السيد، كان عبد الغنى واحدًا من ألمع نجوم الطرب فى الوقت الذى كان
اسم فريد الأطرش ما زال يحبو إلى عالم الغناء مع عدد آخر من
الأسماء مثل محمد الكحلاوى، ومحمد عبد المطلب، ومحمد فوزى.. وقبل
أن يعرف الناس شيئًا عن تحية كاريوكا أو سامية جمال التى دخلت ذات
يوم، وفى صمت وأدب شديدين إلى كازينو بديعة، كانت نجمة الرقص
الشرقى هى حورية محمد، التى رقصت ذات ليلة فى كازينو بديعة مع عبد
الغنى السيد، على أنغام أغنية طبقت شهرتها آفاق مصر.. حتى إن أغنية
«وله يا وله» وجدت منتجًا ينتج لها فيلم «شارع محمد على» الذى
لعبته حورية مع عبد الغنى فى السينما أيضًا.
كانت تحية -وهى تقف بباب غرفتها أمام أشلاء بدلتها الممزقة- تعلم
كل هذا، كان الحلم قد تحطم، وانهار الأمل أمام عينيها دون أن
تستطيع فعل شىء، وإذا كانت قد نجحت فى تلك الليلة، فما قيمة هذا
النجاح الآن؟
كانت البدلة ممزقة إلى قطع صغيرة بمقص حملته يد مدربة على هذا
الفعل، وكان الفاعل -أو الفاعلة- قد نشر أشلاء البدلة على أرض
الغرفة إمعانًا فى الإغاظة والتحدى، وكانت تحية تعلم علم اليقين أن
أحدا فى كازينو بديعة كله لا يجرؤ على أن يفعل ذلك سوى نرجس!
كانت نرجس هذه هى أم حورية محمد، وكانت هذه السيدة تملك بارًا
صغيرًا تؤدى فيه ابنتها رقصة أو رقصتين فى كل ليلة، وكانت من ذلك
النوع الذكى الذى يعلم أن ابنتها كنز لا يعوض، فوقفت وراءها كالسد
تحميها من كل معتد أو مهاجم أو حتى منافس.. وإذا كان هذا هو الأمر
بالنسبة إلى حورية، الراقصة المبدعة المتمرسة التى لا يعيبها سوى
قصر قامتها، فمن أين لتحية بأم تقف خلفها مثل أم حورية وهى لا تزال
فى أول الطريق؟
لم تكن تحية تشعر فى تلك اللحظات بشىء بذاته، ثمة فراغ هائل يحيطها
فكأنها تسبح فى الهواء، تجمدت فى مكانها وهى ترقب أشلاء البدلة غير
مصدقة، اندفع الدمع إلى هيئتها لكنه لم ينهمر، أرادت أن تبكى وفى
الوقت نفسه أرادت ألا تبكى فكفاها دمعا ظل ينهمر لسنوات.. قاومت
وقاومت، لكن مقاومتها انهارت، وانفجر الدمع من عينيها فى فيضان
غامر، وارتكنت إلى الباب، وراحت تنهنه فى عذاب وألم!
وسرعان ما تجمعت البنات من حولها، جينا وتيتى وجمالات وجولييت،
وجاء الفنانون والفنيون والعمال، وراح كل منهم يرقب المشهد فى صمت،
وكأنهم يشهدون مصرع عروس فى ليلة زفافها.. وسرعان ما انقسم من فى
الكازينو إلى قسمين: قسم الشمت، وقسم أصابه الألم، فراح يخفف عن
الفتاة مصابها الفادح.. وكان لا بد وأن يصل الأمر إلى المدام،
فجاءت بديعة تستطلع الخبر، وما إن وصلت حتى دوت فى الكواليس صيحة
نرجس وهى تتحدى: «أيوه أنا اللى قطعت البدلة، دى بتقلد بنتى!».
ومضت لحظات صمت تعلقت فيها العيون -كل العيون- بشفتى بديعة، فماذا
هى فاعلة، وماذا يكون حكمها، هل تضحى بـ«الفيديت» من أجل راقصة
ناشئة، حتى ولو كانت هذه الراقصة فى حكم ابنتها؟!
وكانت على بديعة أن تختار، وكان واضحًا أنها فى موقف يتصارع فيه
القلب مع العقل، العاطفة مع العمل، ولم تطل لحظات الانتظار
بالجميع، وعندما جاء صوت بديعة، كان واثقًا نهائيًّا فى حكمه:
«خلاص..
بلاش ترقصى شرقى يا تحية!».
واندب الخبر فى أحشاء تحية مثل سكين يمزق جنينًا حملته لسنوات
طويلة.. وإذا كان الأمل قد قتل، وإذا كان الحكم قد صدر، فمن أين
لها بثمن البدلة؟!
قالت بديعة: «أنا حادفع ثمن البدلة، قولى لمسيو جورج يعدى على بكرة»!
هكذا حسمت بديعة الأمر.. وهكذا باتت تحية فى ليلة انتصارها الأول،
والدمع يغرق وجهها!! |