المخرج الفرنسي نيكولا فيليبير الذي عوّدنا دائماً على تحديات
فيلمية تضع الوثائقي في صميمها، يحملنا في "بيت الراديو" الى مكان
لا قيمة فيه للصورة ("راديو فرانس")، محاولاً إلصاق الوجوه بكل تلك
الأصوات التي تساهم في صناعة هذا المصنع السمعي الكبير، الذي لا
ينام وهو أشبه بخلية نحل. يلتهم فيليبير الوجوه بكاميرته ويصطاد
لحظات طرافة مستقاة من قلب الحياة اليومية للعاملين ويُرينا كيف
دخلت الذبذبات في جينات هؤلاء الذين يجدون سلطتهم في الضوء الخافت
لاستوديوات التسجيل وكيف سيطرت على حركاتهم الجسمانية وتعابير
وجههم.
ببساطة، "بيت الراديو" فيلم كبير، نتسلى فيه كثيراً، مصوَّر بأناقة
ومناقبية عالية كما فعل فيليبير دائماً على امتداد مسار حافل
بأفلام مهمة مثل "أن تكون ويكون لديك" و"عودة الى نورماندي". عُرض
الفيلم في افتتاح تظاهرة "شاشات الواقع" في بيروت (23 - 30 الجاري)
وجرى لقاؤنا معه خلال الدورة الأخيرة من مهرجان تسالونيك للفيلم
الوثائقي الذي ختم أعماله الأحد الماضي، وكانت وُجِّهت فيه تحية
الى المخرج الستيني المولود في غرونوبل.
·
¶ ما
الذي دفعك الى انجاز فيلم عن "راديو فرانس"؟
-
أعترف ان انجاز فيلم عن اذاعة، فكرة "مخالفة" لطبيعة السينما.
عندما نكون من محبي الاستماع الى الاذاعة - كما هي حالتي - ندرك
انها وسيط تغذّي المخيلة، كون الصورة فيها معدومة. هذه الصور علينا
اختراعها: حيناً نتخيل شكل الأشخاص الذين يخاطبوننا وحيناً الأماكن
التي تحملنا اليها الاذاعة. هذا الأمر جعل المشروع تحدياً في ذاته.
كان السؤال المطروح: كيف ننجز فيلماً عن الراديو من دون الكشف عن
غموضه؟ كوني كنتُ أعرف جماعة "راديو فرانس" جيداً في إطار
استضافتهم لي للتكلم عن أفلامي، كنتُ أقول لنفسي دائماً ان هذا
مكان ينطوي على روح وتاريخ. مكان لا يتميز بأيّ فرادة شكلية، الا
انه خليّة نحل تغلي غلياناً. عموماً، المواضيع التي أختارها، هي
ذريعة الى حدّ ما. سواء أنجزتُ فيلماً عن اللوفر أو بيت الراديو أو
وضعتُ كاميرتي في عيادة للعلاج النفسي أو في مدرسة، هناك دائماً
ذريعة لتصوير الكوميديا البشرية في اطار تناولي لقضية.
·
¶ هل
مكثتَ طويلاً في الراديو لإختيار شخصياتك ومعرفة ما تودّ تصويره؟
-
لا أعمل على هذا النحو. لا أحضّر كثيراً ولا أراقب. لا أمضي وقتاً
طويلاً في الاستعداد للتصوير. أفضّل العفوية. لم أختر الشخصيات
استناداً الى أهمية البرامج التي تقدمها، انما لحضورها وقوة
طباعها. كنتُ أريد لشخصياتي كاراكتيراً قوياً، كما الحال في
المسرح. في مقر الاذاعة، حيث يعمل مئات الصحافيين والمخرجين
والمذيعين، كان الخيار صعباً. هناك 150 شخصاً يحلّون ضيوفاً على
هذه الاذاعة يومياً: خبراء اقتصاد، رسّامون، مخرجون، رجال سياسة
الخ. كنتُ في حيرة من أمري. لم أعرف مَن اختار. أكبر صعوبة في هذا
الفيلم لم تكن أن أجد شخصيات بل ان أستغني عنها. في "بيت الراديو"
أكثر من 60 ستوديواً في حال انشغال مستمر. لم يكن يجدي نفعاً أن
أصوّر كل شيء. أصعب ما في الأمر كان أن أكبح شهيتي.
·
¶
ولكن، مَن هم مستمعو "راديو فرانس" اليوم؟ في مرحلة، اعتقدتُ انك
ستذهب الى سؤال مماثل...
-
يصعب تحديد هوية المستمع. هناك شرائح اجتماعية عدة. كل شي يتوقف
على ساعات البث ونوعية البرنامج. نشرات الأخبار مسموعة جداً ومثلها
برامج الألعاب والترفيه. ولكن، أستطيع أن أؤكد ان الاقبال عليها
واسع. في فرنسا، وسائط التواصل الجديدة سرقت مشاهدي التلفزيون،
ولكن فشلت في اقتناص مستمعي الراديو. في الراديو، هناك تنوع أكبر.
وهذا ما يظهره الفيلم: تنوع في الأصوات والوجوه. هذه من الثروات
التي نملكها في فرنسا: راديو الخدمة العمومية ممولة بعائدات
الضرائب التي يدفعها الشعب وليس بمداخيل الاعلانات. وبالتالي،
يتوجه هذا الراديو الى الشعب ويقيم وزناً لجميع شرائحه. ويتمتع
الصحافي الذي يعمل فيه بمقدار عال من الحرية. إستمع اليه وسترى انه
لا يوفرون لا ساركوزي ولا هولاند من نقدهم اللاذع، ويفضحون كلّ ما
ليس على ما يرام في الجمهورية.
·
¶ الفيلم
يدنو في الكثير من فصوله من الروائي.
-
بالنسبة إليَّ، الوثائقي شكل آخر للروائي. لفترة طويلة، ارادوا
اقناعنا بأن الوثائقي هو الحقيقة. ولكن أيّ حقيقة؟ كلّ منّا يرى
الحياة من منظوره الخاص. أمام الحدث نفسه، ستلاحظ أشياء لم ألاحظها
وسألاحظ أشياء لن تلاحظها. في كيفية سردنا للأحداث، ستختلف وجهات
النظر كثيراً. الوثائقي تأويل للواقع وليس نسخة عنه.
·
¶ لشدة
الارتياح الذي تظهره أمام الكاميرا، نعتقد للحظة ان شخصياتك تلقّت
التعليمات منك...
-
لا أدير شخصياتي البتة. لكن سهّل العملية، في هذا الفيلم، كوني
أتعامل مع أناس اعتادوا الظهور أمام الكاميرا. نستطيع أن نقول
الأمر نفسه عن الضيوف. فهذه ليست المرة الاولى يقف فيها أمبرتو
إيكو قبالة الكاميرا. نعم، في هذا الفيلم نشعر بأن الشخصيات مرتاحة
للكاميرا. وهذا لا يحصل دائماً. فهذه السيدة التي يحاورها ألان
فينستاين مثلاً في برنامجه عن الأدب نراها في قمة الارتباك. لذلك،
صوّرتُ نظرتها الضائعة مثلاً.
·
¶ كم
بلغت ساعات المادة المصوّرة؟
-
صوّرتُ كثيراً هذه المرة. لم أصوّر الى هذا الحدّ من قبل. لديّ نحو
100 ساعة من الـ"راشز"، تكونت عندي خلال 60 يوماً من التصوير موزعة
على 6 أشهر. لم أعمل كل يوم، كنتُ أكتفي بزيارة الراديو مرة أو
مرتين في الاسبوع الواحد.
·
¶ هكذا
تعمل عادة؟
-
نعم. كوني لا أحضّر كثيراً قبل التصوير، هذا يسمح لي بأن أبدأ في
بناء الفيلم في موازاة العمل على التصوير. دائماً، احتاج الى نقطة
انطلاق قوية كي أنجز فيلماً. كنتُ أعرف أن هناك الكثير ممّا
سأصوّره في الراديو. هذا مكان في قلب الأحداث والمستجدات. كنت أعرف
ان هناك شخصيات ستبرز. كل الأصوات والضجيج والصخب تنتهي رحلتها في
هذا المكان الذي ينصت إلى العالم. ما إن أجد نفسي أمام مكان بهذه
الأهمية، حتى أطلق العنان لمخيلتي وألجأ الى الارتجال.
·
¶ ما
يقوله السيناريست جان كلود كاريير في الفيلم عن الصوت في الماضي
مدعاة فضول. ألم يضعك هذا أمام إحتمال طرق بعض الأبواب الاخرى
وأنتَ تصوّر هذا الفيلم عن الراديو؟
-
كان عليّ اتمام مشاهد قصيرة الى حدّ ما، لإحترام التنوع الذي كنتُ
أريد اظهاره. للأسف، لم يكن هناك مجال لأن أتأخر على هذه الشخصية
أو تلك. كنت أخاف الا يعود فيلماً عن الراديو. بدأتُ تصوير الفيلم
في مطلع 2011، وهذه الفترة كانت مهمة جداً من حيث الأخبار
والتطورات: اندلاع الشرارة الاولى لـ"الربيع العربي"، ثم، بعد
أسابيع، التسونامي في اليابان. طبعاً، خلال وجودي في الراديو
وانخراطي في أجوائه، كانت لي رغبة واحدة هي أن أصوّر البرامج التي
تنقل هذه الأحداث. وهذا ما فعلته من خلال متابعتي تحليلات
المشاركين في هذه البرامج. كانت تجربة رائعة بحقّ. ثم، بدأتُ أدرك
- بداية أثناء التصوير ولاحقاً أثناء المونتاج - أن هذه الأحداث
قوية جداً لفيلمي وحضورها الطاغي سيجعل من "بيت الراديو" فيلماً عن
كل شيء الا عن الراديو. فيلمي لم يكن عن الربيع العربي. الأحداث
تموت كما تعلم. فما جرى في الأمس ينتمي الى الماضي. لم أكن أريد
فيلماً يكون صار "ديموديه" عند تاريخ صدوره.
·
¶ لا
تظهر في أفلامك كما يفعل العديد من مخرجي الوثائقي. أهذا مبدأ
عندك؟
-
ليس لي ما أفعله أمام الكاميرا. هذا ليس مكاني.
·
¶ تعمل
بفريق مقتضب. تلتقط المَشاهد وتقوم بالمونتاج وتخرج العمل، تفعل
هذا كله بمفردك. أليس عملاً هائلاً؟
- (ضحك
خجول). عادة، ترافقني سيدة تخفف عن عاتقي بعض الصعوبات التصويرية.
فهي تهتم بكلّ ما يتعلق بالتقنيات وتتركني أهتم بالكادر وتشكيل
الصورة. هناك أيضاً مهندس الصوت، لذلك نكون أحياناً ثلاثة او أربعة
في موقع التصوير.
·
¶ المونتاج
هو اللغة التي تعبّر عنك خير تعبير في الفيلم، نراه يختزل شخصيتك؟
-
المونتاج هو المرحلة الابداعية التي افضلها في عملية انجاز الفيلم.
في أفلامي الأولى، كنتُ استعين بمونتيرة، وعندما تعلمتُ كيفية
المونتاج صرتُ أتولاه بنفسي، والآن لشدة ما يثير فيّ المتعة، لا
أريد أن يشاركني فيه أحد (ضحك). أين نقطع وكيف، هذا شيء يغيّر
الكثير من الأشياء في الفيلم الذي ننجزه.
hauvick.habechian@annahar.com.lb
"شاشات
الواقع" في بيروت
هوفيك حبشيان
للمرة العاشرة على التوالي، ينظم المعهد الفرنسي في لبنان حدثاً ذا
أهمية، هو "شاشات الواقع" الذي يأتينا ببرمجة غنيّة ومتنوّعة. موعد
سينمائي كان انطلق كحدث بسيط في المركز الثقافي الفرنسي وتطور عبر
السنوات، فانتقل من اطاره الثقافي الى الفضاء الرحب لمجمع يرتاده
السينيفيليون: "متروبوليس". طال التغيير البرمجة التي باتت تستقطب
أفلاماً من جنسيات مختلفة تُعرض في عاصمتنا للمرة الاولى. طوال
اسبوع كامل، نطّلع على أحوال العالم من شرقه الى غربه، بعيداً عمّا
تقدمه نشرات الأخبار، وبصورة فنية سينمائية تخرج عن المألوف
أحياناً وتبقى في الاطار التسجيلي البليد في أحايين اخرى. حدث مثل
هذا، مناسبة لطرح أسئلة عدة عن ماهية الوثائقي في زمن سرعة الصورة
وتلاحق المواد الاخبارية الذي يجعل كل ما سبق من الماضي. اسئلة
أخرى يمكن طرحها ايضاً عن الحدود بين الوثائقي والروائي، أين ينتهي
الأول ويبدأ الثاني؟ الكثير من الأفلام حالياً يترجح بين النوعين
ويمحو الحدود بين الحقيقة والخيال، بين العفوية والـ"ميز ان سين".
أمّا المناقبية في العمل الوثائقي، فهي إحدى دعائمه، ولكن أثبتت
بعض التجارب انه لا يجري الاعتناء بها وايلاؤها الأهمية في السينما
التسجيلية العربية. في فيلم "مصنع البلاطجة" للمصرية منى العراقي
الذي شاهدناه في تسالونيك اخيراً، نرى المخرجة تذهب لتبلغ عن شخصية
فيلمها الى الشرطة (رجل فرّ من السجن) بعدما انتهت من تصويره. نعلم
جميعاً ان الثقة اساس العمل الوثائقي بين المصوِّر والمصوَّر،
واحترامها القانون لا يبرر لها هذا التصرف الأرعن.
افتتاح المهرجان كان مع واحد من معلّمي السينما الوثائقية في
العالم: نيكولا فيليبير (ندعوكم الى قراءة المقابلة معه في هذه
الصفحة). الفيلم عُرض في قسم "بانوراما" البرلينيّة العام الماضي
ورُشّح لـ"سيزار" أفضل وثائقي، لكنه لم ينلها. الفيلم نوع من تحية
الى أصوات بلا وجوه في "راديو فرانس"، المؤسسة الوطنية العريقة
التي تنضوي تحت جناحها سبع اذاعات وتُعتبر نموذجاً راقياً لما
يسمّى "الخدمة العمومية" في بلدان متقدمة كفرنسا.
السينما الوثائقية اللبنانية حاضرة في "شاشات الواقع". الوثائقي
لمع نجمه عندنا في المرحلة الأخيرة مع أفلام مثل "ليال بلا نوم"
لاليان الراهب و"سمعان بالضيعة" لسيمون الهبر و"مارسيدس" لهادي
زكاك. لم تستطع السينما الروائية الى الآن منافسة الوثائقي. يأتينا
"شاشات الواقع" بفيلمين لبنانيين: "أرق" لديالا قشمر، الفائز
بجائزة في الدورة العاشرة لمهرجان دبي السينمائي، و"أنوثة ساكنة"
لكورين شاوي الذي شارك في مهرجان مرسيليا الدولي للفيلم الوثائقي
العالم الماضي.
أول من أمس، عُرض ايضاً "الميدان" للمصرية جيهان نجيم الذي رُشح
لـ"أوسكار" أفضل فيلم وثائقي، علماً ان عروضه المهرجانية انطلقت من
"سندانس السينمائي" العام الماضي، حيث فاز بجائزة الجمهور في فئة
"أفضل فيلم وثائقي من العالم". الفيلم كان في قلب مهاترات واسعة
بين المصريين، ومعظم الاتهامات الموجهة له كانت ذات خلفية سياسية
ومرتبطة بما يجري في مصر.
الراحل كريس ماركر (1921 ــ 2012) هو الذي يختم المهرجان الأحد
المقبل مع "أيار الجميل" (1963)، الفيلم الذي تشارك اخراجه مع بيار
لوم. هذا الفيلم عُرض في كانّ العام الماضي ضمن عرض استعادي
لمناسبة مرور نصف قرن على انتاجه. صوّر ماركر الفيلم عام 1962،
غداة حرب الجزائر، ذهب بكاميرته الى الناس العاديين في باريس
لتتحول "مدينة التنوير" الى وثيقة لفهم ما يجول في خاطر شعب يسرد
لماركر طموحاته وأحلامه ومخاوفه. الستينات زمن النضال والأدلجة،
ولن يبقى ماركر بمنأى من الأفلام الأشبه بالمنشورات السياسية التي
حافظت دائماً، تحت ادارته، على مذاق خاص. ماركر الذي ظل يبحث عن
العلاقات الخفية التي تربط الأشياء بعضها بالبعض الآخر طوال مسيرته.
La Jetté
عام 1962 كان بمثابة صدمة: باريس، أورلي، الحرب العالمية
الثالثة... هذا كله في 28 دقيقة لا تتضمن الا بضعة مشاهد متحركة،
والباقي صور فوتوغرافية يرافقها تعليق صوتي من نوع الخيال العلمي.
الفيلم دخل معبد الكلاسيكيات، واستلهم منه تييري غيليام "القرود
الاثنا عشر" (1995). هناك حتى بار في طوكيو يحمل اسم الفيلم تحية
لماركر.
"شاشات
الواقع"، من 23 الى 30 الجاري في مجمع "متروبوليس" (أمبير ــ صوفيل).
للمزيد عن جدول العروض:
http://www.metropoliscinema.net/
منسيّو باريس!
الفيلم الفرنسي "على حافة العالم" لكلوس دريكسيل نال جائزة "فيبريسي"
في مهرجان تسالونيك للفيلم الوثائقي (14 - 23 الجاري). فيلم بديع
عن المنسيين في شوارع باريس من الذين ينامون تحت جسورها وفي أزقتها
وفي كل مكان، أولئك الذين نمرّ أمامهم ولا ننظر في عيونهم. "أشباح
الليل"، كما يقول أحدهم عن امثاله. صوّرهم كلوس دريكسيل في اطار
ليلي يعطي انطباعاً آخر- فيه القليل من الغوطية- عن العاصمة
الفرنسية؛ ظلام جزئي مخيف يحرسه برج ايفل، لا سكان ولا حركة سوى
صوت المطر أو صخب السيارات المارة على الخطّ السريع. من بين
الشخصيات، هناك الفيلسوف والمكتفي والعنيد والحالم. ومنهم مَن يقرأ
ستّ صحف يومياً ويجمع المقالات في ملف. كل شيء ينتهي بصوت
بافاروتّي فتشرق الشمس وتعود الحياة الى المدينة. |