تغير عالم الجاسوسية من المعالجات التي سادت في الأربعينات إلى تلك
التي ساقتها وروجتها أفلام جيمس بوند الأولى، وصولا إلى ما هي عليه
اليوم. حتى جيمس بوند، الذي كان قسـم العالم ما بين «معنا»
و«علينا» في الستينات والسبعينات والثمانينات، بات يعلم أن المسألة
ليست أبيض وأسود، بل إن من بين من هم «معنا» من هم «علينا» والعكس
بالعكس.
خذ مثلا فيلم «جاك رايان: ظل مجنـد»، الفيلم الذي أخرجه وقام بأحد
أدواره الرئيسةكينيث براناه أخيرا، تجد أن الخط الماثل لم يعد
واضحا كما كان الحال عليه من قبل، أو كما يقول لي: «لقد انتقل
العالم من الحرب الباردة التي مورست فيها مناهج سريـة خطرة، إلى
حيث تسود نوع من الحرب التكنولوجية التي لا تعرف معسكرات معيـنة.
هي هناك لكي تصل إلى كل شيء وتكشف كل شيء أو تتجسس على كل شيء من
دون أن يلعب الجاسوس التقليدي أي دور. على الأقل، ليس الدور الذي
كان يلعبه في السابق حين كان عليه الوجود في أرض الأعداء لينقل
منها ما يستطيع من معلومات».
في هذا الوارد، لا تستبعد إذا ما وجدت برانا وقد عاد بعد سنتين أو
ثلاث في فيلم جاسوسي آخر يدور عن إدوارد سنودون، الأميركي الذي لجأ
إلى روسيا مع وثائقه: «بالأمس كنت و(المنتج) لورنزو دي بوانفينتورا
نتطرق إلى هذا الموضوع». هو من أنتج «جاك رايان..» أيضا، والسبب في
إنتاجه هذا العمل، كما قال لي، هو أنه يريد تقديم فيلم جاسوسي ينقل
إلى المشاهد مدى الاختلاف الذي طرأ على هذا النوع من المهن.
قبل أن يصبحكينيث براناه مخرجا عمل طويلا ممثلا مسرحيا وسينمائيا،
ولعله أجرى في مهنته تغييرات ووصل إلى قرارات جذرية أخرى جعلته في
السنوات الأخيرة يتصدى لأعمال أكثر تنوعا مما اعتاده. ولد في
العاشر من ديسمبر (كانون الأول) عام 1960 ببلفاست من أبوين
آيرلنديين. قبله بخمس سنوات، ولد شقيقه ويليام، وبعده بعشر سنوات
ولدت شقيقته جويس. في سن الثالثة والعشرين، انضم إلى «رويال شكسبير
كومباني» متحولا إلى ممثل شكسبيري محترف. هنا، شحذ هوايته وقدم، من
بطولته، دوري روميو في «روميو وجولييت» وهنري في «هنري الخامس».
حسب بعض المؤرخين الإنجليز، وجد برانا نفسه في صحبة مؤسسة فنية
أكبر شأنا مما يرغب. كان يرغب في فرقة مسرحية أكثر خصوصية وحميمية
فأنشأ «رينيسانس ثيتر كومباني». وكان لا يزال في التاسعة والعشرين
من عمره عندما أخرج فيلمه الأول «هنري الخامس» عام 1989 والفيلم
قاده إلى ترشيحات الأوسكار في مجالي أفضل ممثل وأفضل مخرج في ذلك
الحين. بعد أربع سنوات، عاد إلى شكسبير ليقتبس منه «لغط كبير حول
لا شيء» (Much
Ado About Nothing)
الذي طلب له بعض الوجوه الأميركية المعروفة، ومن بينها كيانو ريفز
ودنزل واشنطن ومايكل كيتون.
بعد أن عالج عام 1994 رواية ماري شيلي «فرنكنستاين»، عاد إلى
ويليام شكسبير وقدم عام 1996 «هاملت»، حيث لعب بطولته إلى جانب
جولي كريستي وريتشارد أتنبوروف، ثم حقق فيلمين آخرين مستلهمين عن
شكسبير هما: (Love›s Labour›s Lost)
عام 2000، و«كما تحب» (2006).
هذه الرحلة الشكسبيرية انتهت عند ذلك الفيلم، وبعده التفت إلى حيث
يستطيع أن يصل إلى جمهور أكبر، فكان «تحري» (عن مسرحية هارولد بنتر
التي سبق تقديمها في فيلم من إخراج أنطوني شافر عام 1972)، ثم فيلم
«ثور» المقتبس من الكوميكس عام 2011 قبل أن ينتقل إلى سينما
الجاسوسية والمخابرات وسلاح التخريب في «جاك رايان: ظل المجند»
المأخوذ، طبعا، عن سلسلة روائية مشهورة وضعها توم كلانسي، انتقلت
قصصها إلى الشاشة الكبيرة أكثر من مرة.
كممثل، لم يكن أقل نشاطا على الإطلاق، ومن بين الـ65 فيلما وحلقة
تلفزيونية مثـلها، برز له أكثر من دور، بينها تلك الشكسبيرية
(أيضا)، ومنها شخصية الشرير أياغو في «عطيل»، وشخصية هاملت، وشخصية
بنادك في «لغط كثير حول لا شيء». خارج إطار شكسبير، ظهر في دور
العالم فرنكنستاين في «فرنكنستاين»، وفي دور التحري المهدد في فيلم
روبرت ألتمن «جنجربرد مان»، ولو أنه أساء الاختيار عندما وافق على
دور رئيس في «وايلد وايلد وست» عام 1999.
يمكن اختصار وضعه بأنه فنان سبق الإنترنت ودخل عصره معا، مما
يقودنا إلى «جاك رايان: ظل المجنـد». كنيث لا يدعي أنه يعرف الكثير
عن عصر الديجيتال هذا، إذ يقول: «من ناحية، أعمل على الكومبيوتر في
أكثر من مجال. كل الاجتماعات التي أقوم بها من مكان إقامتي تجري
عليه. كل المراسلات. السيناريوهات والمشاريع. المعلومات... كنت قبل
أسابيع في جلسة عمل من بيتي بالسويد مع أربعة أشخاص؛ ثلاثة في
كاليفورنيا، وواحد في أستراليا. في ذلك أنا كشأن غالبية الناس.
لكني لا أحاول أن أستزيد. أعرف كيف أصبحت هذه التكنولوجيا عالما لا
حدود له، لكني أحاول أن أبقى بسيطا. لا أملك صفحة (فيسبوك) ولا
أستخدم الـ(تويتر)، لكني سعيد بأني أستطيع متابعة الأخبار وقراءة
ما أريد من أحداث».
·
هناك علاقة بين شكسبير والنص المطبوع أكثر مما هناك علاقة بين
شكسبير والإنترنت رغم أن هذا أصبح شائعا...
- ملاحظة صحيحة. ما زلت أفضل النص المطبوع ولا أكترث لقراءة رواية
إلا في كتاب مطبوع للغاية. أفضل الكتاب وأفضل المجلة والصحيفة
المطبوعة. مشترك في أكثر من مجلة وما زلت أشعر بالإثارة عندما يجري
إرسالها لي عبر البريد. أفتح الصندوق وأجدها هناك. حين كنت شابا
كان ذلك حدثا كبيرا (يضحك).
·
عندما أخرجت فيلمك الأول لحساب «باراماونت» عام 1992 وهو «ميت مرة
أخرى» كانت الشركة مشغولة بتحقيق أول فيلم لها من سلسلة «جاك رايان»
في ذلك الوقت...
- «نعم. كنت في الثامنة من العمر آنذاك (يضحك). نعم أذكر أنني
عندما جئت إلى هوليوود قبل أكثر من عشرين سنة بقليل لمتابعة العمل
على «ميت مرة أخرى»، كانت «باراماونت» تشعر بالإثارة لكونها تقوم
على إنتاج «صيد أكتوبر الأحمر» الذي كان الأول في سلسلة «جاك رايان».
·
هذا الإدراك كان صلتك الأولى بجاك رايان؟
- نعم. بعد ذلك، تابعت الأفلام التي جرى إنتاجها عن روايات كلانسي
والتي لعب بطولتها هاريسون فورد وبعد ذلك بن أفلك. أحببت في هذه
الأفلام فرادتها وتميـزها. أحببت شخصيتها الرئيسة. إنه إنسان عادي،
لكنه ذكي ولامع. لكن، ما جذبني أكثر للعمل في هذا المشروع هو أنني
وجدته فرصة للعمل على فيلم جاسوسي. هذا نوع لم أعمل عليه سابقا وهو
يثيرني.
·
ما الذي جذبك إليه تحديدا؟
- لقد استمتعت بفيلم يتحدث عن تبادل المعلومات الجاسوسية في هذا
العصر. النوع بأسره كذلك لأن روايات كلانسي ثرية جدا بشخصياتها.
حين تخرج فيلما منها تجد أنك تستطيع أن تشتغل على كل هذه الشخصيات،
فكلها مثيرة التأليف وعميقة الشأن»
·
الدور الذي اخترته لنفسك هو دور فيكتور، ذلك العميل الروسي. لماذا
اخترت هذا الدور تحديدا؟
- أعجبني فيه أنه دور يمنحني الفرصة لأمثل شخصية غير شخصيتي. كريس
باين وكيفن كوستنر كانا في المكانين الملائمين لهما كممثلين.
كلاهما أميركي يمكن قبوله على هذا النحو. كوني آت من المسرح وكوني
إنجليزيا، جعلا من المستحسن أن أقوم بدور الروسي.
·
كيف تخرج وتمثل في الوقت ذاته؟ ليس أنك الوحيد الذي فعل ذلك، لكن
بخبرتك المسرحية وبمنوالك المختلف من الأداء هل هناك وقت لاستحضار
دورك بالصورة التي ترضى عنها؟
- أولا أستدعي ممثلا صديقا اسمه جيمي يوويل ظهر معي في الكثير من
أفلامي وأطلب منه أن يراقبني ليتأكد من أنني أفعل الشيء الصحيح.
لكن الأساس في ذلك ولكي أجيب عن سؤالك المثير للاهتمام، هو أنني
أحضـر نفسي قبل التصوير. أتدرب على الدور جيدا حتى أكون جاهزا
لكيفن كوستنر وكريس باين حين تجمعنا المشاهد المشتركة. لكني أريد
العودة إلى السؤال الأول: واحد من التفاصيل التي أعجبتني في شخصية
فيكتور هو أنه من عمري أنا. لقد عاش الفترة السوفياتية وشهد
التحولات التي تبعت انهيار النظام السابق ولا يزال يشعر بالنقمة
على أميركا لأنه يعتقد أنها كانت السبب فيما حدث للإمبراطورية
الروسية. هذا كله ثري، وثري على نحو شكسبيري.
·
هل تستطيع أن تصفه بالشكسبيري أو هو من تراث تشيخوف؟
- هناك القليل من شكسبير فيه بلا ريب. لكنه يمتلك قليلا من كآبة
تشيخوف. إنه يعلم أن الوقت يمر وأن أيام حياته باتت معدودة، لكنه
مؤمن بأن الفرصة واتته للانتقام لابنه الذي قتل في الحرب الأفغانية
ولوطنه الذي تغيـر شأنه. هذا الانتقام على كآبته هو ما يبعثه على
الحركة والسعي. أكاد أقول علي الأمل في تسديد ضربة انتقام ضد
الغرب.
·
هناك مشاهد لمدينة موسكو، من بينها المشهد الذي نرى فيه جاك رايان
يتوجـه مع زوجته (كيرا نايتلي) لمقابلة فيكتور الذي دعاهما لذلك.
مشهد مثير بكامله، خصوصا أن هناك خطر أن يكتشف فيكتور حقيقته في أي
وقت... هل جرى التصوير في موسكو فعلا؟
- صورنا مشاهد كثيرة، لكن معظمها للشوارع والمباني والسير في بعض
الأحياء. لكن المشاهد الداخلية التي تتحدث عنها صورت في مونتريال
وفي باينوود ستديو. المشاهد الخارجية هي أكثر ما استخدم مما صورناه
في موسكو. إنها مدينة تبني نفسها من جديد وهناك حركة وطاقة وحياة
اجتماعية نشطة.
·
جاك رايان في هذا الفيلم يحارب من أجل ماذا؟
- لقد حاولنا أن نوحي بالإجابة. لم أكن أريد عميلا أميركيا يحارب
على طريقة فلاش غوردون. الوطنية مهمـة، لكننا اليوم في عالم أكثر
تعقيدا. أردت جاك رايان أن يكون إنسانا ذكيا وأن يحب وطنه على نحو
مخلص وواضح وليس على نحو عاطفي. السؤال الذي أردنا طرحه هنا هو إنه
إذا كنت تحب وطنك فعلا، فعليك أن تحب الآخر. عليك أن تسعى إلى
السلام ولا أن تكون مهددا للسلامة.
·
من يأخذ هذا القرار؟ جاك رايان الذي عليه تنفيذ الأوامر أو الحكومة
ذاتها؟
- هذا هو السؤال الصعب الذي لم نرد أن نحكم على نتائجه. لم أسع إلى
الإجابة، بل لمجرد الطرح، لكنه واحد من الأسئلة. وبعضها يحمل مثل
هذا التناقض. مثلا في الفصل الأخير عندما يكتشف الأميركيون هوية
الإرهابي الذي دخل البلاد من خلال المعلومات التي وفـرها
الكومبيوتر سريعا، ينشأ سؤال من نوع: هل تهنئ الحكومة على نجاحها
هذا أو ستنتقد الوسائل المعتمدة لكشف مثل هذه الأسرار الشخصية؟ هل
هناك خرق لحقوق الإنسان أم لا؟ إنه فيلم مليء بالأسئلة لأن حياتنا
مليئة بالأسئلة، خصوصا في هذه الفترة القلقة التي نعيش ما يحدث
فيها في أي مكان من العالم باللحظة ذاتها ونتأثر على نحو كامل.
·
هناك قليل من هيتشكوك هنا؟ أليس كذلك؟
- ربما أكثر مما تعتقد. هيتشكوك كان الإلهام في هذا الفيلم لأني
معجب جدا بموهبته العظيمة التي أنتجت ما تستطيع تسميته «التشويق
القائم على المؤامرة» (Conspiracy
Thriller)،
وأحد الأفلام التي شاهدتها قبل أن أبدأ العمل هو «شمال شمال غرب»،
ودعوت كريس باين لمشاهدته أيضا بسبب أداء (بطله) كاري غرانت. كما
تعلم شخصية كاري في الفيلم هي لإنسان وجد نفسه ملما بقدر من
المعلومات بسبب خطأ في الهوية. ما يهمـني هو كيف تصرف. كيف أنه كان
الشخصية التي تتمحور حولها الأحداث وفي الوقت ذاته الشخصية الأكثر
عرضة للخطر. أردت كريس باين أن ينقل هذا الإحساس عبر أدائه.
·
أفلامك الأولى كانت مستوحاة، في غالبها، من أعمال ويليام شكسبير،
ثم توقـفت عنها وبدأت تحقق أفلاما مختلفة. هل السبب في ذلك أن
المرحلة الأولى كانت تأسيسية أو تمهيدا لما بعدها؟
- بدأت بأفلام شكسبيرية، لأنني مثـلت مسرحياته على المسرح أولا.
عندما أخذت أمثـل للسينما لم يكن علي أن أختار منهجا معيـنا. فقط
تمثيل الدور أو عدم تمثيله بصرف النظر عن مصدره. حين أدركت أنني
أريد الإخراج للسينما قررت أن أبدأ ببعض أعمال شكسبير وما زلت
أعتقد أنني سأعود يوما إلى أعماله. لكني لم أجد ذلك تمهيدا لنقلة.
فجأة، وجدت أن الفرصة متاحة لي لكي أحقق أفلاما أخرى وهذا ما قمت
به. |