مقدمة لمشاهدة فيلم "الأبدية ويوم واحد"
لأنجيلوبولوس
عمار محمود
"لا أعرف متى كان موتي، بدا لي دائما أني كنت عجوزا، في حوالي
التسعين، ويا لها من سنين، يؤكد مرورها جسدي من الرأس إلى القدم، و
لكن هذا المساء، وحيدا في سريري الجليدي، حيث السماء تسقط بكل
أضواءها فوقي، تلك التي غالبا ما حدقت فيها، منذ خطواتي الأولى
المتعثرة على الأرض البعيدة، يتملكني شعور أني أطول عمرا من الأيام
والليالي، ولأني خائف جدا هذا المساء لأصغي لتعفن نفسي، منتظرا
نوبات القلب الحادة، وتهتكات جدران الأمعاء، وانتهاء عمليات القتل
البطئ في جمجمتي، الإنقضاض على أعمدة راسخة، الجماع مع الموتى، لذا
سأحكي لنفسي قصة، سأحاول، وأحكي لنفسي قصة أخرى، أحاول تهدئة نفسي،
آنذاك أشعر أني عجوز، عجوز، أطول عمراً من اليوم الذي سقطت فيه
طالبا المساعدة، التي أتت، أو من الممكن أني في هذه القصة قد عدت
ثانية للحياة بعد موتي.. كلا.. ليس أنا الذي يعود للحياة بعد
موته".
صامويل بيكيت (النهاية)
بطل الفيلم شاعر يحمل بداخله مرض يبقيه خارج المستشفى يوما واحد،
وكأن الشاعر ذلك إعتقد بأن الموت على عتبات المستشفى ، فيحاول
جاهدا أن يتحرر من بضعة قيود وأن يخوض مغامرته الأخيرة في الحياة.
ثيودوروس أنجيلوبولوس المخرج اليوناني والشاعر بالكلمات في مبتدئ
الرحلة وبالصورة في منتهاها، الشاعر الذي تأثر بكتابات كازانتزاكيس
و يوريوس سيفيرس، الذي كان في بادئ الأمر متأثرا بالرومانسية ثم
إنتهى إلى الرمزية من مدارس الشعر، عندما بدأ الخيال يخصب شيئا
فشيئا، عندما إتسعت أفقه وتعددت مدارك الإبداع لديه.
للشعر مكانة خاصة في سينما أنجيلوبولوس أو لنقل، إن التجربة
السينمائية بالنسبة له كان مردها الشعر، أثر فيها تأثيرا لا يخطئه
القلب الواعي أو المشاهد المتمعن. في أفلام أنجيلوبولوس يتبدى
للمشاهد إيمان المخرج بالموسيقى الداخلية التي إستقى تجربتها كاملة
من كتاباته الخاصة ومن شعرائه الآنف ذكرهم، شعراء المدرسة الرمزية.
عند إستحضار "المدرسة الرمزية" في الأدب، لابد من إستحضار مميزات
تلك المدرسة الحداثية، بما أن مخرجنا كان من مريديها ولكي نكشّف عن
مداخل أخرى لسينماه الغامضة، تلك المدرسة التي لا تؤمن بالتلقين
المباشر ولا موسيقى الألفاظ الخارجية ولا النص الواحد.. في النصوص
الرمزية، لا تنتهي قراءة النص عند أول محاولة، لابد من السعي وراء
الكلمات ودلالاتها وتآويلها المتعددة ، للوصول إلى المعنى الأوسع
والأرحب، الذي يعمق تجربة المتلقي، وغزو تلك المساحات من الخيال
النضر، و إهتمامها بإستحالة القارئ وتوحده مع عناصر الأبيات
ومعانيها والصور الجمالية التي تتفجر بداخلها، لنجد عند
أنجيلوبولوس مثلا إختياراته للموسيقى التصويرية في فيلمه
"الأبدية.. ويوم"تتشذّر من سياق الفيلم، مرة عند محاولة التواصل مع
الجيران من مذياع أو مرة عند عبوره على أحد المقاهي وهكذا أو بأن
تكن مستقلة تماما لكنها في سياق التشذّر كـتغليف لحالة العزلة في
المشهد، لتتناغم مع الثالوث المقدس من ممثل ومنظر و حركة كاميرا
بإحكام مفرط في إتقانه.
بعض المخرجين لا يجب على المشاهد أن يتلقى أفلامهم من خلال القصة
التي تحدث فحسب، بل عليه أن يستكشف العوالم الموازية أو لنقل، عالم
الصورة وعالم القصة المسرودة والعالم الموازي بكل تلك الدلالات
المشحونة التي تؤدي إلى شيء ما، أو تجيب عن أسئلة تم وضعها في سياق
الفيلم. عند أنجيلوبولوس القدرة على تخطي حدود القصة والولوج إلى
عوالم متعددة، وأنا كمشاهد أو كقارئ سوف أتحدث من خلال سياق الصورة
والإسترشاد ببعض العبارات التي تحدث بها أثناء أحداث الفيلم أبطاله
الهائمون.
مفتاح مثالي
لا توجد أبعاد لشخصيات أنجيلوبولوس في ذلك الفيلم سوى من سياق
الحدث، حدث أكبر يضم أحداثا أعمق، تتوالف كلها في تيمة مهيبة،
تجلجل في خيال المتلقي وتنبش فيه عن أماكن أقل إنارة.
المشهد الإفتتاحي في فيلم "الأبدية .. و يوم" (Eternity
and a Day (1998-
يضع نصب أعيننا سؤالا مباشرا وعلينا الإنتباه ، فقد يكون هو
المفتاح المثالي للولوج إلى العوالم الموازية في المشاهد اللاحقة
أو هو عنصر في عالم ما ضل طريقه وعلى المشاهد أن يضعه في مكانه
الصحيح ، أفتتح الحوار بداخل الفيلم بسؤال من طفل لآخر قائلا:
ماهو الزمن؟ ، يجيبه الآخر بأنه طفل يعبث بقطعة نرد على الشاطئ
هكذا قال له جده أو هكذا قال هرقليطس الحكيم اليوناني.
في المشاهد المقبلة ، يتأكد لنا تماما بأن الأطفال في سياق الفيلم،
هي الأزمنة المختلفة ، من ضمنها الزمن الذي إصطدم به أليكساندر
البطل بعد زيارته لابنته، الزمن يصطدم بك وتصطدم به ، تعتقد بأنك
من صنعه و اختاره، و لكنك دون أدنى وعي منك تسير بداخله وتتشرّبه
إلى أن تقترن به أبداً وذلك ماحدث.
بطل الفيلم شاعر ترك قصيدة غير منتهية ، والشاعر يبحث طيلة عمره عن
المعاني الصحيحة للكلمات، يمعن في إختيارها و شحنها بمشاعر متجددة،
يكتبها في قصائده لينير طريقا جديدا للمتلقي يحتوي معنى آخر أو
جديدا لكلمة ما، ومن خلال الفيلم، يحاول أن يورّث تلك المعاني التي
إنتقاها بعناية شديدة لأقرب الناس إليه لإبنته، يحاول أن ينقل لها
معنى الوفاء، ذلك المعنى النقي تماما، الذي إستبدله المخرج بكلب
وفي، وأي المخلوقات أوفى من الكلب، لكن ذلك الصراع بين الماضي
والحاضر، تلك الهوية التي تتقلقل، ذلك الإنفتاح على العوالم
الأخرى، يستدعي زوج ابنته لرفض ذلك المعنى، بحجة أنه لا يحب
الكلاب، ويسهب في ذلك بإخباره والد زوجته بأنه قد باع بيتهما
القديم، وكأنما يخبرنا المخرج عن تلك الأزمة الحاصلة في التواصل
بين الأجيال المتعاقبة، وتلك إحدى مميزات الفيلم، إتساع رؤية
المخرج، صدقها البالغ الشدة، إحكام إستخدامه للصورة وما تشير إليه،
جمعها لعناصر كثيرة، تدل على شيء يتسع ويستوعب تلك المشاهد،
المعنى، تغيّر المعاني من شخص لشخص، زمن لآخر.. إلخ.
مشهد الطفل
في بداية الفيلم يخبرنا المخرج عبر مشهد الطفل وهو نائم ، يخبرنا
من خلال ستائر مغلقة عن معنى آخر، في مقتبل عمرك لابد من إستعمال
قوتك، أو في صغرك كل شبابيك العالم مغلقة وعليك فتحها، عليك أن
تستكشف وأن تضع ذلك غاية وأن تسبر لها كل السبل.
في المشهد التالي معنى آخر، يتسلل الزمن من بين أعظم لحظات البهجة
لديك، أو زمن الفرحة ليس بطويل لتتمكن من التأمل والإستمتاع به،
وذلك من خلال ضحكات عبر ثواني معدودة من الأب والأم أثناء هروب
الإبن إلى الحياة ، المغامرة، الإستكشاف.
في أحد المشاهد أيضاً وما يؤكد رؤيتي، المشهد الأول لأليكسندر
الكبير ، ستائر مفتوحة بإستثناء واحدة، وذلك ما كان حاصل لبطل الفي،
لم يفتح كل الأبواب، كان يعاني من عزلة شديدة، بالرغم من حياة
الكتاب الملآنة بالمعجبين والمريدين، لابد من مشكلة ما تمنع ذلك
الكاتب من الإنخراط مباشرة في المشهد اللاحق، نستكشف أن المشكلة هي
إشكالية التواصل، بالرغم من جاره الذي يتواصل معه بالموسيقى، وبرغم
تشابه الأذواق إلى حد أن نفس الأسطوانة عند كليهما، لا يستطيع
الكاتب أن يمضي ويتعرف على ذلك الجار الذي لا يعلم إن كان طفلا
يعبث بالراديو قبل المدرسة أو أنه رجل حقيقي أو إلى آخر تلك
المعوقات التي يضعها أمامه كيلا يتقدم تلك الخطوة ويتعرف على جاره.
وفي مشهد بليغ تتسحّب الكاميرا من شقته في إحدى الأدوار العلوية
إلى أن تنظر من الشرفة على شرفة الجار المنخفضة ثم تقترب شيئا
فـشيئا بدون أن تدخل شقة ذلك الجار، حيث أن التفاعل الذي ينقصه
الإحتكاك والمشاركة منقوص، معناه غير مكتمل، أزمة أخرى في المعنى
لأليكسندر حاول أن يتخطاها لكن بمحاولة فاشلة، يخيب ظن نفسه.
نهاية مفتوحة
في الأحداث اللاحقة يتعرف على ذلك الطفل الصغير، ذلك الطفل الزمن،
الذي سيبدل حياة الكاتب أو يجعلها تستمر حيناً آخرا، يخوضون معا
إحدى التجارب السياسية عندما أختطف الطفل من قبل أحد المجرمين مع
آخرون لبيعهم، تلك الرأسمالية التي حاربها أنجيلوبولوس وأهال عليها
الكثير من الإنتقاد في أفلام عدة أو أثناء صناعته لأفلامه بعدم
إنصياعه لرغبات الشركات الكبيرة بالتعاقد معه حيث أن ذلك مضاد
لحريته ، وذلك تبدى في المشهد ، تم اختطاف الزمن الخاص بأليكساندر
، الطفل لا توجد أية معرفة مسبقة بينه وبين البطل ، ببشرته الشاحبة
وملابسه المهلهلة الصفراء، ثم يعرض ذلك الطفل على آخرون يملكون
الأموال، التي تستطيع أن تبدل الأحوال من سيء لأسوأ أو العكس في
أحيان قليلة ، يلاحقه أليكساندر إلى أن يبتاع الزمن بكل ما تبقى له
من مال في محفظته.
يستمر أليكسندر بصحبة الطفل الزمن، يهرب الطفل من الشرطة التي
تلاحقه ، والتي لا تلاحقه ، ذلك الإنطلاق واللا سكون ، ثم الإلتصاق
بصاحبه أليكساندر ، الذي يبدأ البكاء على الأطلال ويبدأ رحلة البحث
عن المعاني الناقصة من قصيدته بصحبة الطفل ، الذي أنقذه بثلاثة
كلمات "الغريب - آخر الليل - وردة ما"
تلك الكلمات التي كانت تنقصه.. تلك الكلمات التي قدمت إجابة رحبة،
ما هو الزمن؟، هو ما يشعر به الغريب ، حيث لا أثقل من وقع الدقائق
على شخص ضل أحبابه أو وطنه، ما هو الزمن؟، الوقت المتأخّر جدا، غسق
الليل، وقت الإبتهال والنظر إلى الوراء، ما هو الزمن؟، عندها نشعر
بالزمن، ذلك اللا مرئي، ذلك اللا مرئي.
يتنقل الزمن في الفيلم بسلاسة شديدة، لكي لا نشعر به، لكي يرسَّخُ
لدينا ما يريد المخرج في نهاية الفيلم، قد طرح من خلال أليكساندر
الشاعر مفهومه عن الزمن، ولكن بدون ان يصرّح به ، لكي يثقل المشاهد
و يحرضه على النبش في جنبات عقله ووعيه و لاوعيه عن معنى الزمن ،
هل عندما تشعر بالإغتراب، هل عند النظر إلى الوراء، ترك نهاية
الفيلم مفتوحة، وترك السؤال بدون إجابة قاطعة ، ليسأل المشاهد: ما
هو الزمن؟ |