الجزائري محمد الزاوي في فيلمه «عائد إلى مونلوك»
العودة إلى المكان المعادي
كاظم مرشد السلوم
بعد خمسين عاما على مغادرته سجن ومعتقل مونلوك في مدينة ليون
الفرنسية يعود مصطفى بودينة الى المعتقل ذاته ليروي قصة نضال،
وأعوام معاناة، ومطاردة شبح الموت إعداما بالمقصلة، المقصلة التي
ظلت فرنسا تستخدمها كأبشع وسيلة للإعدام الى فترة متأخرة من القرن
العشرين.
المكان المعادي، هو السجن، المنفى، الطبيعة الخالية من البشر،
الغربة، فكيف يمكن أن يحن إنسان إلى مكان معاد، عاش أسوأ أيام
حياته فيه، انه حنين الذكريات وتذكر الرفاق الذين أعدموا في هذا
المكان البشع.
إدانة تاريخية
الفيلم يقدم إدانة تاريخية إلى فرنسا ديغول، ديغول الذي وافق على
أحكام كثيرة بالإعدام، لكنه لا يوافق على طلب العفو الذي يتقدم به
محامو دفاع جبهة التحرير، بل يقول لهم" استمعت إلى طلباتكم، وسأرد
عليها لاحقا، سأرافقكم إلى الباب" لكن الأحكام تنفذ من مبدأ"
أن فصل رأس رجل أمر مقبول امام مبرر الدولة"، وكان ديغول هو الدولة
من خلال مؤسسة رئاسة.
المحكي مجرد تأريخ ناقص
يصل مصطفى بودينة الى المعتقل يرافقه مديره الحالي، السجن تحول الى
مكان للذاكرة، بعدما كان مكانا للموت.
لكن حتى هذه الذاكرة لا تعطي فترة اعتقال الثوار الجزائريين حقهم
بل تغيبهم، كل ما موجود فقط اربعة أسطر عنهم، على الرغم من إعدام
11 رجلا من العام 1956للعام 962 ، ففرنسا لا تريد أن تذكر بما يعبر
عن قسوتها ضد مناضلي الجزائر، ولا توجد جمعيات تطالب الدولة
بالاعتراف بهذه الفترة ، اذن المحكي هو مجرد تاريخ ناقص .
طلب العفو قد يكون سببا في سرعة تنفيذ الإعدام وليس محاولة للإنقاذ
، إذ ان تنفيذ الحكم يتم حسب الأسبقية، ومصطفى بودينة حكم عليــه
قبل الشاب ذي الثمانية عشر ربيعا خليفي عبد الرحمن .
يقول مصطفة بودينة "حين جاء الجلادون. كنا نسمع وقع أقدامهم، كان
من المفترض أن أكون أنا من يذهب للمقصلة، خليفي صرخ علي انهم يأتون
لأخذك، لكنهم توقفوا أمام زنزانته واقتادوه الى المقصلة" وتوالت
الإعدامات ووصل عدد من أعدم إلى 11 معتقلا ، كان التنفيذ يتم أمام
بقية المعتقلين، حين سقط رأس خليفي وبدأ ينط ككرة مطاطية، حاول
أحــدهم الانحناء عليه وتقبيله، لكن الحرس منعــــــوه .
خوف يومي طيلة فترة الاعتقال وأسوأها هي فترة ما بعد النطق بالحكم،
كل ليلة تطارد أشباح الموت المعتقلين، وقع خطى الحرس في الفجر تعني
أخذ أحدهم إلى المقصلة. التعذيب يمارس ضد الجميع وبعنف. في يوم ما
يستدعى مصطفى بودينة إلى غرفة مدير السجن ويطلق سراحه، وليأتي بعد
شهرين من ذلك اتفاق جبهة التحرير مع الحكومة الفرنسية لينقذ حياة
5000 معتقل من مقصلة الموت .
الفيلم الوثائقي ومهمة التوثيق
نجح محمد الزاوي، في توثيق فترة مهمة أراد لها البعض أن تغيب،
تعامل مع ذلك بحرفة كبيرة، خصوصا في انتقاء المتحدثين والشهود على
تلك الفترة، محامو دفاع فرنسيون، صحفيون ومؤرخون جزائريون
وفرنسيون. وبالتأكيد دخوله المعتقل وتصوير زنزاناته برفقة مصفى
بودينة، وفضحه وإدانته لقسوة الدولة او الجمهورية الفرنسية في تلك
الفترة .
التعامل مع البطل
لا يمكن أن يتصرف البطل الحقيقي في الفيلم الوثائقي بتلقائية من
دون تعامل محسوب بدقة من قبل مخرج العمل، والعلاقة الحميمة التي
تربط المخرج بالبطل. وثقة البطل بالمخرج هي التي تجعله يكون
تلقائيا في أدائه من دون خوف من الكاميرا، التي ربما يكون قد وقف
أمامها لأول مرة .
محمد الزاوي ترك بطله يتصرف بتلقائية، لم تكن ثمة أسئلة توجه إليه
، بل كان يتحدث في الوقت الذي يحتاج الموقف إلى حديث ويصمــت ليجعل
المكان المعـــــادي. جدران الزنزانات، أبوابها، هي التي
تتحدث. فكان أداء بطله متكاملا، وربما تكون لحظة حديثه عن اقتياد
أحد رفاقه إلى المقصلة بدلا عنه من أكثر اللحظات تأثيرا في الفيلم
.
عناصر اللغة السينمائية
لم يتوفر المخرج محمد الزاوي على إمكانيات إنتاج عالية، بل صور
فيلمه كاملا بكاميرا محمولة، جاءت حركاتها متناغمة مع الحدث
المروي، لذلك تشعر أنك لست بحاجة إلى أكثر من التصوير بهذه
الكاميرا وبهذه الطريقة. كل عناصر اللغة السينمائية متوفرة في
الفيلم، لكنها ضمن السياق البسيط، السهل الممتنع الذي أراده الزاوي
لفيلمه .
الجهد المبذول في انتقاء المتحدثين كان واضحا، خصوصا أن أكثر من
خمسين عاما مرت على الحدث. وبالتأكيد هناك صعوبة كبيرة في العثور
على شهود من تلك الفترة، والأصعب منها إقناعهم بالحديث .
استخدم المخرج ممثلا شابا يروي بعض أحداث تلك الفترة، استطاع أن
يؤدي بطريقة جيدة، يدعمه في ذلك فنان تشكيلي تتناغم رسوماته مع ما
يرويه البطل الشاب، وكان وجود الاثنين مبررا جدا لدعم رحلة العودة
الى مونلوك .
تأويل النص المرئي
ربما يكون النص المرئي الروائي هو الأكثر توفرا على تأويلات يمكن
للمشاهد قراءتها أو استشعارها بعد المشاهدة. وهو بالتأكيد أمريتوفر
عليه الفيلم الوثائقي كذلك، فكم مكان يشبه معتقل مونلوك ، وكم من
مناضل غيب ليس من قبل جلاديه فقط، بل من قبل بلده، وربما
رفاقه. وكم معتقل مثل الذي يتحدث عنه فيلم محمد الزاوي موجود الآن
في عديد البلدان العربية، يغيب حرية الناس ويخطف أرواحهم، لذلك
بالإمكان تأويل النص المرئي لمحمد الزاوي بتأويلات عدة ، تخضع
لثقافة ولفكر المشاهد .
أخيرا فان الفيلم الجزائري الوثائقي "العودة الى مونلوك " لمحمد
الزاوي فيلم مهم يؤرخ مرحلة مهمة من حياة رجال ضحوا بحياتهم
وحريتهم من أجل أن تنعم بــــلادهم بــالحـــرية وهــو مــا
تحقـــق فعــــلا . |