الغرفة العارية:
عن الصورة الداخلية وتجلي الروائي
رامي عبد الرازق
"في
كل يوم تبرز قصص إنسانية عديدة بحكم خصوصيتها والأسلوب الذي يتم
تصويرها به ولكنها تتمكن عبر اشتراكها في عوامل إنسانية عامة أن
تنشر روحا من الاستيعاب والتأثر رغم سياقاتها غير التقليدية ولهذا
تستحق أن نعتبرها أكثر من مجرد تجارب،إنها قصص لتروي".
هذه هي الترجمة التقريبية لمقدمة البرنامج المسمى"قصص لتروي"وهو
واحد من عشرة برامج شكلت هذا العام البدن الأساسي للدورة السادسة
عشر لمهرجان سالونيك الدولي للأفلام التسجيلية في مارس الماضي.
إنه البرنامج الذي يؤكد على الصلة ما بين الوثائقي"غير الخيالي"
والروائي"الخيالي"من خلال وقوف صناع الأفلام على عملية "إضافة
الطابع الدرامي" التي يمارسها الواقع دون تدخل من مؤلف أو كاتب.
ولكن كما تتعدد أساليب رواية القصص في فن الحكي تتعدد أيضا أساليب
رصد القصة عبر كاميرا الوثائقي، وتظل الصورة هي المحك الظاهري الذي
تخضع له المادة الوثائقية عند التلقي والتقييم.
ولكن ما هي الصورة!
هل هي فقط مجرد حركة الشخوص داخل إطار الكادر من خلال تشكيلات الظل
والنور والإتيان بتكوينات تعكس أفكار الشخصيات أو مشاعرها أو ما
يراد توصيله عنها أو من خلالها!.
ثمة أفلام تمنحنا القدرة على التفرقة ما بين نوعين من الصورة
السينمائية-وثائقية كانت أو غير وثائقية- النوع الأول هو الصورة
الظاهرية التي لا خلاف على عناصرها البصرية وتكنيكات صياغتها
وتلقيها، أما النوع الثاني فهو ما يمكن أن نطلق عليه(الصورة
الداخلية)والتي تتشكل عبر انعكاس المروي على شاشات الذهن ومساحات
المشاعر سواء كان بصري أو كلامي ، متحرك أو ساكن، حواري أو صامت،
ما نقصده بالصورة الداخلية هو الحراك الوجداني المرتبط بالخيال
والأفكار والأحاسيس التي تثيرها المادة السينمائية المعروضة خلال
الفيلم.
ويمكن أن نضرب مثلا على تجلي عنصري الروائي والصورة الداخلية في
التجارب الوثائقية من خلال الفيلم المكسيكي"الغرفة العارية"للمخرجة
الشابة نورا إيبانيز والذي عرض ضمن فعاليات الدورة السادسة عشرة
لمهرجان سالونيك في برنامج قصص لتروى.
نحن أمام سبعين دقيقة تقريبا مكونة من كادرات البورترية الثابتة،
حيث لا يوجد حركة كاميرا سوى في لقطات قليلة جدا ومرتجلة بناء على
ذروة انفعالية حدثت على ما يبدو أثناء التصوير. وفيما عدا ذلك
يعتبر الحجم الأساسي لكل كادرات الفيلم هو اللقطة الكبيرة المتوسطة
التي تمنح شكل الصورة الشخصية تاركة العالم بأصواته وصوره وتفاصيله
خارج حدود الإطار البصري.
ولكن ما هو الروائي"الخيالي"هنا؟
إن الخيالي ليس هو التأليف أو الاقتباس أو التدريم (إضفاء الطابع
الدرامي) بل هو أكثر من هذا وأعمق وأشد تأثيرا على النفس والذهن
مما هو مؤلف أو مكتوب.
نحن أمام شهادات متوالية لمجموعة كبيرة من الأطفال والمراهقين
الذين يجلسون في إحدى عيادات الاستشارات الأسرية في مستشفى بمدينة
مكسيكو سيتي، وبداخل كادر البورترية الذي تحدثنا عنه يجلس الأطفال
لكي يرووا قصصهم ومشاكلهم الأسرية ويتحدثون عن حالاتهم النفسية
والعقلية بينما لا نرى الأهل ولا الأخصائية النفسية التي تسألهم
حيث تأتي أصواتهم كما سبق وذكرنا من خارج الكادر تماما طوال الوقت.
إن الروائي أو الخيالي هنا كما يمكن أن نرصده يبدأ من اختيار حجم
الكادر الذي تصنع من خلاله المخرجة ذلك الإطار البصري البورتريهي
الكامل للاطفال، لأنه كان من السهل جدا أن تقوم بتصوير الأطفال
وذويهم في لقطات واسعة أو تنتقل ما بين وجه الطفل ووجه الأخصائية
النفسية التي تسأله، بل إننا في لقطات كثيرة لا نرى الأطفال تتحدث
ولكن نسمع رواية أحد الأباء عن حالة الطفل النفسية بينما تركز
الكاميرا من خلال الكادر/البورتريه على ملامح الطفل وردود أفعاله
وهو يستمع إلى ما يرويه والده عنه.
ثاني عناصر الخيالي هو اختيار أن يأتي الصوت من خارج الكادر، ليس
فقط لأسئلة الأخصائية النفسية أو رواية الأهل ولكن حتى الأصوات
الطبيعية للمكان/المستشفى المزدحم في الخارج بعشرات المرضى وذويهم،
إننا عبر الأصوات القادمة من خارج الكادر ندرك كم هو هو مزدحم
العالم في الخارج ومتخم بعشرات المشاكل والتفاصيل والأشياء التي
بلا شك تمثل جزءا من أسباب الازمات والمشاكل التي يعاني منها هؤلاء
الأطفال.
إن الخيالي إذن يكمن في اختيارات السرد التي يرتضيها المخرج
الوثائقي أو غير الوثائقي لرواية تفاصيل فيلمه، هذه الاختيارات
السردية هي التي تتحول بالتدريج إلى شكل الفيلم ثم إلى مضمونه
العام، فنحن في أحد مستويات الفيلم أمام عملية رصد وتحليل وتشريح
لمصارين المجتمع المكسيكي من خلال روايات الأطفال عن واقعهم الأسري
المعذب والمقبض والكئيب.
والأطفال تحديدا هم الجيل الجديد، أي مستقبل أي مجتمع والذي يبدو
من خلال ما يروونه هنا مجتمعا مصابا بأعطاب هائلة قد تودي به إلى
أسفل قاع الحضارة الحديثة.
وحين تضع المخرجة الكاميرا في مستوى النظر الخاص بالأطفال لكأنها
تريد لنا أن نرى العالم من وجهة نظرهم في مقابل مواجهتهم لنا في
الكادر البورتريهي، فنحن إذن أمام اختيار سردي غير شكلاني بل متصل
عضويا وذهنيا وفكريا بالموضوع الأساسي للفيلم والذي يتجاوز تدريجيا
مع تصاعد الروايات والتفاصيل المحكية ذلك الواقع المحلي الضيق
للمكسيك ليتحول إلى تشريح وتحليل عام للنفس البشرية من خلال الوقوف
على أفكار الأجيال الجديدة التي سوف تحمل العالم على أكتافها ذات
يوم قريب.
فبعضهم يعاني من خوف داخلي نتيجة تهديد الأهل دوما بالطرد خارج جنة
البيت والبعض الأخر يعاني من اضطهاد أحد أفراد الأسرة له خاصة
الأخوات الكبريات وبعضهم يعاني من شعور باضطراب في الهوية الجنسية
وحب نفس الجنس والآخرون يقومون بتقطيع شعورهم وجرح أنفسهم كي
يلفتوا الانتباه ويحققوا وجودهم الذي يشعرون أنه لا أحد يحس به.
ثم إننا لا يمكن أن نغفل عنصر المونتاج في كونه إحدى اللبنات
الأساسية في حكمنا على الروائي الخيالي داخل العمل، لأن المخرجة
قامت بتصوير الجلسات بشكل متواصل كوحدة واحدة مع كل طفل ثم قامت
أثناء المونتاج بعملية تقاطع مشروعة ما بين القصص والروايات
وبعضها، وهو اختيار روائي بحت يهدف إلى توثيق اللحظة الشعورية
والنفسية العامة وليس الحكاية الواقعية أو الأسرية.
فاختيار اللحظات التي تنتقل فيها المخرجة من طفل لآخر ومن مراهق
لآخر هي التي تصنع البدن الشعوري والنفسي الأساسي للفيلم، حتى
لتبدو القصص كلها مكملة لبعضها البعض أو كأننا أمام طفل واحد متعدد
الأوجه يحكي حكاية واحدة طويلة من عدة فصول وشخصيات وتدريجيا نتبين
أن هذا الطفل الواحد ما هو إلا أنا وأنت، أي الأنسان/ الطفل الإلهي
صنيعة الرب في تلك اللحظة الآنية من الزمن والحضارة والحياة.
إذن فالحكم بكون العمل أي عمل وثائقي مطلق لمجرد أنه مبني على قصص
وروايات واقعية وشخوص من واقع الحياة والمجتمع والعالم الإنساني هو
حكم –في رأيي- قاصر ومنقوص لأنه في كل مرة يتدخل صانع الفيلم في
اختيار زاوية أو إضافة صوت أو تنحيته يتجلى حلول ما هو روائي/خيالي
بالمفهوم الأشمل فيما هو وثائقي/غير خيالي أيضا بالمفهوم الأشمل.
وينقلنا الحديث عن حلول الخيالي في الوثائقي للحديث عن عنصر الصورة
الداخلية والذي يعتبر إحدى العلامات المميزة لأي تجربة وثائقية أو
روائية مهما كانت قائمة على الحوار
أو
الsofa
interview
أي اللقاءات المصورة مع الشخصيات وهم جلوس على الأرائك.
استطاعت المخرجة من خلال كل ما سبق واسلفناه من عناصر روائية سردية
أن تجبرنا على متابعة تلك القصص والمحكيات الأسرية على ألسنة
الأطفال وذويهم دون شعور بالملل أو الاختناق الذهني أو البصري الذي
يصيب المتلقي عادة جراء تعرضه لحجم كادر ثابت دون حركة داخلية وشخص
ما يجلس أمامه يتحدث باسترسال لفترة زمنية تزيد عن الدقيقتين.
هذا الإنجاز يتمثل في قدرتها من خلال اختيار المقاطع المحكية
بالإضافة إلى صياغة خلفية صوتية خصبة من العالم الخارجي على رسم
صور داخلية تتمثل المشاعر والتفاصيل والوقائع التي يحكيها الأطفال
وذووهم فكأننا نرى من خلال الكلمات البحتة للحكي مشاهد متتالية لما
يحدث داخل البيوت مع الأطفال بل وتتجسد أمامنا أو لنقل بداخلنا تلك
المشاعر والهواجس والدوامات الشعورية القاسية والمدوخة والتي
يعانون منها وتجعلهم يبكون في صمت كما نراهم في كثير من لقطات
الفيلم المؤثرة.
فحتى تلك الدموع الصامتة التي تفور ببطء من أعينهم تبدو فعالة جدا
في إحداث زخم بصري داخلي في نفسية وذهن المتلقي لأن مشاعره وأفكاره
تحاول أن تتمثل أسباب البكاء الصامت وخلفايته وتفاصيله.
ما نقصده بالصورة الداخلية إذن والتي تتجلى عبر السياقات الوثائقية
والروائية في فيلم الغرفة العارية هي كل ما يتجلى من تصورات
وخيالات وافكار وأحاسيس وذكريات وانفعالات داخل المتلقي حتى لو كان
ما يشاهده هو مجرد طفل ثابت يبكي في صمت وتشكيل الصورة الداخلية هو
الذي يصنع الفرق ما بين الوثائقي صاحب النزعة التليفزيونية المصمتة
القائمة على الثرثرة والتلقين وفقدان الإيقاع الأثيري لزمن الحكي
وبين التجارب الناضجة المتخمة بزخم حسي وذهني وخيالي وتبصيري قائم
على توظيف عناصر السرد من اختيار طبيعة الأحجام وزوايا اللقطات
والمقاطع الكلامية والأصوات داخل الكادر وخارجه والتتابع مونتاجي
الذي يكمل التواترات الشعورية ويصبها في بعضها البعض من ناحية وكأن
المشاهد عبارة عن أوان مستطرقة يتخذ فيها الفكر والشعور نفس
المنسوب رغم اختلاف الشخوص والتفاصيل والوجوه والحكايات من طفل إلى
طفل ومن أسرة لأسرة ومن مجتمع لمجتمع.
الغرفة العارية في الفيلم ليست تلك التي يجلس فيها الأطفال كي
يبوحوا بمشاكلهم في فضفضة نفسية ومكاشفة ذهنية بل هي تلك النفس
البشرية التي تتجرد أمامنا من كل المظاهر الاجتماعية والحضارية
والعمرية كي تبدو على حقيقتها هشة ورقيقة تحاول أن تلفت الانتباه
ولو بجرح الذات ويصيبها الاكتئاب والخوف والقلق لو شعرت بالوحدة أو
لمست نفورا من الآخرين أو إعراضا عنها، إنها الحقيقة المجردة عنا
جميعا لأننا في النهاية لسنا سوى أطفال العالم الذين يسعون إلى
الاكتمال والتآخي والشعور بالأمان بعيدا عن كل عناصر الخوف من
الغامض.
استطاعت المخرجة من خلال المشهد الأخير في الفيلم والمتمثل في لقطة
طويلة بنفس الحجم البورتريهي لفتاة من الذين يعانون من مشكلات
نفسية والممرضون يدفعونها فوق مقعد متحرك أن تلخص تلك اللحظة
الوجودية التي يشعر فيها الإنسان بطفولة عاجزة واحتياج إلى الأهل
وفقدان الثقة في العالم الذي لا يدري إلى أين يدفعه فوق هذا الكرسي
المتحرك نحو المجهول.
في هذا المشهد والذي قد يبدو عاديا جدا وبلا موسيقى أو أية مؤثرات
أو تدخلات خارجية سواء بتعليق أو معلومة تتجلى الصورة الداخلية بكل
قوتها والتي تبدو خليطا من المشاعر والهواجس والأفكار القلقة
والترقب ومحاولة التعرف على ما سيلي ولكن المخرجة في لحظة معينة
وبعد أن يصل التوتر إلى ذروته تظلم الشاشة تاركة لنا كل هذا
التراكمات الانفعالية لكي تظل تمور في داخلنا لتؤرقنا وتشحذ
مشاعرنا وأذهاننا بعشرات من الخواطر والأحاسيس. |